ليلة سقوط كورسك.. هل غيَّر غزو الأوكرانيين لروسيا شكل الحرب للأبد؟
تاريخ النشر: 18th, August 2024 GMT
في السادس من أغسطس/آب الجاري، شنَّت القوات الأوكرانية هجوما مباغتا غير مسبوق على الأراضي الروسية سيطرت خلاله على عشرات البلدات في مقاطعة كورسك، فيما وُصف بأنه أكبر حملة ضد الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. وبحلول يوم 15 أغسطس/آب، أعلن القائد العام الأوكراني أولكسندر سيرسكي أن بلاده أنشأت مكتب قائد عسكري في كورسك "للحفاظ على القانون والنظام، وضمان الاحتياجات ذات الأولوية للسكان".
منذ اللحظة الأولى للعملية، رجح الكثيرون، وفي مقدمتهم الروس، أن ما يحدث ليس إلا اختراقا بسيطا سيلتئم سريعا مع إرسال الدفاعات الروسية إلى كورسك، لكن رغم مرور زهاء 12 يوما، لا يزال الأوكرانيون متمركزين في كورسك، بل ويتقدمون يوما بعد يوم، لكن تقدمهم بات أبطأ في الأيام الأخيرة، مع متوالية من السيطرة والسيطرة المضادة على البلدات بين الأوكرانيين والروس.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"خاوة".. العالم كما يراه يحيى السنوارlist 2 of 2التشيّع.. قوة إيران الناعمة في سورياend of listعلى جبهة منفصلة، تحافظ القوات الروسية على وتيرة هجومها المرتفعة نسبيا في عدة مناطق، منها دونيتسك في شرق أوكرانيا، ما يعني أن القيادة العسكرية الروسية لا تزال تعطي أولوية للتقدم في شرق أوكرانيا حتى مع الضغط في كورسك، لكن نظرة بسيطة على معدلات إسقاط القنابل الانزلاقية الروسية على منطقة دونيتسك تُبيِّن أن طائرات الروس لا تعمل بطاقتها المعتادة فوق المنطقة، ما يعني أن عددا منها سُحب إلى جبهة أخرى. على الجانب الآخر، سحبت كييف وحدات من ألوية متعددة بعضها كان رابضا في أكثر أجزاء خط المواجهة سخونة، حيث يستمر القتال بين الطرفين بلا هوادة.
عبور الحدودللتغلب على هذه المعضلة، قام الجيش الروسي على ما يبدو بنقل عناصر مختارة من الوحدات الروسية من منطقة دونيتسك للتعامل مع التوغل الأوكراني في كورسك، لكنه تجنب سحب الوحدات العسكرية الروسية المنخرطة في القتال ضمن القطاعات ذات الأولوية في المنطقة بسبب المخاوف بشأن إبطاء وتيرة العمليات الروسية، بحسب مركز دراسات الحرب الأميركي.
لكن ذلك لا يعني أن الروس لا يواجهون مشكلة، إذ يعتقد فريق من الخبراء أن القيادة العسكرية والسياسية في روسيا لم تكن مستعدة لحدث من هذا النوع، بسبب اطمئنانها إلى اتفاق ضمني مسبق مع القوى الغربية على أن استخدام أوكرانيا الأسلحة الغربية لاختراق الحدود الروسية "يرقى لأن يكون مقدمة لحرب نووية". ونتيجة لذلك، أخفق الكرملين على ما يبدو في التخطيط لاحتمال حدوث توغل أوكراني كبير في روسيا، وتعامل مع الحدود الروسية مع شمال شرق أوكرانيا باعتبارها جبهة كاملة منذ بداية الحرب خريف عام 2022، وبالتالي لم تُوضع خطة طوارئ للتعامل مع أحداث من هذا النوع.
