الخرطوم- أعلن الجيش السوداني أمس الثلاثاء أن مجموعة مشتركة من الجيش وجهاز المخابرات تمكنت من إجلاء 5 راهبات وقسيس ونحو 20 من رعايا دولة جنوب السودان عقب تعرضهم لحصار قاس جنوب غرب الخرطوم استمر لأكثر من 15 شهرا تخللتها محاولات تصفية من قبل ما سماها الجيش بمليشيا الدعم السريع.

وبحسب بيان للجيش السوداني، فإن المجموعة التي تم إجلاؤها تنتمي إلى جمعية الساليزيان الكاثولكية الإيطالية، وظلت عالقة بمنطقة الشجرة جنوب غرب الخرطوم، ويعد منزلهم جزءا من مشروع خدمي تعليمي، وهو عبارة عن مجمع يضم حضانة ومدرسة ابتدائية، ويعرف المجمع بدار مريم .

لكن من هؤلاء؟ ولماذا تعرضوا لكل صنوف المعاناة؟ وكيف خرجوا في عملية في جوف الليل؟. هذا ما عكفت عليه الجزيرة نت خلال هذا التقرير الاستقصائي.

من هؤلاء ومن أين جاؤوا؟

هنا جنوب غربي الخرطوم مبنى كنسي متواضع وأنيق، في الوقت ذاته تعمل فيه 5 راهبات من جنسيات مختلفة ويشرف عليه جاكوب تليكادان القسيس الهندي الذي قضى نحو 40 عاما في السودان قادما من بوابة جنوب السودان.

هنا أيضا تريزا روشوكوسكا (69 عاما) راهبة من بولندا تتحدث نحو 4 لغات، لكنها نذرت نفسها للعمل التطوعي، وراهبتان من منطقة خير الله بالهند وهن آخر من التحق بدار مريم في عام 2022، رابعتهن من الهند والخامسة من دولة آسيوية اعتذرت عن الكلام واكتفت بالصمت. أخواتها يقلن إنها تعرضت لصدمة نفسية قاسية ففضلت أن تختلي بنفسها.

إلى جانب هؤلاء كان الشاب شان ميوم وهو في الثلاثين من عمره من دولة جنوب السودان، يقوم بالأعمال الإدارية والترجمة إن اقتضى الحال.

قبيل الحرب كانت دار مريم تشرف على رعاية نحو 70 طفلا معظمهم من دولة جنوب السودان، وبعضهم من فاقدي السند، لكن خدمات الدار توسعت عقب نشوب الحرب في أبريل/نيسان 2023 حيث باتت قبلة لبعض المدنيين الذين تقطعت بهم السبل عقب ارتفاع أصوات الرصاص.

هنا كانوا يقتسمون مع أهل الدار المتوفر من طعام وماء ونافذة اتصال عبر جهاز ستارلنك المرتبط بالقمر الصناعي في وقت انقطعت فيه كل شبكات الاتصالات في السودان.

الراهبة تريزا البولندية مع رفيقاتها (الجزيرة) يوم تحت القصف

تتذكر الراهبة البولندية تريزا التي تزحف نحو سنواتها السبعين وتتحرك مستندة إلى عصا للجزيرة نت "في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي كنا قد ألفنا أصوات الرصاص واتجاهاته.. الوقت ليلا لم يكن مسموحا لنا باستخدام الضوء الذي ينتجه جهاز طاقة شمسية مرفق بالمبنى نتحرك على ضوء هاتف صغير وكل ذلك مخافة أن نتعرض للقصف خاصة أن دارنا تجاور منطقة سلاح الذخيرة التابعة للجيش السوداني.. ارتفع صوت الرصاص وكنت وقتها في داخل دورة المياه خرجت مسرعة اكتشفت أن القصف هذه المرة شمل دارنا الصغيرة بحثت عن أسرتي فوجدت الطفل الصغير دانيال ينزف كان قد أصيب بشظية".

تكررت -بحسب تريزا- محاولة القصف مرة ثانية وأصاب الرصاص مدرسة مجاورة ولكن تريزا ترفض أن تتهم جهة محددة وتقول إنها لا تريد أن تخوض في السياسة.

لكن بيانا للجيش اتهم قوات الدعم السريع بالمسؤولية، في حين مضى مصدر آخر في سلاح الذخيرة في سرد التفاصيل كاشفا للجزيرة نت أن أحد منسوبي الدعم السريع حاول اقتحام الدار ليلا وهو في حالة سكر وتم القبض عليه بعد أن سبب حالة من الذعر وسط الراهبات.

البحث عن مخرج

بعد تلك التطورات فكر الراهب جاكوب تليكادان والراهبات الخمس في الخروج، حيث لم يكن القصف وحده هو المهدد إذ انقطعت خدمات المياه والكهرباء ومن بعدها الاتصالات، وتقول تريزا الأخرى (الهندية تريزا جوزيف 73 عاما) "في هذه اللحظات انقطعنا عن العالم باتت الحياة قطعة من الجحيم".

