مما لا شك فيه أن تطور الفن السينمائي ووصوله إلى العصر الرقمي وعصر الذكاء الاصطناعي قد رافقه تفاعل مشهود مع الأنواع الفنية والابداعية الأخرى مرورا بالأدب والفلسفة وعلم الجمال، فضلا عن التوأمة مع فن المسرح والموسيقى والفن التشكيلي والتفاعل الخلاق معها جميعا، وعلى هذا بقيت خصائص تلك الأنواع الإبداعية حاضرة في الأعمال السينمائية وعززت البناء الفكري والجمالي، كما عززت القصة السينمائية التي هي الركيزة الأساسية لما هو مروي إلى الجمهور العريض.

وعلى ذلك تفاوتت التجارب السينمائية لذلك التوظيف الإبداعي لخواص وعناصر الأنواع الإبداعية وطريقة تقديمها إلى الشاشة، لاسيما وأن ركيزة الفيلم هي الصورة وهو ما لا يسمح بأن تطغى أدوات أخرى على الإبداع في استخدام الصورة بكل غزارتها التعبيرية بوصفها ركيزة أساسية.

من هنا يمكن النظر إلى هذا الفيلم للمخرج الأرجنتيني اريل لوكو - وهو فيلمه الروائي الطويل الرابع في مساره السينمائي وفيلمه الأول الذي يخرجه تحت سقف هوليوود ويتم عرضه في صالات العرض في الولايات المتحدة - إذ يعمد المخرج إلى تقديم قصة سينمائية ساهم في كتابة السيناريو فيها إلى جانب ماريانا فريس، وخلال ذلك يعيدنا إلى ذلك النوع من الأفلام التي تنهل بغزارة من فن المسرح، وكان علامة ذلك في هذا الفيلم هو استخدام الحوار كركيزة مهمة في موازاة الصورة مع الاقتصاد في اختيار الأماكن وبما يقربنا من الشكل المكاني المسرحي فضلا عن اختيار شخصيات محدودة العدد وأقل من أصابع اليد الواحد لتقدم الأحداث الرئيسية في هذا الفيلم.

ها نحن مع إيما الممثلة كلارا كوفشيش وقد عانت من ظروف عائلية لتبحث عن عمل مناسب فتعثر على وظيفة الجليسة أو المساعدة الاجتماعية لما يفترض أنها امرأة كبيرة في السن وتعاني من اضطرابات في الذاكرة تقرّبها من الزهايمر، ولا يمضي كثير من الوقت في ذلك التمهيد حتى تجد إيما نفسها في منزل واسع وقديم ومتعدد الطبقات، وليس سواها وتلك المرأة المتجهمة السيدة بيلوف الممثلة فيرجينيا لومباردو، وسرعان ما تتكشف لها أنها شخصية صعبة وغريبة الأطوار.

وهكذا سوف تدور أغلب المساحة الزمنية للفيلم في دائرة الحياة اليومية للشخصيتين، وتعزيزا لذلك يحيلنا المخرج إلى التتابع اليومي وظهور التواريخ وتتابع الأيام؛ للتأكيد على مرور الزمن وعلى أننا في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينيات، وبالطبع لن يكون هنالك اختلاف كبير فيما إذا وقعت الأحداث في أي زمن ماعدا الإشارة إلى سقوط حائط برلين في العام 1989 ومراقبة المرأة العجوز بيلوف أخبار ذلك الحدث بنوع من الانزعاج الذي لا يقدم له المخرج -لاحقا- تبريرا فيما إذا كانت بيلوف ألمانية الأصل أو لا.

على أننا بعد ذلك الشكل المسرحي الذي أشرنا إليه، والذي يعتمد على حوارات مقتضبة بين الشخصيتين والدوران في حيز مكاني واحد، سوف نجد أنفسنا أمام دراما نفسية متصاعدة، فهذه المرأة العجوز لم تكن قط عاجزة ولا مصابة بالخرف بل إنها ند قوي لمن حولها، وأن عندها نوايا مبيتة عدوانية تجاه الآخرين، وهو ما سوف يتضح لاحقا في تصاعد أحداث الفيلم إلى منطقة الجريمة، ولأن مهمة تلك المرأة استدراج الفتيات الشابات والاعتداء عليهن واحتجازهن، ومنهن من تجد نفسها حاملا بعد عملية تخدير تقوم بها العجوز مع حارس مفتول العضلات.

هذه السوداوية سوف تطبق على الفيلم وتجد إيما نفسها محاصرة من كل جانب وأنها قد تم الإيقاع بها، وقد عزز ذلك استخدام المخرج ما درجنا على مشاهدته في أفلام الرعب من استخدامات للأماكن الواسعة متعددة الطبقات للمنازل القديمة، واستخدام الإضاءة والأصوات، وهو ما كانت إيما تراقبه وهي تدرك بالتدريج أن في هذا البيت أناس آخرون وليست كما ظنت أو قيل لها أنها تعيش مع العجوز لوحدها.