ومن المرجح أن الأوكرانيين استخدموا أسلحة غربية في الهجوم على كورسك. وقد صرحت وزارة الدفاع البريطانية مثلا أن كييف يمكنها استخدام المعدات والأسلحة البريطانية "بما يتماشى مع القانون الدولي للدفاع عن نفسها"، مؤكدة أن القيود مفروضة على استخدام أسلحة معينة في "غزو" الأراضي الروسية، وفي مقدمتها صواريخ "ستورم شادو" بعيدة المدى. ويعني ذلك أن القوات الأوكرانية لا يزال بإمكانها استخدام الأسلحة البريطانية الأخرى في عملياتها "الدفاعية"، مثل دبابات تشالنجر التي استُخدمت بالفعل في التوغل في منطقة كورسك. في مواجهة ذلك، سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وصف العملية بأنها "استفزاز يتطلب ردا مضادا"، مع الإشارة إلى حلفاء أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) قائلا: "الغرب يقاتلنا بأيدي الأوكرانيين".
في السياق ذاته، كشفت مصادر أميركية أن البيت الأبيض "منفتح" على إرسال صواريخ كروز بعيدة المدى جو-أرض مشتركة من نوع "جاسم" (JASSM) إلى أوكرانيا، لكنه لم يتخذ قرارا نهائيا، كما تشير تقارير إلى أن البنتاغون يعمل مع أوكرانيا لضمان استخدام طائرات "إف-16" بالشكل الأمثل في العمليات الجوية أعلى المنطقة، وضمان قدرة الطائرات على إطلاق الصاروخ الذي يبلغ وزنه 1200 كيلوغرام ويحمل رأسا حربيا شديد الانفجار بوزن 400 كيلوغرام.
يأتي ذلك جزءا من محاولات الولايات الولايات المتحدة على مدى عامين تجزئة سلاحها المفترض إرساله إلى أوكرانيا لقتال الروس على شكل قطع صغيرة متدرجة في القوة والمدى لتجنب استفزاز موسكو مرة واحدة، بدءا من السماح بتمرير أسلحة تعمل في نطاق منطقة "خاركيف" فقط، ثم السماح للأوكرانيين باستهداف المنطقة الحدودية مع روسيا، ثم تزويد الأوكرانيين بأنظمة صواريخ متحركة أو ذات مدى أبعد قادرة على الوصول إلى الأراضي الروسية في الوقت الحالي.
إستراتيجيا، لم تتكشف بعد كامل أهداف "الغزو" الأوكراني لمنطقة كورسك أو مآلاته، ولا يزال الروس أنفسهم يتعاملون مع الأمر بحذر شديد. ولا تُعَد كورسك منطقة ذات أهمية إستراتيجية أو عسكرية في روسيا، وبالتالي فإن السبب الأرجح لتلك الهجمات هو الضغط النفسي على الروس الذي قد يضطرهم في مرحلة ما لإرسال قوات مكثفة إلى المنطقة، وبالتالي تخفيف الضغط عن الجبهة الشرقية بالنسبة للأوكرانيين، ولو بعد حين.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن الأوكرانيين يريدون أن يُثبتوا لحلفائهم في الغرب أن اختراق الحدود الروسية يمكن أن يُسرِّع من وتيرة إنهاء الحرب إذا وُضع هذا الملف على طاولة المفاوضات. وفي حال نجحت القوات الأوكرانية في البقاء لفترة أطول داخل روسيا، دون أن تدفع الأخيرة لكسر عتبة استخدام السلاح النووي أو تصعيد المعارك بشكل غير متوقع، ربما يقنع ذلك الأميركيين والأوروبيين بمنح أوكرانيا الأسلحة التي يحظرها الغرب حتى الآن مع تلاشي الخوف من تجاوز الخطوط الروسية الحمراء.
حرب الأوكرانيين "الخاطفة"تُسلِّط هذه التطورات الضوء على المشكلات "التكتيكية" المعقدة التي تواجهها موسكو في ساحة المعركة الروسية. ولا تكمن مشكلة روسيا فقط في أنها أخطأت تقدير نِيَّات الأوكرانيين في عملية استثنائية واحدة، ولكن في سوء التقدير والتجاهل المتكرر لنقاط قوة الأوكرانيين في هذه الحرب، والتعامل معها على أنها مجرد "طفرات مؤقتة".