هنا حدث نقاش بين عدد من الجهات حول مصير الراهبات اللائي كنا مصممات للاستمرار في مهمتهن حيث تقول تريزا البولندية "مفترض أن نكون مع الإنسان في لحظات المعاناة ومعنا أسر وأطفال لمن نتركهم؟".

وكان يخشى جهاز المخابرات السوداني دفع الثمن الباهظ إن حدث السيناريو السيئ للراهبات والقسيس جاكوب، فهم  ضيوف على البلد وشهود عدول على تفاصيل الحرب والاعتداء على المدنيين، وكانت السلطات تمدهم بالمؤن وحفرت لهم بئرا وسمحت لهم باستخدام جهاز ستارلنك مرتبط بالقمر الصناعي.

 الصليب الأحمر والبابا

عقب تعرض دار مريم للقصف بدأت الكنيسة الكاثوليكية تشعر بالقلق على رعاياها في بلد بعيد حيث تحيط بهم الأخطار، وبداية من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي تم التنسيق عبر الصليب الأحمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والاتفاق على إجلاء مجموعة بيت مريم، وبالفعل خرجت المجموعة الأولى ولكن قافلتهم تعرضت لإطلاق نار تفرقت مسؤوليته بين الجيش السوداني وقوات الدعم، ولكن النتيجة كانت العودة للبيت القديم في حضن النيل الأبيض.

اقتضت العودة لدار مريم أن يوفر الجيش السوداني الحماية لهؤلاء خاصة بعد أصرت المجموعة على البقاء والصمود والاستمرار في مساعدة الناس، لكن القسيس جاكوب يقول إنه وبعد أن طال أمد الحرب وزادت معاناته الصحية وكل الراهبات المسنات تم التفكير في الخروج لتلقي قسط من الراحة والرعاية الطبية ثم العودة لميدان في مجال العمل الإنساني.

وتضيف الراهبة تريزا أن القرار كان صعبا بالنسبة لهم، لكن تم ترتيب الأوضاع على أن تقوم سيدة سودانية رفقة متطوعين بالاستمرار في المهمة خاصة أن قاطني الدار رفضوا المغادرة وقرروا البقاء.

الراهبة البولندية تريزا روشوكوسكا ورفيقاتها وعدوا أهل السودان بالعودة مجددا (الجزيرة) ليلة احتجاب القمر

تحقق الإجماع على إجلاء من أراد وترك من يفضل البقاء، معادلة مقبولة لكل الأطراف. زادت الكنيسة الكاثوليكية من التواصل مع كل الفاعلين في الشأن السوداني تجنبا لأي رصاصة طائشة. تم استعراض خيارات كثيرة من فريق الجيش والمخابرات لإجلاء المجموعة التي يتجاوز عددها 30 فردا. ولم تكن ساعة الصفر معلومة لأي من أفراد المجموعة، وقالت تريزا "لم نكن نعرف التفاصيل فقط عرفنا أن المهمة تقتضي احتجاب القمر، لكننا كنا على ثقة من الرجال الذين يتدبرون الأمر"، في إشارة للمجموعة العسكرية.

وفي 28 يوليو/تموز الماضي اكتملت كل الترتيبات نحو العاشرة ونصف مساء، تقول تريزا "تحركنا في مجموعات نحو شاطئ النيل الأبيض هذا يعني أن المسار مختلف هذه المرة.. تحقق شرط اختفاء القمر وكان النيل الأبيض هادئا كأنه أراد إكرامنا.. أخذوني على عجلة من شدة الظلام لم أكن أتبين ملامحهم.. شعرت بالرعب.. أي رصاصة في السماء كان يمكن أن تفسد كل الجهود.. طلب منا الصمت.. تحرك القارب دون استخدام المحرك حتى وصل إلى مسافة بعيدة في عمق النهر.. استغرقت الرحلة نحو ساعة، كانت بحكم الظروف المحيطة زمنا طويلا.. في أحيان كثيرة كان يتم إطفاء محرك القارب وينظر مرافقونا المدججين بالسلاح لأنحاء متفرقة".

أخيرا.. هذه أم درمان

تقول تريزا "أخذنا نفسا عميقا بعد وصولنا إلى الشاطئ الغربي من نهر النيل.. كانت هنالك سيارة تقف على جانب النهر.. تم أخذنا على عجالة لسيارة أخرى أوسع كانت في انتظارنا". لم تصدق تريزا ورفيقاتها حينما أبصرن النور في مدينة أم درمان، هنا توجد حياة وأمان وأناس يتحركون، شيء لا يصدق لمن عاش الخوف لأكثر من 500 يوم.

تم نقل الناجين إلى أحد المنازل الآمنة التي تتبع لإحدى الكنائس بأم درمان، وحصلوا على رعاية طبية أولية ووفرت لهم الأدوية المناسبة، قبل أن تتاح لهم الفرصة لرواية قصتهم للإعلام.

