بالرغم من الخسارة الكبيرة والقاسية التي مُنيت بها حركة حماس باستشهاد قائدها ورئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، رحمه الله، فإنها استطاعت، خلال بضعة أيام فقط، انتخاب رئيس جديد، حيث تولى يحيى السنوار "أبو إبراهيم" القيادة خلفًا له.
كان هذا الانتقال السريع لافتًا للكثيرين، خصوصًا في ظل الظروف والتحديات الكبيرة التي تواجهها حماس، سواء من حيث ضخامة المعركة التي تخوضها، أو استهداف قياداتها ومؤسساتها، أو حرمانها من حرية العمل في معظم البيئات العربية والعالمية، وصعوبة التواصل والاجتماع والتحرك، والمحافظة على السرية والخصوصية؛ مما يجعل إنفاذ العملية الانتخابية الشورية أمرًا بالغ الصعوبة.
بيدَ أنّ حماس، منذ تأسيسها، تمتّعت ببناء تنظيمي وشوري متماسك، وبآلية صناعة قرار مرنة قادرة على التكيف مع الظروف المعقدة للاحتلال والحصار في الداخل الفلسطيني، وظروف التشتت والتباعد خارج فلسطين.
عوامل مؤثرة في التَّصعيد القيادي أولًا: ساهم التكوين الديني الإيماني التربوي لكوادر الحركة وقياداتها في تسهيل العملية الانتخابية الشورية إلى حد كبير، مما خفف من حدة التدافع نحو تولي المواقع القيادية، إذ تعتبر القيادة مسؤولية وأمانة كبيرة يجب الوفاء بها، مع محاسبة المرء عليها أمام الله. ثانيًا: كما أثرت التجربة الشورية والانتخابية الداخلية لمدرسة الإخوان المسلمين، التي تنتمي إليها حماس، في صقل تجربة الحركة والبناء عليها. ثالثًا: وضوح المبادئ والمنطلقات العقائدية والفكرية والدعوية والسياسية والنضالية أسهم في وجود قواعد فهم مشتركة لدى معظم الكوادر والقيادات، مما جعل هوامش الاختيار والتفاضل القيادي محدودة، مركزة على الخبرة والكفاءة والتجربة، ما دام البرنامج واحدًا تقريبًا. رابعًا: لم تقع حماس تحت وطأة "الزعيم الخالد" ولا "الرئيس المؤبد" ولا الرمزية القيادية "المقدسة"، وسمحت لوائحها ودينامياتها بمحاسبة الجميع، وحتى سحب الثقة إن استدعى الأمر (وإن لم يحدث ذلك عمليًا). خامسًا: الآليات الانتخابية المعتمدة لا تسمح للقائد بتولي القيادة لأكثر من دورتين متتاليتين (ثماني سنوات)، وهي آلية تنطبق على رئيس الحركة وعلى رؤساء المناطق أو الأقاليم (غزة، والضفة، والخارج)، وحتى أعضاء القيادة أنفسهم لا يجوز لأي منهم تولي المنصب نفسه لأكثر من دورتين متتاليتين. وقد وفّرت هذه الآلية استعدادًا نفسيًا لدى القيادات للنزول عن مواقعهم، والانتقال إلى مواقع ومسؤوليات أخرى، أو إفساح المجال للتوريث القيادي، وإعداد قيادات بديلة وإظهار رموز جديدة. سادسًا: ربما أسهم في "تنقية وتصفية" العملية الانتخابية والتَّصعيد أن العمل القيادي في حماس طوال المرحلة السابقة وحتى الآن قائم على "المغرم" وليس "المغنم". التقدم للقيادة في ظروف العمل لفلسطين والعمل المقاوم المسلح، ومجابهة المشروع الصهيوني، والمعاناة من خصومة الأنظمة العربية والنظام الدولي للتيار الإسلامي ولخط المقاومة، تعني عمليًا التضحية بالنفس والوقت والمال، وربما