أحمدو همباتيه باه: رائد الأدب الشفاهي الأفريقي وحارس ذاكرة القارة
تاريخ النشر: 27th, July 2024 GMT
يعتبر أحمدو همباتيه باه واحدًا من أهم الكتاب والروائيين والمؤرخين الأفارقة، الذين قدموا مساهمات فكرية وثقافية متميزة غيرت النظرة العامة للقارة الأفريقية ومجتمعاتها، وحفظت تراث وتاريخ القارة التي اعتبرها الاستعمار الغربي مجتمعات بلا تاريخ ولا ثقافة ولا حضارة.
وذلك لأن التراث الأفريقي في غالبه تراث غير مكتوب، وإنما هو قصص عن بطولات الأجداد يكتبها الشعراء بلهجتهم المحلية، وتتداولها الأجيال في شكل قصص وأشعار وأغانٍ شعبية.
اهتم همباتيه باه منذ شبابه الباكر بالتراث والأدب الأفريقي الشفاهي، ودراسته وتحليله ومن ثم كتابته باللغات الحية، لا سيما باللغة الفرنسية، واستطاع بذلك أن يثبت أن أفريقيا لها تراث وثقافة عريقة وتاريخ ناصع ضارب في القدم، وأنها أسهمت وقدمت للبشرية الكثير، ولكنها تحدثت بلسانها المحلي، وحفظت هذا الموروث الحضاري الإنساني الضخم في أهازيج وأشعار وملاحم بطولية تنتقل شفاهية من جيل إلى جيل.
خاض همباتيه باه معارك كبيرة من على المنابر الدولية؛ بغية التعريف بالموروث الشفاهي الأفريقي، بالذات من على منبر اليونسكو. وقد أطلقت عليه اليونسكو لقب "العجوز المكتبة" لما يختزنه عقله من موروث ثقافي واجتماعي ضخم عن التاريخ الأفريقي. هذا الرجل العلم كُتب عنه كثير بالعديد من لغات العالم الحية، ولكن الكتابة عنه بالعربية قليلة جدًا، وهذا المقال محاولة للتعريف أكثر بهذا الهرم الثقافي والتراثي الأفريقي الفذ.
شعوب بلا حضارةمقولة "شعوب بلا حضارة" كانت عبارة مفتاحية في حقبة الاستعمار الغربي للقارّة، ذلك أن المستعمر- جهلًا منه بتاريخ هذه القارة الضارب في القدم – ادعى أن أفريقيا قبل الاستعمار لم يكن لها حضارة، وأن حملة الاستعمار الغربي للقارة، إنما هي عمل إنساني في المقام الأوّل بغية تعليم شعوب هذه القارة الحضارة.
وتبنى هذا المنطق الخاطئ العديد من السياسيين والمثقفين الغربيين، ودافعوا عنه، وذلك لأن التاريخ الأفريقي تاريخ شفاهي، ويستخدم اللغة المحلية. بل وزادوا على ذلك بأن هذه الشعوب لم تكن تعرف معنى الحكم والسلطة المركزية، وأنها شعوب أقرب إلى الهمجية، وأن جيوش الاستعمار الزاحفة على القارّة وجدت أرضًا بلا شعب ولا نظام حكم، واستولت عليها لتبني لأهلها حضارة وتصنع لهم تاريخًا مشتركًا.
هذه الحجة الداحضة تصدى لها عدد من المفكرين الأفارقة وقدموا أطروحات قوية أثبتت خطأ هذا المنطق المعوج، ومن أشهر هؤلاء المفكرين، السنغالي البروفيسور الشيخ أنتا ديوب الذي قدم في خمسينيات القرن الماضي أطروحته للدكتوراه بعنوان "الشعوب السوداء والحضارة".
وملخص رؤية الشيخ أنتا ديوب الذي درس الحضارة النوبية القديمة في وادي النيل، أن أقدم حضارة في العالم هي الحضارة النوبية، وأن النوبيين كانوا أفارقة، إذن فإن أفريقيا السوداء هي أصل الحضارة البشرية القائمة اليوم، وعليه فإن منطق الاستعمار بأنه جاء ليعلم الأفارقة الحضارة، هو منطق خاطئ ويسير عكس حقائق التاريخ والأنثروبولوجيا.