فبحلول منتصف عام 2022، كانت أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها تحت السيطرة الروسية، ومنها بلدة خاركيف، القريبة من الحدود الروسية، وصاحبة الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، فهي ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، وتُعَد مركزا صناعيا ولوجستيا مهما، كما أن تضاريس المنطقة وبنيتها التحتية جعلتها مركزا رئيسيا للتحكم في طرق الإمداد وخطوط الاتصال مع القوات الروسية. لذلك كانت استعادة خاركيف هدفا أساسيا بالنسبة إلى كييف، على المستويين العملي والرمزي (المعنوي) كليهما. وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، شنَّ الأوكرانيون هجوما مضادا سريعا تمددت خلاله القوات بسرعة إلى داخل خاركيف، مستغلةً نقاط الضعف في الخطوط الروسية، واستعادت أراضي كبيرة وقتها، في عملية مستلهمة جزئيا من تكتيكات "الحرب الخاطفة".
والحرب الخاطفة هي إستراتيجية عسكرية طوَّرها الفيرماخت الألماني "القوات المسلحة النازية"، واستُخدمت على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، وتُركِّز على تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة باستخدام هجمات سريعة الحركة ومنسقة تشارك فيها مختلف الفروع العسكرية، وتستهدف نقاط الضعف في خطوط العدو لتخترقها، ومن ثم تتمدد إلى داخل المنطقة المراد السيطرة عليها.
بشكل مماثل، يُنظر إلى هجوم خيرسون، الذي شنَّته القوات الأوكرانية في أواخر 2022 وأوائل 2023 بهدف استعادة منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا والقريبة من شبه جزيرة القرم والبحر الأسود، على أنه يحمل بعض بصمات الحرب الخاطفة، حيث أجرت القوات الأوكرانية استطلاعا واسع النطاق، وجمعت معلومات استخباراتية عن المواقع الروسية والتحصينات وتحركات القوات، ومن ثم استخرجت نقاط الضعف، ثم وجهت ضربات مدفعية لمستودعات الإمدادات الروسية ومراكز القيادة والبنية التحتية الحيوية. بعد ذلك بدأ الأوكرانيون هجوما منسقا متعدد الجوانب شاركت فيه فئات مختلفة من الأسلحة، وفي مواجهة الضغط المستمر وخطر التطويق، بدأت القوات الروسية انسحابا إستراتيجيا من المواقع الرئيسية في خيرسون، حيث تراجعت عبر نهر دنيبرو لإنشاء خطوط دفاعية جديدة على الضفة الشرقية.
كان تقدُّم الأوكرانيين سريعا وحاسما، ما أعطى هذه المعركة بعضا من سمات الحرب الخاطفة، لكنها (وكذلك معركة خاركيف) لم تكن "حربا خاطفة" بالمعنى المفهوم، حيث كان جزء كبير من الإستراتيجية العسكرية لأوكرانيا دفاعيا في المقام الأول، بهدف السيطرة على الأراضي وصد التقدم الروسي بعد الاختراق، بدلا من القيام بعمليات هجومية بحتة على الطريقة الأصلية للحرب الخاطفة. أضف إلى ذلك أنه على عكس الحرب الخاطفة، التي تعتمد على تحقيق التفوق الجوي والحفاظ عليه، شهد الصراع في أوكرانيا مجالا جويا متنازعا عليه، حيث استخدم كلا الجانبين الطائرات بدون طيار على نطاق واسع، لكن لم يحقق أيٌّ منهما الهيمنة الجوية الكاملة.