وأمس الثلاثاء، غادرت مجموعة دار مريم في طريقها لمدينة بورتسودان، تفرق الجمع لكن مع الحلم بالعودة.

الراهبات الهنديات الأربعة سيعدن للهند وكذلك رفيقهن جاكوب، في حين تريزا البولندية والتي فقدت جواز سفرها ستدبر أمرها مع السلطات السودانية وسفارة بلدها في القاهرة، لكن جميع الراهبات والقسيس جاكوب يعدون أهل السودان بالعودة للبلد الذي ألفوه وأحبوه. لكن هل يتحقق هذا الوعد وما زالت يوميات الحرب مستمرة في السودان. حرب يقول جاكوب والذي عاصر حروبا كثيرة إنها تختلف من غيرها من شدة التدمير في المنشآت واستهداف ممتلكات المواطنين.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجیش السودانی جنوب السودان الدعم السریع

إقرأ أيضاً:

الكوليرا تضرب السودان.. 172 وفاة و2700 إصابة خلال أسبوع

أعلنت وزارة الصحة السودانية الثلاثاء، عن ازدياد كبير في عدد الإصابات بالكوليرا في البلاد، حيث سُجّلت 2700 إصابة و172 وفاة خلال أسبوع واحد.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1600588014572-0'); }); وقالت الوزارة في بيان إن 90% من الإصابات سجّلت في ولاية الخرطوم حيث تعطّلت إمدادات الطاقة والمياه بشدّة في الأسابيع الأخيرة جراء ضربات بالمسيّرات نُسبت إلى قوات الدعم السريع التي تخوض حربا ضد الجيش منذ أبريل 2023.
أخبار متعلقة "وصلوا المملكة".. موريتانيا تنفي سقوط طائرة حجاج في البحر الأحمرالبديوي: قمة مجلس التعاون و"الآسيان" والصين تمثل حدثًا استثنائيًاوسُجّلت حالات أخرى في جنوب ووسط وشمال البلاد، ويعد وباء الكوليرا متوطنا في السودان لكنه يتفشى بشكل أسوأ بكثير وأكثر تكرارا منذ اندلعت الحرب التي أدت إلى تدهور البنى التحتية الهشة أساسا للمياه والصحة والصرف الصحي.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } حالات الكوليرا - رويترزالكوليرا في ولاية الخرطوموقالت الوزارة الثلاثاء الماضي إن 51 شخصا لقوا حتفهم جراء الكوليرا من بين أكثر من 2300 حالة تم تسجيلها على المدى الأسابيع الثلاثة الماضية، 90 في المئة منها في ولاية الخرطوم.
وشنّت قوات الدعم السريع ضربات هذا الشهر على أنحاء الخرطوم، بما في ذلك على ثلاث محطات للطاقة، قبل إخراجها من آخر مواقع كانت تسيطر عليها في العاصمة الأسبوع الماضي.
وأدت الضربات إلى خروج شبكة الطاقة ولاحقا المياه المحلية عن الخدمة، بحسب "أطباء بلا حدود"، ما أجبر السكان على اللجوء إلى مصادر المياه غير الآمنة.محطات معالجة المياهوقال منسق الشؤون الطبية لدى أطباء بلا حدود في السودان سليمان عمار في بيان "انقطعت الكهرباء عن محطات معالجة المياه ولم يعد بإمكانها توفير المياه النظيفة من النيل".
وقد يؤدي وباء الكوليرا الذي يتسبب بإسهال حاد ناجم عن تلوث المياه أو الغذاء إلى الوفاة، في غضون ساعات ما لم يحصل المصاب على العلاج.
ودفعت الحرب نظام الرعاية الصحية الهش أساسا في السودان إلى "نقطة انهيار"، بحسب منظمة الصحة العالمية.

مقالات مشابهة

  • السودان.. ألفان و729 إصابة بالكوليرا بينها 172 وفاة خلال أسبوع
  • الكوليرا تضرب السودان.. 172 وفاة و2700 إصابة خلال أسبوع
  • وسط تصاعد العمليات العسكرية.. الجيش السوداني ينفي تورطه في مذبحة “الحمادي”
  • السودان: أكثر من 170 وفاة بالكوليرا خلال أسبوع
  • خريطة السيطرة .. أي الولايات تقع تحت سيطرة الجيش؟
  • المؤتمر السوداني: وحدة خاصة تتبع للجيش قتلت أسرة كاملة بمنطقة صالحة
  • بتحرير الدبيبات الجيش السوداني افشل وابطل تحالف المليشيا والحركة الشعبية
  • الجيش السوداني يلحق هزائم بالميليشيا المتمردة في النهود وجبرة الشيخ
  • تحرير الخرطوم ..أهم حدث في تاريخ السودان الحديث
  • ترامب: لن ننشر الديمقراطية تحت تهديد السلاح بعد الآن.. ليست مهمة الجيش