أما المفكر والباحث الاجتماعي الآخر فهو أحمدو همباتيه باه الذي درس الأدب الأفريقي الشفاهي وترجمه إلى الفرنسية ولغات حية أخرى، وأثبت أن الأفارقة لهم ثقافة وحضارة وتاريخ ضارب الجذور، وعليه فإن حجة الغرب لتبرير الاستعمار حجة داحضة. فمن هو أحمدو همباتيه باه؟
مدرسة تحت الأشجارولد المؤرخ والباحث الاجتماعي، أحمدو همباتيه باه في مطلع القرن العشرين، في حوالي العام 1900/1901 في منطقة ماسينا عاصمة مملكة الفولاني المشهورة في جمهورية مالي الحالية. ولد لأسرة من النبلاء، شديدة التدين، وشديدة الولاء للطريقة التيجانية.
ومثل كل أبناء جيله درس في طفولته القرآن الكريم، وتعلم الفقه والعلوم الشرعية واللغة العربية على يد شيخه الفقيه تشيرنو أبوبكر، الذي كان له أثر كبير في حياته والتزامه الصوفي.
التحق بالمدرسة الفرنسية وتعلم فيها، وكان نابهًا ومتميزًا، ولكنه وقف ضد إجبار الأفارقة على القتال إلى جانب المستعمر الفرنسي في الحرب العالمية الأولى. وتعبيرًا عن ذلك رفض الالتحاق بالمدرسة الثانوية الفرنسية الوحيدة في ذلك في الوقت في جزيرة غوري في السنغال.
وعقابًا له على ذلك الرفض تم نفيه إلى واغادوغو في مقاطعة فولتا العليا، المعروفة حاليًا باسم بوركينا فاسو، وكانت مقاطعة نائية وموحشة في مطلع القرن الماضي، ليعمل مترجمًا للحاكم الفرنسي هناك. كتب همباتيه باه عن تلك الرحلة المرهقة من باماكو عاصمة مالي إلى واغادوغو، ووصفها وصفًا دقيقًا في مذكراته بالفرنسية المسماة "نعم سيدي القائد".
حكى كيف كان الضباط الفرنسيون يركبون على الجياد الأصيلة بينما الأفارقة يمشون راجلين أمامهم وهم يحملون الأمتعة والزاد، ولمس لأول مرة قهر المستعمر للسكان الأصليين. كان يستمع لقصص وأهازيج العمال المرافقين للضباط الفرنسيين، التي تحكي تاريخ بلادهم التليد وقصص ملوكهم وأبطالهم الملهمة. وربما كانت هذه الرحلة هي التي حفزته على أن يتعمق في الأدب الشفاهي الأفريقي ويقدمه لاحقًا للعالم في قصص وملاحم رائعة.
كانت فترة عمله في واغادوغو مهمة جدًا في تشكيل فكره، واكتشاف نفسه، واستغل وقته في الجلوس مع زعماء القبائل والشيوخ والشعراء التقليديين والمغنين، واستمع إليهم بانتباه وهم يحكون له تاريخ أسلافهم وأبطالهم والملاحم الكبرى التي خاضوها.
لقد تعمق في الأدب الأفريقي الشفاهي وجمع تراثًا كثيرًا، ونذر نفسه لنقل هذا التراث إلى العالم، باعتباره ميراثًا للإنسانية جمعاء. وكتب عن تلك المرحلة الباكرة من عمره قائلًا: "لقد تعلمت وتخرجت في مدرسة الأدب الشفاهي الأفريقي العظيمة، وكنت أتلقى دروسي تحت ظلال الأشجار الوارفة".
في العام 1942، التحق كباحث بالمعهد الفرنسي لدراسات أفريقيا السوداء في السنغال "إفان". وما يزال هذا المركز، واحدًا من أهم مراكز البحث في القضايا الأفريقية، ويتبع الآن لجامعة دكار. في هذا المعهد تجلت موهبته في كتابة التاريخ الأفريقي الشفاهي باللغة الفرنسية، ومن أهم أعماله كتابه عن تاريخ مملكة الفولاني في ماسينا. وهو بحث غير مسبوق عن تاريخ قبائل الفولاني.
على منبر اليونسكوبعد استقلال بلاده، جمهورية مالي في العام 1960، التحق بمنظمة اليونسكو في باريس، واستغل هذا المنبر الدولي للدفاع عن الأدب الشفاهي الأفريقي، وكانت له صولات وجولات.