التحول إلى قيادي برسم "الاستشهاد"؛ ولذلك فليس ثمة ما يُتنافَس عليه من "حُطام الدنيا". سابعًا: ومن العوامل التي ساعدت على دينامية العملية الانتخابية أن حماس تنظيم واسع كبير، زاخر بالكفاءات والكوادر في الضفة الغربية وقطاع غزة والخارج؛ وأن الكثير من قياداتها الكبيرة ظلت معروفة ومؤثرة وفاعلة على المستوى الداخلي ولها دورها في صناعة القرار، دون أن تكون بالضرورة معروفة سياسيًا أو إعلاميًا؛ مما أعطى الحركة نوعًا من صمام الأمان الداخلي، وقدرة على تقديم هذه القيادات للبروز العلني إن استدعى الأمر.ومع ذلك، فليس أعضاء حماس مجموعة من "الملائكة"، والنقاط المشار إليها أعلاه تُخفّف التدافع القيادي لكنها لا تلغيه بالضرورة، ولا تمنع وجود اختلافات في الاجتهادات والأولويات وتقييم الرجال وأدائهم، وفي إعطاء أوزان أكبر أو أقل لبعض المعايير المرتبطة بالسابقة في الحركة، وبالعلم والكفاءة والخبرة والانسجام الشخصي والجغرافيا والاحتكاك والتعايش المشترك.
غير أن حماس تجاوزت كافة استحقاقاتها الانتخابية منذ تأسيسها وحتى الآن بقدر كبير من الانسيابية، وسرعان ما كانت تلتف حول القائد الجديد، حتى لو كان ثمة اجتهادات واختلافات في إطار الأداء الشوري في أثناء العملية الانتخابية.
ربما كانت حماس واحدة من التنظيمات والفصائل القليلة في العالم العربي التي عَبَرت كافة الاستحقاقات الانتخابية منذ تأسيسها وحتى الآن بشكل منتظم ودونما توقف، بالرغم من أنها من أكثر التنظيمات والفصائل تعرضًا للملاحقة والمطاردة. وهذا يعني أن العملية الشورية الانتخابية أصيلة في بنيتها وتكوينها.
قيادة حماسفي حماس، لم تكن الرمزية الكبيرة تعني بالضرورة تولي العمل التنفيذي. فعلى سبيل المثال، فإن شخصية الشيخ أحمد ياسين ورمزيته الكبيرة كقائد مؤسس وراعٍ للمشروع، لم تكن تعني بالضرورة توليه القيادة التنفيذية للحركة، غير أنه ظل "أبًا روحيًا" وملهمًا للحركة حتى استشهاده، رحمه الله.
وعندما أعلنت حماس عن نفسها في ديسمبر/كانون الأول 1987، كان الشيخ أحمد ياسين حاضرًا في القيادة، لكن الذي كان يتولى إدارة مكتب قيادة غزة هو الأستاذ عبد الفتاح دخان، وكان يدير أيضًا مكتب الداخل (الضفة والقطاع)، وهو مكتب كان يتبع جهاز فلسطين برئاسة الأستاذ خيري الأغا (المقيم في الخارج)، الذي كان يتبع بدوره قيادة تنظيم بلاد الشام في الأردن برئاسة الأستاذ عبد الرحمن خليفة.
منذ تشكيل حماس وحتى 1993، ظل خيري الأغا أول رئيس لها في الداخل والخارج، حتى استقال، فحلّ مكانه نائبه د. موسى أبو مرزوق، الذي تابع القيادة حتى 1995 عندما اضطر لمغادرة الأردن، ولم يجد مكانًا مناسبًا للإقامة في العالم العربي، فعاد للولايات المتحدة حيث قُبض عليه. فحلّ مكانه نائبه خالد مشعل، الذي تولى رئاسة الحركة في الاستحقاقات الانتخابية التالية، حتى 2017، حيث أُقرّ في عهده قرار الاكتفاء بولايتين متتاليتين للرئيس، وانتخب بعده إسماعيل هنية بتوافق كبير في استحقاق 2017، وفي التجديد للمرة الثانية 2021.