العملية كورسكويبدو أن التكتيك نفسه استُخدم خلال الاستيلاء الأوكراني على كورسك (دون تجاهل عامل السلاح الغربي وعدم تأمين المنطقة بشكل كافٍ). ووفقا لقناة تلغرام العسكرية الروسية "ترويكا"، استخدم الأوكرانيون التكتيكات التي اختبروها سابقا في خاركيف ولكن على نطاق أصغر. بدأت الأمور بحرب خاطفة إلكترونية، حيث قام الأوكرانيون بإسقاط المسيرات الروسية المسؤولة عن الاستطلاع والمراقبة، ويُعتقد أن ذلك حدث عن طريق مسيرات اعتراضية جديدة مرتبطة إلكترونيا برادار الدفاع الجوي، بعد ذلك أُدخلت أجهزة تشويش قصيرة المدى إلى الخط الأمامي لتستمر عملية التعتيم لأطول فترة ممكنة، وجرت برمجة هذه الأجهزة ببيانات جُمعت مسبقا عبر وحدات استطلاع الحرب الإلكترونية.
كانت نتيجة ذلك توقفا تاما لعمل المسيرات الروسية المستخدمة لتحديد الأهداف وتوجيه المدفعية، هذه المسيرات كانت دائما السبب في نجاح المدفعية الروسية، حيث تحدد الهدف بدقة ثم تُضبط المدفعية والأسلحة الأخرى باتجاهه، وتشير بعض التقارير إلى أن لها الفضل في تدمير قرابة ثلثي الدبابات التي فقدتها كييف خلال الحرب.
ومع تحييد المدفعية الروسية من خلال طمس أهدافها، دخلت أسراب من المسيرات الأوكرانية لضرب الدفاعات المستقرة في كورسك، بما في ذلك الخنادق الأرضية المحصنة، بدقة شديدة مع وابل كثيف من الضربات، بعد ذلك تقدمت القوات البرية لمسافة آمنة عبر الأرض التي أمَّنتها للتو، ومن ثم تحضر معها أجهزة التشويش، وتبدأ العملية الخاطفة نفسها من جديد، ويستمر التقدم للأمام عبر التكتيك نفسه.
وفي حين أن الروس يمتلكون بالفعل مسيرات يمكنها تحييد هذا النوع من العمليات، فإن عاملَيْ السرعة والمفاجأة هما السببان الرئيسيان اللذان يُعزى إليهما تأخر رد الفعل الروسي، أضف إلى ذلك أن "تنظيف" السماء الروسية من المسيرات الأوكرانية يتطلب وقتا، وهو العامل الحاسم في العمليات الأوكرانية كلها، حيث تؤمِّن مسار التقدم بسرعة، مع وجود قوات في الخلفية تعمل على السيطرة على المناطق التي أمَّنتها.
مكامن الهشاشة الروسيةتنتمي كل هذه التكتيكات الحربية الأوكرانية إلى جعبة ما يُعرف بـ"الحرب الهجينة"، وتعني الحرب التي توظف مزيجا بين القوات والأدوات النظامية المعروفة (جنود ودبابات ومدفعية وطيران) إلى جانب تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل حروب العصابات وعمليات الكر والفر ونصب الكمائن، وتخريب البنية التحتية مثل الجسور والسكك الحديدية، والاغتيالات. هذا وتستخدم كييف تكتيكات الحرب الهجينة لجسر فارق القوة مع القوات الروسية الأكبر والأكثر تجهيزا، مستفيدةً من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع القوى الغربية.
على سبيل المثال، في عملية خيرسون، شنَّت القوات الأوكرانية هجمات صغيرة النطاق مستهدفةً الخطوط الخلفية الروسية، فنصبت كمائن للدوريات الروسية، وهاجمت طرق الإمداد، واستخدمت "المقاومة المدنية" لتزويد الاستخبارات بتحركات القوات الروسية. وفي ماريوبول، استخدم المقاتلون الأوكرانيون، بما في ذلك كتيبة آزوف المكونة من الحرس الوطني الأوكراني، المجمعات الصناعية في المدينة، مثل مصنع آزوفستال للصلب، معاقل لمقاومة التقدم الروسي لعدة أشهر، واستخدموا الأنفاق تحت الأرض ومواقع القنص والفخاخ المتفجرة لصد قوة روسية أكبر بكثير، يعني ذلك أن أوكرانيا اعتمدت على نمط غير متكافئ في قتالها مع الروس، فاستخدمت في جانب منها المزايا الطبيعية للحروب الحضرية، إلى جانب التوظيف المتقن للمسيرات التجارية الصغيرة الرخيصة، التي عُدِّلت للاستخدام العسكري، كانت هذه المسيرات ضرورية للاستطلاع والاستهداف وحتى الهجمات المباشرة على المواقع الروسية، ورغم تكلفتها المنخفضة فإنها تسببت في أضرار مكلفة، وأبقت الجنود الروس في درجة من القلق وعدم اليقين بشأن المخاطر القادمة من السماء
تكمن أزمة روسيا الرئيسية في أنها لم تتوقع خوض حرب استنزاف طويلة ومكلفة إلى هذا الحد في اللحظة التي عبرت فيها قواتها الحدود إلى أوكرانيا، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الكرملين هو أن موسكو بصدد شن عملية خاطفة تستغرق قرابة أسبوعين إلى عدة أسابيع وتنتهي بسقوط كييف سريعا، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما.