لقد أثار اهتمامه قلة الإلمام بالتراث الأفريقي الشعبي، لأنه ميراث غير مكتوب، وساءه جدًا وصف كثير من الغربيين للأفارقة بالأمية والجهل، وعدم المساهمة في إثراء الموروث الثقافي الإنساني. فانبرى للرد على هذه المزاعم، قائلًا: نعم قد نكون أميين لأننا لا نكتب، ولكننا لسنا جهلاء، نحن أصحاب ثقافة وتراث وتاريخ وأدب وحكمة وإيمان، ولكننا نعبر عن كل ذلك بلغاتنا المحلية التي عرفناها قبل قرون من معرفتنا للغة الغرب المستعمر.
وبدأ بحشد الدعم الأفريقي والدولي للحفاظ على التراث الأفريقي الشفاهي، وتصنيفه وكتابته وحفظه. وقال في هذا الصدد: "إذا كنا نؤمن بأن الميراث الإنساني لأي شعب هو ميراث لكل البشرية، فإن التراث الأفريقي إذا لم يجمع حالًا ويكتب على الورق، فإنه سيضيع يومًا ما من الأرشيف الإنساني الدولي". وأثمرت جهوده المضنية والمستمرة، بأن تبنت منظمة اليونسكو برنامجًا كبيرًا لجمع وكتابة التراث الشفاهي والتاريخ الأفريقي، وترجمته وحفظه، على غرار برنامجها المعروف بالحفاظ على الآثار النوبية القديمة.
لقد بذل أحمدو همباتيه باه جهودًا كبيرة من أجل إقناع اليونسكو بتبني برنامج جمع وحفظ التراث الشفاهي الأفريقي. وفي سبيل ذلك أطلق من على منبر اليونسكو عبارته المشهورة: "إن موت عجوز أفريقي يعني احتراق مكتبة بأكملها". وراجت هذه العبارة بشكل كبير، وترجمت للعديد من لغات العالم الحية، واتخذتها اليونسكو لتكون شعارًا لبرنامجها الضخم لجمع وكتابة التاريخ والتراث الشفاهي الأفريقي.
ويعتبر هذا البرنامج اعترافًا وتقديرًا من العالم للدور الذي قام به أحمدو همباتيه باه، وتتويجًا للمهمة الكبيرة التي نذر نفسه لها منذ شبابه الباكر، بأن يحفظ ذاكرة قارة كاملة من الضياع. وقد نال العديد من الأوسمة والميداليات والنياشين العالمية؛ تقديرًا لدوره في حفظ التراث الأفريقي.
لقد أثبت أحمدو همباتيه باه في كتاباته الغزيرة أن أفريقيا لها تاريخ عريق وثقافة ثرية، وزعماء عظام كان لهم سهم في إثراء التاريخ الإنساني. وأظهر في كتاباته البعد الروحي العميق للثقافة الأفريقية، وتأثير الإسلام والطرق الصوفية على فكر وثقافة وحياة الإنسان الأفريقي العادي، بالإضافة إلى القيم الأفريقية السامية، مثل: الشجاعة، والكرم، والصدق، والتواضع. إنه رجل جدير بالاحترام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات التاریخ الأفریقی الأفریقی ا تاریخ ا تراث ا
إقرأ أيضاً:
الترجمة الأدبية.. جسر غزة الإنساني إلى العالم
في عالم تعج فيه الأخبار العاجلة والصور القاسية، تقف الترجمة الأدبية كجسر إنساني حساس، يربط بين القلوب والعقول، وينقل معاناة الشعوب من وراء الجدران والصمت الدولي. غزة، هذه الرقعة الصغيرة التي أصبحت عنوانا للألم والمعاناة والجوع، تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أدوات تعبير تتجاوز الحصار، وتصل إلى وجدان الشعوب، لا سيما من خلال الأدب المترجم.
