بوابة الوفد:
2025-06-24@20:56:33 GMT

خصائص الخطاب النبوى (2)

تاريخ النشر: 25th, July 2024 GMT

كان أبو الفتح عثمان ابن جنّى، صاحب «الخصائص»، يعتقد أنّ اللغة، بأصولها وأصواتها التى تمثلها الأبجدية، إنما تقدّم احتمالات لا نهاية لها من الألفاظ التى ترمز إلى معانى، وأن تقلبات اللفظ الواحد تؤدى إلى معان مُتقاربة اعتماداَ على ما كان قرَّره من وجود علاقة بين اللفظ ومدلوله؛ الأمر الذى يتأكد معه أن الألفاظ تقدّم صوراً ضئيلة جداً من المعانى، وأن المعانى على كثرتها تقدِّم صوراً ضئيلة جداً للحقائق، والحقائق كما تقدَّم فى عظمتها وجبرتها لا تدرك كل الإدراك، ولا يحاط بها كل الإحاطة وليس يشمُّ منها أحد رائحة سوى بمقدار ما تتجلى به عليه.


وأبلغ منه وأوضح وأقدر دلالة ما يقوله «عبدالقاهر» فى «دلائل الإعجاز» من أن الألفاظ لا تُعطى ما ورائها من الحقائق ولا تتجاوز مستواها، فكأنما هى محدودة بحدودها: (إنّما الألفاظ أدلة على المعانى، وليس للدليل إلا أن يُعلمك الشيء على ما يكون عليه. أمّا أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها؛ فما لا يقوم فى عقل ولا يتصوَّر فى وهم).
ويُلاحظ فى البيان النبوى خاصّة استواء الألفاظ مع المعانى مع الحقائق استواءً يتحوّل معه التعبير اللفظى إلى حقيقة ماثلة كأنك تراها وتسمعها بالحس المباشر والتجربة المشهودة.
هنالك تتحوّل الكلمات إلى حياة، وتُعاش الحياة فى ظلال من المعانى المتصلة بالحقائق، فلا يتصور فى الخطاب النبوى خاصّة وجود هوة وسيعة بين الحقيقة والمعنى ولا بين اللفظ والمباشرة العمليّة. تأمل وصيته عليه السلام من حيث قال: أكنز هذه الكلمات (اللهم إنى أسألك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد. وأسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك. وأسألك شكر نعمتك، وحُسن عبادتك. وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً. وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم؛ إنك أنت علام الغيوب).
ألفاظ فى كلمات غير أنها متصلة من طريق التجربة العمليّة بالحقائق من فورها، تباشرها التجربة؛ لتتحول خلاها الكلمة إلى حياة قائمة بالفعل، بل هى ألفاظ حقيقة لا تغايرها الحقيقة بل تباشرها وتمسُّها من قريب. وممّا جاء من خطبه صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه ابن جرير وابن كثير من خطب المدينة تركيزها على التقوى والتحذير من ضدها: (اتقوا الله فى عاجل أمركم وآجله فى السر والعلانية، فإنّه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن تقوى الله توقى مقته وتوقى سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضى الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله. قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا، وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حى عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا من ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم).
وكانت أول خطبة خطبها النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة، جاء فيها التحذير من غضب الله والتشديد على تجنب عقابه، (فمن استطاع أن يقى وجهه من النار، ولو بشق تمرة، فليفعل، ومن لم يجد فكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف).
ولم يعرف العرب خطاباً أقدر على البلاغة وجمال العبارة فى إيجاز لا يخل كما جاء فى الخطاب النبوى: ويظهر ذلك فى الكتب والرسائل التى كانت تصدر عن النبى، عليه السلام، كما يظهر فيما جدّ من تعبيرات وأساليب جديدة كقوله عليه السلام:» الآن حمى الوطيس»، «مات حتف أنفه»، «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، «إياكم وخضراء الدّمن»؛ إلى غير ذلك ممّا رواه الثقات أنه لم يسمع من أحد قبله عليه السلام؛ الأمر الذى لا يشك أحد فى أنه صلوات الله عليه بلغ الغاية فى الفصاحة؛ لأنه نبت من قريش وهم أفصح العرب، واسترضع فى بنى سعد وهم من الفصاحة بمكان؛ إلا أن ذلك لا يمنع من أن يُظاهر القرآن الوراثة والبيئة.
وليس من شك فى أن للقرآن الأثر الأكبر فى فصاحته عليه السلام؛ فلولاه لكانت فصاحته فى حدود بيئته، فلا نسمع منه مثل هذه المعانى الإسلامية فى تلك الأساليب القرآنية ممّا لم يكن يعرفه العرب، ولم يكن يختبروه.
وعليه؛ فالخطاب النبوى خطاب حقائق، دائم الصحة وصادقها، وهو حق فى حق من حق، وليس هو بخطاب لغة يتقرّر فيها الخطأ والصواب، والحق والباطل سواء، لأن اتصاله بالحقيقة يعجز اللغة ويمنعها عن الانحراف.
(وللحديث بقية)