وبحسب ورقة بحثية صدرت عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة، فإن طول أمد الحرب، وتكلفتها المادية والبشرية المرتفعة بالتبعية، تسبب في اهتزاز وضع الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية خلال العام الأول ومعظم العام الثاني من الحرب، ومع التكلفة الكبيرة بدأ الروس في تعديل تشكيلات المشاة الروسية، التي اعتادت التشكل على هيئة "مجموعات كتائب تكتيكية"، وهي وحدات مناورة مشتركة الأسلحة تتألف عادة من كتيبة مشاة ميكانيكية نموذجية مكوَّنة من 2 إلى 4 سرايا معززة بوحدات للدفاع الجوي والمدفعية والهندسة والدعم اللوجستي مع سرية دبابات.
مع الإرهاق الواضح لميزانية الجيش، وظهور نقاط ضعف قاتلة في هذا النوع من الكتائب تتعلق بالتنسيق بين وحداتها، وصعوبة تحركها في مقابل النمط السريع للتكتيكات الأوكرانية، عاد الجيش الروسي إلى نظام غير رسمي يتضمن إنشاء أربع فئات مختلفة من رجال المشاة: المتخصص، والهجومي، والخطي، والقابل للتصرف، وهو تدرج مبني على المهارة والتكلفة المطلوبة للتدريب، الغرض منه استخدام كل جندي لأفضل مهمة مناسبة لتكلفته.
بشكل مشابه، استخدم الروس الدبابات بشكل كلَّفهم الكثير في بداية الحرب، وهي خسارة هائلة انتبهت إليها موسكو تحديدا بعد معركة مدينة فاهليدار في مقاطعة دونيتسك شرقي البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، التي وصفها المسؤولون الأوكرانيون بأنها "أكبر معركة دبابات في الحرب"، حيث دُمِّر أكثر من 130 دبابة. لفترة طويلة، كانت القوات الروسية تميل إلى الدفع بأسراب دبابات غير مدعومة بشكل مباشر إلى الكمائن الأوكرانية، ما تسبب في تدمير أعداد كبيرة من هذه الدبابات، خاصة مع استخدام الأوكرانيين لمنظومات رخيصة نسبيا لكنها فعالة جدا ضد الدبابات مثل "صاروخ جافلين"، وهو نظام أميركي محمول مثل الآر بي جي، يبلغ مداه ألفَيْ متر، ويتمتع بمزايا عديدة مثل خفة الوزن وسهولة التشغيل، لكن الأهم من ذلك أنه يتبع تقنية "أَطْلِق وانسَ" التي تُمكِّن المُطلِق من إصابة الهدف دون الحاجة إلى التصويب عليه بدقة.
بدأت روسيا الحرب باستخدام الدبابات لأغراض "الاختراق في العمق العملياتي" بوصفها جزءا من مجموعات الكتائب التكتيكية التي تحدثنا عنها سابقا، لكن مع الخسائر الفادحة أصبحت روسيا تستخدم الدبابات في حالات الاختراق التي تبدو مناسبة فقط وباجتماع عدة نقاط قرار متنوعة.