فالترجمة الأدبية ليست مجرد نقل لغوي، بل فعل مقاومة ثقافية وأخلاقية، تتحول عبره القصص والقصائد والنصوص الشعرية والنثرية من أصوات محلية إلى شهادات عالمية، تكسر التعتيم، وتعيد للإنسان الغزي صورته الحقيقية كفرد لديه أحلام وأوجاع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"غرق السلمون" للسورية واحة الراهب عبرة روائية لبناء الوطنlist 2 of 2من كلكتا إلى نوبل.. طاغور شاعر الطبيعة والحزن وفيلسوف الحياةend of listفي حديثه للجزيرة نت، يرى أستاذ الأدب والنقد الإنجليزي في جامعة الأزهر بغزة، مروان حمدان، أن الترجمة الأدبية تلعب دورا حيويا في إبراز البعد الإنساني بعيدا عن التجاذبات السياسية، وكشف التفاصيل اليومية للمعاناة من منظور شخصي وعاطفي، وتعزيز التضامن الدولي عبر إشراك القراء في معاناة وآمال الكتاب الغزيين، وإحياء الذاكرة الغربية حول النكبة والإبادة والحصار من خلال الأدب.
وتهدف الترجمة إلى نقل الأدب الفلسطيني إلى جمهور عالمي متنوع، لا سيما أعمال الكتاب من غزة، وبناء شبكات تضامن ثقافي عالمية عبر أعمال أدبية مترجمة، وتمكين الكتاب الفلسطينيين من التواجد في محافل أدبية دولية، وتعزيز الصورة الثقافية لغزة بوصفها حاضنة للإبداع، لا مجرد مسرح للحرب.
إن الترجمة الأدبية من غزة ليست عملا ثقافيا فحسب، بل شهادة على واقع إنساني يجب أن يسمع. وهي دعوة للعالم كي ينصت، لا إلى دوي الطائرات والصواريخ فقط، بل إلى صوت الشاعر والروائي.
وقد أكد على أهمية تسليط الضوء على الأصوات الأدبية والأعمال الإبداعية في قطاع غزة، من خلال ترجمة مختارات منها إلى لغات عالمية، لنقل صورة أعمق عن القضية الفلسطينية إلى العالم بلغات مختلفة، وفتح آفاق جديدة أمام المترجمين المهتمين بها، ودعم الكتاب والمترجمين الشباب، وتوفير منصات لنشر أعمالهم.
تمثل الكتابة الإبداعية في السياق الفلسطيني ضرورة ملحة، وسلاحا يعبر الأجيال ويخترق حدود اللغة نحو العالم، فهي ليست ترفا أدبيا، بل فعل مقاومة، وصرخة وعي، وذاكرة تحفظ ما يحاول المحتل طمسه.
إعلانإنها أداة لاسترداد الحق، وتثبيت الهوية، وعين لا تغفو في زمن المسخ الإعلامي والتزييف السياسي. فالكاتب الفلسطيني ليس مجرد راو، بل شاهد ومقاتل، وناقل لنبض شعبه بلغة لا تهادن ولا تساوم.
الشاعر حيدر الغزالي، الذي كانت له إسهامات جليلة في تسليط الضوء على أهمية القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعب الفلسطيني، وتعزيز السردية القائمة على الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، شارك في فعاليات أدبية كبيرة في فرنسا وإيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة.
وقال في حديثه للجزيرة نت: "كانت لي مشاركات أدبية من خلال نصوص شعرية عن القضية الفلسطينية والإبادة في غزة، فقد أسهمت مع مجموعة من الشعراء الغزيين، منهم يوسف القدرة، هند جودة، مروان مخول، علي أبو خطاب، الشهيد رفعت العرعير، نعمة حسن، الشهيدة هبة أبو ندى، دارين الطاطور، ويحيى عاشور، الذين شعروا بمسؤوليتهم تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الإبادة في غزة، في إصدار مجموعة شعرية مشتركة باللغة الإيطالية بعنوان (صراخكم من صوتي)، وكانت واحدة من أكثر المجموعات الشعرية مبيعا في إيطاليا".
وأضاف: "ترجمت لي قصيدة (أعدني إلى صباي) ونشرت على صفحات مجلة Ord Bild السويدية، وهي أقدم مجلة أدبية في السويد، كما ترجمت قصيدة (كلما خرجت من البيت أودعه) إلى اللغة المالايالامية، ونشر نص قصيدة (انتفاضة الشباب الحر في الجامعات) في جريدة (The New York War Crimes) الأميركية، التي كانت تصدر في وقت اعتصام طلاب الجامعات في أميركا ضد الحرب على غزة".