انتخاب السنوارعندما استشهد هنية، كان قد بقي على انتهاء ولايته الثانية نحو عام واحد، وكان قد سبقه إلى الشهادة نائبه صالح العاروري في أوائل يناير/كانون الثاني 2024. ولذلك، لم يكن مستغربًا أن تتجه الأنظار إلى رئيسي الحركة في غزة، يحيى السنوار، وفي الخارج، خالد مشعل. ولأن مشعل كان قد عبَّر قبل طوفان الأقصى بعدة أشهر عن عدم رغبته في العودة لقيادة الحركة؛ فإن السنوار كان مرشحًا طبيعيًا متوقعًا لقيادة الحركة.
مركزية قطاع غزة في العمل المقاوم وقيادة حماس لها، ومعركة طوفان الأقصى التي أطلقتها حماس من القطاع، والنموذج البطولي الذي تقدمه غزة تحت قيادة السنوار، في مواجهة عدوان صهيوني وحشي وتحالفٍ عالمي من قوى كبرى، وحالة الإجماع لدى حماس في الداخل والخارج على استمرار الصمود والمواجهة، ورفع درجة التحدي في وجه العدوان إثر اغتيال هنية… كل ذلك كان يصبُّ في اتجاه انتخاب السنوار. لذلك، لا غرابة في حصول توافق داخلي على اختياره.
السنوار من أصحاب السابقة، ومن القيادات الكبيرة في حماس منذ ثمانينيات القرن الماضي، فقد كان له دور أساسي في تشكيل جهاز أمن الدعوة سنة 1983 بقيادة عبد الرحمن تمراز. وفي سنة 1986، تولى السنوار رئاسة منظمة "مجد" التي تمّ تشكيلها كقوة عسكرية ضاربة تتبع الجهاز الأمني؛ وكانت مهمتها مقاومة الفساد والمفسدين، ثم تشعَّبت مهامها إلى مقاومة العملاء وغير ذلك.
اعتقل السنوار سنة 1988، وحكم عليه بالسجن أربعة مؤبَّدات، وتولى في السجن مواقع قيادية من بينها رئاسة الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس، وأُطلق سراحه في صفقة وفاء الأحرار سنة 2011. وفي السنة التالية، انتخب عضوًا في قيادة حماس في غزة، ثم انتخب رئيسًا لحماس في القطاع في دورتي 2017 و2021.
السنوار معروف بصلابته وقوة شخصيته، وطبيعته الجادة العملية وأنه صاحب قرار. وقد أسهمت ميوله وخبرته الأمنية العسكرية في اهتمامه القوي بهذا الجانب، وانسجامه مع إخوانه المعنيين بإدارة هذا العمل، وقد ظهرت تجليات هذا الانسجام بشكل واضح خلال معركة "طوفان الأقصى".
والخلاصة بشكل عام، أن حماس ستواصل عملها المؤسسي، فقد سبق لها أن فقدت قادة كبارًا مثل الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وإبراهيم المقادمة، وإسماعيل أبو شنب، وأحمد الجعبري، وجمال منصور، وجمال سليم، ويحيى عياش، ومع ذلك، لم تتراجع الحركة بل زادت قوة واتساعًا مع مرور الزمن.
حماس ليست حركة قائمة على الرموز أو الأفراد، وإنما على الفكرة، وقادتها الجدد يبنون على إنجازات من سبقوهم. لذا، فإن مراهنات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والاحتلال الإسرائيلي على إضعاف حماس هي مراهنات خاطئة، وقد ثبت فشلها.
وعلى الأرجح، فإن استشهاد هنية سيعطي مزيدًا من الإلهام والدفع للحركة للاستمرار في مشروع المقاومة، والسير على خطى شهدائها وشهداء شعبها وأمتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات العملیة الانتخابیة حماس فی رئیس ا
إقرأ أيضاً:
ضوابط صارمة لتلقي التبرعات في الحملات الانتخابية البرلمانية.. وإلزام بالإفصاح الكامل
أقرت الهيئة الوطنية للانتخابات مجموعة من الضوابط الصارمة التي تحكم تلقي التبرعات خلال الحملات الانتخابية لمجلس النواب، بما يضمن الشفافية والانضباط المالي في تمويل الدعاية الانتخابية للمرشحين الأفراد أو القوائم الحزبية.