ما سبق كان فقط مجموعة من الأمثلة على أن الروس لم يتوقعوا الطريقة التي ستتطور بها الحرب، وفي كل مرة اضطروا للتكيف مع المستجدات التي يفرضها الأوكرانيون لا العكس، والمشكلة أن ذلك كان يحدث ببطء، ما تسبب في تأخير تقدمهم في الأراضي الأوكرانية على مدى سنوات الحرب كلها، وعموما، واجه الروس (ولا يزالون) مشكلة في توفير الدعم اللوجستي، وهو توفير جميع الموارد والخدمات الضرورية لدعم العمليات العسكرية، ويشمل النقل والتخزين والإمدادات والصيانة والاتصالات، وكل ما يسهم في ضمان تدفق المواد والمعلومات بسلاسة.
يتوافق ذلك مع ما خلص إليه فريق بحثي يضم برادلي مارتين وسين بارنيت وديفين ماكارثي من مؤسسة "راند"، الممولة من وزارة الدفاع الأميركية. وفي دراسة نشرها الباحثون الثلاثة في يناير/كانون الثاني 2023، رجَّحوا أن إخفاقات روسيا في الحرب مع أوكرانيا كانت راجعة بالأساس إلى سوء التخطيط، حيث لم تقم روسيا بتقييم المتطلبات اللوجستية بشكل صحيح، حتى لو كانت تمتلك القدرة على ذلك.
وبحسب الدراسة، فقد نفدت الإمدادات الحيوية من روسيا في وقت مبكر من حملتها للاستيلاء السريع على الأراضي الأوكرانية، وكانت هذه الفجوة إلى حدٍّ كبير نتيجة التقليل من شأن "المقاومة" التي واجهتها، بمعنى أن روسيا لم توفر القدرة الكافية، ليس لأنها لا تمتلكها، ولكن لأنها اعتقدت أنها لن تكون مطلوبة من الأساس. مثال واضح على ذلك هو اعتماد الجيش الروسي على النقل البري الطويل الذي جعله أكثر عرضة للخطر بسبب سوء تقدير تفوق الأوكرانيين في الهجمات غير النظامية، وتأثير أنظمة الصواريخ التي حصلوا عليها من الغرب.
للمفارقة، يرى فريق من الباحثين أن مكامن الفشل الروسي تلك كانت موجودة في وقت أبكر بكثير من زمان الحرب في أوكرانيا، لكنها لم تُرصد بدقة. وخلال السنوات الـ22 الماضية، أنفقت روسيا أكثر من 1.1 تريليون دولار على الجيش، وكان لديها ثلاثة وزراء دفاع، وأربعة رؤساء أركان، أشرفوا على ثلاثة إصلاحات عسكرية، وخاضت حربا قصيرة مع جورجيا، وتدخلا في سوريا، وعدة عمليات انتشار أصغر في الجمهوريات السوفياتية السابقة، مع سجل نجاح محدود على معظم هذه الأصعدة.
ويرى كيرل شاميف من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن أهم الأسباب التي جعلت المحللين الغربيين يميلون إلى المبالغة في تقدير القدرات العسكرية الروسية هو أداء الجيش الروسي في التدريبات الإستراتيجية السنوية التي تُعرَض على المراقبين الأجانب ووسائل الإعلام، وركزت على مكافحة التمرد. ومع ذلك، في الحرب مع أوكرانيا، لم يُثبت الجيش الروسي القدرات نفسها على ما يبدو.
حرب بوتين الأبديةيعمل الجيش الروسي حاليا على زيادة مهاراته وقدرته على الاستجابة والتكيف مع نقاط الضعف التي كشفت عنها الحرب، مع أن اختراق كورسك سوف يكون نقطة مفصلية ستغير شكل الحرب تماما، على الأقل من وجهة نظر الكرملين. بادئ ذي بدء، سوف تكثف موسكو جهودها لمنع الولايات المتحدة والغرب من دعم أوكرانيا بأسلحة ذات مدى أوسع، وفي الوقت نفسه ضبط التقدم الشرقي لخصمها ومحاولة عكسه في أقرب فترة ممكنة.