من هنا يتشعب البناء السردي من حوارات هي أقرب إلى الحوارات المسرحية القصيرة والمقتضبة إلى الانكفاء في حيز مكاني ضيق باتجاه دراما نفسية تختلط بالجريمة، وهو ما سوف يتصاعد لاحقا مع اكتشاف إيما ضحية أخرى وهي فتاة قد تم احتجازها وتكبيلها بالسلاسل، وهو ما يفاقم حالة الهلع التي تعيشها، وكونها مستهدفة من تلك العجوز بشكل خاص وبمعنى أنها تجهز على ضحاياها تباعا.

وأما إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر المهم في هذه الدراما الفيلمية، وهو الذي يرتبط بأداء الممثل في مثل هذه الأحداث والمواقف، فغالبا ما كنا نشاهد كيف تستخدم الشخصية ذكاءها في التخلص ممن يقوم بأسرها، وهو ما يحصل مع كلارا التي أصبحت أسيرة تلك العجوز الشريرة، وكانت في كثير من المواقف بيدها زمام الأمر، وبإمكانها أن تستخدم ما هو شائع من مطاردة القط والفأر؛ مما يدهشنا من ابتكار حيل تجعل من الشخصية الإيجابية الرئيسة تحرك الأحداث وتوجهها وتتقدم بالتدريج نحو التخلص من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، إلا أننا في هذه الدراما الفيلمية سوف نفتقد هذا الركن المهم ولا ندري ما سبب بناء الشخصية الرئيسة بهذا الشكل؛ فهي امرأة مستسلمة، مقاومتها ضعيفة لسجانتها، وحيلها ومخادعتها لا تكاد تذكر، لكنها في المقابل تنتقم من الحارس مع أن موته بطعنة واحدة كان مبالغ فيه، وكذلك توجيه ضربة للعجوز لكنها تنهض بعدها وكأنها لم تصب بشيء.

لعل هذه الخطوط الرئيسة في البناء الفيلمي عززت كون الفيلم من ذلك النوع من الأفلام قليلة التكلفة إنتاجيا؛ فالأحداث تقع في حيز داخلي هو ذلك المنزل الكبير، ولا توجد أحداث تقع في الخارج إلا مشهدا واحدا أو مشهدين وما عدا ذلك فسوف نجد انفسنا وكأننا على خشبة المسرح وننتقل من منظر إلى آخر وهو الحل الإخراجي الذي اعتمده المخرج ورسخه بتتابع الأحداث.

بالطبع فقد حشد المخرج خلال ذلك أدواته التعبيرية من الإضاءة وحركات الكاميرا والمونتاج لتعزيز البنية الدرامية في هذا الفيلم، فاستخدم مستويات الإضاءة الواطئة لإضفاء المزيد من الغموض على ما يجري من أحداث، وكذلك التوظيف المتنوع للإضاءة حسب مسارات الأحداث، ومن ثم استخدام حركات الكاميرا بما يتناسب مع المواجهات التي تقع بين الشخصيتين.

على أننا سوف نواجه إشكالية جديدة تتعلق بظهور ابنة العجوز بشكل مفاجئ لتدخل طرفا في ذلك الصراع في الدقائق الأخيرة من الفيلم، وكنوع من الحبكة الثانوية لكن ظهور الفتاة لم يغير كثيرا من مسار الأحداث سوى التأكيد بشكل ما أن تلك الفتاة شريكة لأمها في جرائمها، وهو ما سوف تسلط الشرطة الضوء عليه عن طريق تقارير تلفزيونية تشاهدها كلارا التي فتحت الأبواب للشرطة، فيما بقيت متوارية عن الأنظار لا أحد يعرف عنها شيئا.

إخراج / أريل لوكو

سيناريو/ أريل لوكو وماريانا فريس

تمثيل/ ايما كلارا كوفشيش ، السيدة بيلوف فيرجنيا لومباردو، الكسندر نيكولا كينت

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا الفیلم وهو ما فی هذا

إقرأ أيضاً:

معطيات إسرائيلية: أكثر من مئة ألف إسرائيلي مصابين باضطرابات نفسية بسبب الحرب

مع دخول العدوان الدموي شهره التاسع عشر، فما زالت تبعاته وآثاره بادية على جمهور الإسرائيليين، مما باتوا مختلين عقليا، ومرضى نفسيا، وغير أكفاء، فضلا عن تحولهم لمزيد من القسوة وغير الإنسانية.

أورين هيلمان، رئيس جمعية "كيشر" لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة، كشف أنه "منذ فشل الدولة في التصدي لهجوم السابع من أكتوبر 2023، يسير أكثر من 100 ألف إسرائيلي وإسرائيلية لا خدوش على أجسادهم أو وجوههم، لكن أرواحهم مليئة بالندوب، أرواحهم مجروحة، في الداخل، هم مُحطّمون، لا ينامون ليلًا، ويبكون نهارًا، ولم يتمكنوا من العودة لحياتهم الطبيعية لأكثر من عام ونصف".