ووفقًا للقواعد المنظمة، فإن التمويل الأساسي للحملة الانتخابية يجب أن يكون من أموال المرشح الخاصة، ويجوز له بعد ذلك تلقي تبرعات نقدية أو عينية، ولكن فقط من أشخاص طبيعيين مصريين أو من الأحزاب السياسية المصرية.
السيسي يهنئ المستشار الألماني بفوزه في الانتخابات ويؤكد رفض تهجير الفلسطينيين: مصر وألمانيا شراكة قوية في زمن الأزمات تعرف على الفئات المحرومة من التصويت فى الانتخابات وفقًا لقانون مباشرة الحقوق السياسية حد أقصى للتبرعات.. والإخطار إلزاميحددت الهيئة أن قيمة التبرع سواء كان نقديًا أو عينيًا، لا يجوز أن تتجاوز 5% من الحد الأقصى المسموح به للإنفاق على الدعاية الانتخابية، وذلك سواء جاء التبرع من فرد أو حزب.
ويُمنع بشكل قاطع تلقي تبرعات تتجاوز هذه النسبة، ويُعد ذلك مخالفة انتخابية تستوجب المساءلة.
كما ألزمت الهيئة كل مرشح بإبلاغ اللجنة العليا للانتخابات، عن طريق لجنة انتخابات المحافظة التابع لها، بتفاصيل التبرعات، على أن تشمل أسماء المتبرعين من الأشخاص أو الأحزاب وقيمة كل تبرع.
فتح حساب مصرفي رسمي للدعاية.. وتقييم التبرعات العينية
في إطار الضبط المالي الكامل، يُشترط على كل مرشح سواء كان فرديًا أو ضمن قائمة حزبية، أن يقوم بفتح حساب مصرفي في أحد فروع البنك الأهلي المصري، أو بنك مصر، أو أحد مكاتب البريد المصري، يُخصص فقط لإيداع الأموال والتبرعات الموجهة للدعاية الانتخابية.
وفي حال وجود تبرعات عينية يتعذر تقديم فواتير معتمدة لقيمتها، تتولى وزارة العدل من خلال مكتب الخبراء مهمة تقييم القيمة النقدية لهذه التبرعات، وذلك لتحديدها بدقة ضمن الحدود القانونية المسموح بها.
البرلمان يقر تعديلات تشريعية جديدة للانتخابات
يأتي تطبيق هذه الضوابط التنظيمية في ظل التعديلات التشريعية الأخيرة التي أقرها مجلس النواب، خلال جلسته العامة المنعقدة برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس المجلس.
وقد وافق المجلس على مشروعي قانونين مقدمين من النائب عبد الهادي القصبي وأكثر من عشر أعضاء المجلس، حيث شملت التعديلات:
تعديل بعض أحكام قانون مجلس النواب الصادر بالقانون رقم 46 لسنة 2014.تعديل قانون تقسيم الدوائر الانتخابية لمجلس النواب الصادر بالقانون رقم 174 لسنة 2020.تعديل بعض أحكام قانون مجلس الشيوخ الصادر بالقانون رقم 141 لسنة 2020.ضمانات الشفافية والعدالة الانتخابية
تهدف هذه الضوابط إلى تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص بين المرشحين، ومنع أي محاولات لاستخدام المال السياسي أو التلاعب بآليات الدعاية الانتخابية. كما تعزز من ثقة الناخبين في نزاهة العملية الانتخابية.
وتواصل الهيئة الوطنية للانتخابات التأكيد على أن أي مخالفات لهذه الضوابط سيتم التعامل معها بمنتهى الحزم، طبقًا للقوانين المنظمة، لضمان أن تكون الانتخابات البرلمانية المقبلة نموذجًا للنزاهة والانضباط المؤسسي.