مقاومة الصمت واختراق الحدودوفي معرض رده على سؤال حول جدوى هذه الفعاليات الأدبية ودورها، أضاف: "الترجمة الأدبية ضرورة ملحة، وأداة لا بد منها لعبور المسافات واختراق الحدود نحو نبض الشارع، وصوت الإنسان البسيط، وحكاية الوطن المسلوبة. إنها الكلمة التي تقاوم الصمت، وتمنح اللغة حرارة الرفض، وكرامة البوح في وجه القهر.
وهي التي تواجه سردية الكذب الإسرائيلية، وتوقع على القاتل صفة الإجرام والدموية. فالكتابة في زمن الإبادة تتطلب انغماسا تاما في الوجع، للدفاع عن الروح البشرية، واقتحام أغوار آلامها، إلى درجة تتطلب أحيانا أن يتجاهل النص خلفيته القومية والوطنية، لصالح ما هو أعم وأشمل. والترجمة هي التي توصل النص إلى حده العالمي، وتطوع اللغات لخدمة أهدافها".
جوديث كيزنر، كاتبة وفنانة تشكيلية ألمانية، وعضو أكاديمية قصر العزلة في برلين، ومن أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين، أسهمت في إقامة مدرسة "زهرة أمل" للطلاب الفلسطينيين في منطقة المواصي.
ورأت في تصريحها للجزيرة نت أن "الكتابة الأدبية وترجمتها تمنح أهل غزة صوتا غالبا ما يتم تجاهله في السياسة. فمن خلال الكتب والقصص والقصائد، يتمكن الغرب من التعرف على تجاربهم الشخصية ومشاعرهم، وفهم معاناتهم بشكل أعمق، مما يسهم في اتخاذ مواقف أو القيام بأفعال من أجلهم".
وأضافت: "الترجمة الأدبية لا تنقل فقط أخبار الحرب والدمار في غزة، بل تكشف عن تفاصيل الحياة اليومية التي تستمر رغم كل شيء، وتجعل المعاناة ملموسة، وتعيد للضحايا أسماءهم وملامحهم، وتذكرنا بمسؤوليتنا تجاههم كأفراد ومجتمعات".
حكايات حية وشهادات موروثةإن الترجمة الأدبية من غزة ليست عملا ثقافيا فحسب، بل شهادة على واقع إنساني يجب أن يسمع. وهي دعوة للعالم كي ينصت إلى صوت الشاعر، والروائي، والأديب، لأن الأدب هو المصدر الإنساني الصادق لرصد ما يجري عبر العصور.
إعلانهذا ما قالته رئيسة الملتقى الثقافي وملتقى الأدب الفلسطيني في أوروبا، والمختصة في الترجمة الأدبية، نجوى غانم، وتروي للجزيرة نت كيف أسهمت في ترجمة جميع قصائدها التي كتبتها خلال الحرب على غزة إلى الإنجليزية والألمانية، تحت عنوان: "أغنية الحياة على تلة الذبح، قصائد الإبادة"، كما ترجمت القصيدة التي كتبتها ابنتها نيسان أبو القمصان بعنوان "خان حرب" إلى اللغة الإنجليزية.
كما شاركت في ترجمة كتاب "الوصايا: شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت" (2024)، الذي يضم 17 نصا لعدد من الكتاب الفلسطينيين، وقد جاء إهداء لروح الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت، التي ارتقت مع طفلها جراء قصف غادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد تضمن الكتاب لوحاتها كتعزية فنية وعاطفية.
كذلك ترجمت كتاب "الكتابة، كل ما ظل لي" للكاتبة الغزية الشابة دانا فليفل إلى الإنجليزية والفرنسية (2025)، وكتاب "48 قصة قصيرة فلسطينية" لـ 48 كاتبا فلسطينيا من الوطن والشتات إلى اللغة الإنجليزية، وغيرها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.
واعتبرت غانم أن هذه الترجمات الأدبية تمثل شهادات موروثة للغربيين، عرفوا من خلالها "قصة أبي اللاجئ المنكوب، وجدي الذي عاش ومات رافضا الخنوع والاعتراف بأنه لاجئ، ومعاناة جدتي، وقصصي على الحواجز العسكرية، والإبادة التي يعيشها شعبي".