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم الخطاب النبوي علیه السلام

إقرأ أيضاً:

نظير عياد: الخطاب الإفتائي المعاصر يتطلب الوعي بالواقع والانضباط بالمنهج

أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الخطاب الإفتائي في عالمنا المعاصر يمرّ بتحديات متسارعة، لا يمكن مواجهتها إلا بوعي دقيق بالواقع، وتفاعل رشيد مع مستجداته، وانضباط علمي رصين بالمنهج الصحيح، مشيرًا إلى أن الفتوى لم تعد مجرد استجابة لحادثة أو سؤال، بل أصبحت فاعلًا محوريًّا في ضبط حركة المجتمعات، وصناعة الاستقرار، وبناء السِّلم الأهلي، وهو ما يحتم على المفتين والمؤسسات الإفتائية أن يطوّروا أدواتهم وخطابهم بما يواكب تحولات العصر وتعقيداته.

جاء ذلك خلال الكلمة التي ألقاها اليوم الإثنين، في ندوة «مختبر الإفتاء» التي تنظمها هيئة الإفتاء بسنغافورة، بمشاركة عدد من المفتين والعلماء من مختلف دول العالم، ضمن مسار علمي رائد يهدف إلى تبادل الخبرات بين الجهات والمؤسسات الإفتائية، وإتاحة المجال للتلاقي العلمي وتطوير الأداء الإفتائي بما يتوافق مع خصوصيات المجتمعات وواقعها.

وأوضح المفتي، أن المؤسسات الدينية أصبحت مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتعزيز آليات التعاون العلمي، والتكامل الفقهي والإفتائي، في مواجهة خطاب العنف والكراهية، ومحاصرة تيارات التشدد والانغلاق، التي باتت تهدد بنية المجتمعات واستقرارها الداخلي، مؤكدًا أن وحدة المقاصد الدينية العليا يجب أن تكون الإطار المرجعي المشترك الذي يحكم أي اجتهاد أو فتوى تصدر عن الجهات المختصة، مشيدًا في هذا السياق بتجربة سنغافورة المتميزة في حفظ التوازن المجتمعي، وصيانة التعددية الدينية والثقافية، وهو ما يعكس وعيًا حضاريًّا ورؤية استشرافية لواقع العالم وتحدياته المستقبلية.

وأضاف مفتي الجمهورية، أن الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم تبنّت خلال السنوات الماضية رؤية شاملة تهدف إلى تطوير الخطاب الإفتائي، من خلال برامج التدريب والتأهيل، ومراكز الرصد والتحليل، والمراكز البحثية المتخصصة، إيمانًا منها بأن صناعة الفتوى لا تقتصر على الجانب النظري فحسب، بل تحتاج إلى دراسة متأنية للواقع وتحليل دقيق للمستجدات، مؤكدًا أن تجربة «مختبر الإفتاء» تمثل خطوة نوعية في هذا المسار، بما يتيح بناء خطاب ديني يتسم بالوعي والانفتاح، ويعالج قضايا الواقع بعيدًا عن الجمود أو الانفلات، ويتصدى للأفكار المتطرفة بأساليب علمية رصينة، تستند إلى أصول الشرع وقيم العقل والعصر معًا.

ونوّه، إلى أن المؤسسات الدينية اليوم ليست مجرد منصات للتعليم أو الإفتاء فحسب، بل هي مؤسسات استراتيجية تسهم في توجيه الوعي، وتشكيل الرأي العام، وتحقيق الأمن الروحي والاجتماعي، مشددًا على أن دار الإفتاء المصرية حرصت على أن تتحول من مجرد جهة تُسأل وتُجيب إلى مؤسسة بحثية معرفية لها حضور علمي وتأثير دولي واسع النطاق، وهو ما يعكسه التعاون البنّاء مع الدول الإسلامية، وفي مقدمتها سنغافورة، التي أثبتت أنموذجًا رائدًا في التنسيق والعمل المشترك من أجل ترسيخ ثقافة الاعتدال والعيش المشترك.