وأضاف في مقال نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، وترجمته "عربي21"، أنه "وفقا لبيانات التأمين الوطني، بحلول السابع من أكتوبر تأثّر 7000 إسرائيلي لأعمال المقاومة المعادية، ولكن منذ الفشل وحتى اليوم، وقع 67 ألف آخرون لهذه الأعمال، وربما أكثر، وهناك 13 ألف جريح في صفوف الجيش، ويُتوقع أن يصل هذا العدد لـ20 ألف جريح آخر، إضافة لذلك، يُبلغ 12% من جنود الاحتياط في حرب "السيوف الحديدية" عن أعراض متعددة لاضطراب ما بعد الصدمة".

وأشار إلى أن "هذه البيانات المُقلقة تشير لتأثير نفسي خطير ودائم لخدمة الاحتياط في القتال، وتُثير تساؤلات جدية حول لياقة العائدين من القتال، ومدى استعداد الدولة لرعايتهم، وإذا جمعنا كل هذه الأرقام الصعبة فسنصل لأكثر من 100 ألف إسرائيلي يعانون من إعاقات جديدة بسبب فشل أكتوبر، ومعظمهم يعانون من إعاقات واضحة مثل اضطراب ما بعد الصدمة، وإعاقات ذهنية غير مرئية للعالم الخارجي، مستوطنون نجوا من مذبحة حفل "نوفا" بمستوطنة ريعيم صباح السابع من أكتوبر".

وأوضح أن "جميع هؤلاء الإسرائيليين ما زالوا يحملون ندوب المعركة، صحيح أنهم خرجوا سالمين أجسادًا، لكنهم محطمين أرواحًا، بعضهم فقدوا أطفالهم أو آباءهم أو عائلاتهم بأكملها، والأسوأ من ذلك كله أن المجتمع الإسرائيلي، لن يفهم ما حصل، بل وأكثر من ذلك، يعتقد أحيانًا أنهم مختلون عقليًا، مرضى نفسيًا، غير أكفاء، بل هناك وزراء قساة، غير إنسانيين، ومذيعون تلفزيونيون يستغلون إعاقة الإسرائيليين بسبب الحرب للسخرية منهم، واستبعادهم، وانتقادهم".

وأكد أن "التجاهل الحكومي العلني لهؤلاء المصابين بسبب الحرب، هو فشل اجتماعي ذريع، والمجتمع الإسرائيلي ليس أقلّ ذنبًا في هذا من الدولة، الأمر الذي يتطلب من الإسرائيليين عموما أن يخجلوا من مشاعرهم، وصعوباتهم، وآلامهم، وضعفهم، لأن هذه البيانات تتطلب أنه لابد من اتخاذ إجراء جذري، فإعادة التأهيل لا تكفي إطلاقًا، لأنها تساعدهم على استعادة عافيتهم، لكنها لا تُمكّنهم من مواصلة حياتهم".


واستدرك بالقول إن "الحكومة تُميز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة بسبب الحرب كسياسة مُمنهجة، لأن 50% منهم عاطلون عن العمل، ولدى الدولة نظام قانوني تمييزي بطبيعته، يصعب الوصول إليه، مع أن معظم هؤلاء المصابين ذوي الإعاقة شباب، ومُرجح ألا يتمكنوا من الدراسة أو العمل أو تكوين أسر أو الانخراط في المجتمع".

وختم قائلا إن "الإسرائيليين يعانون من قانون صادم يمنع المصابين باضطرابات الحرب وما بعد الصدمة، من العمل في رياض الأطفال، لأنهم يشكلون خطرًا عليهم، مما يجعل المجتمع الإسرائيلي يعاني من وصمة عار، لأن 48% منه لا يوافقوا على العيش بجوار شخص مصاب بإعاقة ذهنية أو توحّد، و61% لن يوافقوا على تأجير شقة لهم".

مقالات مشابهة

  • عنوان المرحلة.. أمريكا “العجوز” تواصل “حلب” الخليج مقابل أكذوبة “الحماية”
  • كارما.. عندما تطارد الأفعال أصحابها في دراما كورية آسرة
  • بعد تألقها في دراما رمضان.. وئام مجدي تنضم لبطولة «عكس عكاس»
  • عرض مسرحي تفاعلي في أسبوع عُمان للاستدامة
  • مجلس النواب يصدر بياناً بشأن الأحداث في طرابلس
  • بسبب الأحداث .. مصر للطيران تلغي رحلتها اليوم إلى مطار معيتيقة الليبي
  • الروائية رشا سمير: أكتب عن حكايات لم تُروَ بعد وأستلهم من التاريخ ما يضيف روحا للأدب
  • "المدينة البعيدة" يشعل محركات البحث ويتصدر تريند جوجل: دراما إنسانية تخطف القلوب
  • مناقشة مستجدات قوانين حماية الأسرة والطفل ومساءلة الأحداث
  • معطيات إسرائيلية: أكثر من مئة ألف إسرائيلي مصابين باضطرابات نفسية بسبب الحرب