وتناول مفتي الجمهورية في كلمته، أبرز التحديات الجسيمة التي تواجه الخطاب الإفتائي المعاصر، مشيرًا إلى أن من أخطرها، تصدُّر غير المتخصصين لهذا المجال دون تأهيل شرعيّ منضبط، وهو ما يؤدي إلى تشويه صورة الإسلام وإثارة الفوضى في المجتمع، إلى جانب فوضى الفتاوى في الواقع الافتراضي، التي تُنشر دون أهلية علمية، وتُستخدم أحيانًا كأدوات للإفساد باسم الدين. كما حذّر فضيلته من الفتاوى التي تصدر عن جماعات العنف والتطرف، والتي شرعت التكفير والعنف واستباحت الدماء تحت مسميات دينية مزيفة.

وأشار أيضًا إلى خطورة التساهل والتشدد في الفتوى، باعتبارهما مسلكين يخلان بوظيفة الإفتاء الشرعية، إلى جانب ضعف التأهيل العلمي والروحي لدى بعض من يتصدّرون للإفتاء، وغياب المرجعية المؤسسية الموحَّدة في عدد من المجتمعات، مما أتاح المجال للفوضى الإفتائية وأفقد الناس الثقة في الخطاب الديني الرشيد، وهو ما يستوجب مضاعفة الجهود لإعادة الاعتبار للمؤسسات الرسمية وتكثيف برامج التأهيل والرقابة والمواكبة.

وفي ختام كلمته، عبّر المفتي، عن تقديره العميق للجهود المبذولة من قبل المؤسسات الدينية في سنغافورة، وحفاوة الاستقبال والتنظيم، مؤكدًا أن مثل هذه المبادرات تعكس إدراكًا عميقًا لحيوية الدور الديني في صناعة السلام العالمي، وترسيخ قيم الأخوة الإنسانية، والتعاون الحضاري، وأن "مختبر الإفتاء" بما يحتويه من أنشطة وبرامج ومداولات علمية، يمثّل منصة علمية مرموقة تسهم في بناء كوادر علمية قادرة على فهم العصر، وتقديم الفتوى بمنهج وسطي راشد، يجمع بين أصالة المرجعية وجِدّة الواقع، ويحمل في مضمونه رسالة السلام، وكرامة الإنسان.

وتأتي مشاركة مفتي الجمهورية في هذه الندوة، تأكيدًا على الدور الريادي لدار الإفتاء المصرية في تعزيز الحضور العلمي، والتنسيق الإفتائي بين مختلف الجهات المعنية بالشأن الديني، وإسهامًا فعّالًا في بناء الجسور الفكرية بين المجتمعات الإسلامية حول العالم، وتعميق مفاهيم الاعتدال والتسامح، ونقل التجربة المصرية الرائدة في مجال الإفتاء ومواجهة التطرّف، وهو ما يتكامل مع رؤية الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم نحو ترسيخ خطاب ديني رشيد يخدم حاضر الأمة ومستقبلها، ويُسهم في بناء عالم أكثر أمنًا وتفاهمًا وسلامًا.

اقرأ أيضاًمفتي الجمهورية يدين التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة «مار إلياس» بدمشق

مفتي الجمهورية يبحث مع وزير الأوقاف الجزائري سبل تعزيز التعاون في مجالات الإفتاء

المفتي: القرآن لم يقتصر في خطابه على تزكية النفس بل صاغ منظومة متكاملة لبناء الإنسان

مقالات مشابهة

  • إدارات أمن عدد من مديريات إب تحيي ذكرى الولاية
  • خطاب الحرب
  • أمن المحويت ينظم فعالية خطابية إحياءً ليوم الولاية وذكرى الهجرة النبوية
  • المفوضية تعلن النتائج الأولية لانتخابات «نقابة  موظفي الشؤون الاجتماعية»
  • برلماني: وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل تطور إيجابي يبنى عليه لإحلال السلام
  • نظير عياد: الخطاب الإفتائي المعاصر يتطلب الوعي بالواقع والانضباط بالمنهج
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • تبدّل في الخطاب السياسي لاستيعاب الحزب
  • الأزهر: الإسلام دعا إلى الإحسان للكائنات ورتب عليه الأجر والثواب
  • موقف الرئيس بري يُعَّول عليه