وستحاول موسكو التعامل بجدية أكبر مع الجيش الأوكراني عبر حرمانه من مكامن قوته ومحاولة استكشاف نقاط ضعفه الحقيقية التي أظهرتها الشهور الماضية، وعلى رأسها محدودية الحضور الجوي. فحتى مع وصول إمدادات الـ"إف-16″ الأميركية، حافظت روسيا على قوة جوية أكثر تقدما وأكبر حجما، ورغم تلقيها أنظمة الدفاع الجوي الغربية، لا تزال كييف تواجه تحديات في تأمين مجالها الجوي بالكامل ضد هجمات الصواريخ والطائرات بدون طيار الروسية.
أضف إلى ذلك أن الحفاظ على خطوط الإمداد للذخيرة والوقود وغيرها من الضروريات باتت تحديا صعبا بالنسبة لأوكرانيا، وخاصة في المناطق المتنازع عليها. وفي ظل نقص القوى العسكرية العاملة، يظل الحفاظ على القتال عالي الحدة لفترة طويلة أمرا مرهقا للأوكرانيين، خاصة مع الخسائر المستمرة للأفراد ذوي الخبرة.
يزداد الوضع صعوبة مع اضطرار الأوكرانيين للدفاع عن خط مواجهة كبير وممتد، وهذا يتطلب موارد واسعة ويجعل من الصعب تركيز القوات في مكان واحد، مما يجعل بعض المناطق معرضة للخطر، خاصة المناطق الساحلية، حيث تتمتع أوكرانيا بقدرات بحرية محدودة نسبيا مقارنة بروسيا، وهذا يعوق قدرة أوكرانيا على السيطرة على المناطق القريبة من البحر الأسود وبحر آزوف أو الدفاع عنها.
في غضون ذلك، سوف يتعين على روسيا بذل جهد أكبر لإصلاح وضعها الداخلي للتعامل مع حرب طويلة وممتدة. وقبل عدة أشهر، أطاح الرئيس بوتين بوزير الدفاع سيرغي شويغو وخلفه أندريه بيلوسوف، الذي يعتقد أن لديه خلفية أفضل في إدارة الموارد طويلة الأمد، وفي المقابل، حلَّ شويغو محل نيكولاي باتروشيف رئيسا لمجلس الأمن، الذي يُشرف على أجهزة الاستخبارات الروسية. وبحسب خبراء، فإن هذا التعديل الوزاري يمهد الطريق لحرب استنزاف طويلة في أوكرانيا، سيحاول خلالها الفريق الجديد ضبط الاقتصاد ليعمل بحالة من التوازن مع استمرار الحرب قائمة.
في المقابل من ذلك، سوف يستمر السياسيون وجنرالات الحرب الغربيون في دعم أوكرانيا بعد أن فوجئوا بقدرتها على الصمود ضد الضغط الروسي، وهم في هذا السياق مستفيدون لا شك من قدرتهم على دراسة الوضع العسكري الروسي في الحرب الحالية، واستنزاف موسكو تدريجيا في حرب طويلة، واختبار مدى صبر بوتين قبل أن يقرر استخدام سلاحه النووي (وهو أمر لا يزال مستبعدا)، لكنهم يدفعون ضريبة ذلك اقتصاديا، سواء بسبب دعم الأوكرانيين المكلف، أو بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب الحرب، وهي أوضاع مرشحة للسوء مع وجود أكثر من بؤرة ملتهبة مرشحة للانفجار عالميا، وما الشرق الأوسط وتايوان منا ببعيد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد ت القوات الأوکرانیة العسکریة الروسیة الأراضی الروسیة القوات الروسیة الحدود الروسیة الجیش الروسی شرق أوکرانیا فی أوکرانیا على الأراضی نقاط الضعف الروسیة من هذا النوع فی کورسک فی الحرب فی روسیا إلى ذلک لا یزال على أن التی ت ذلک أن
إقرأ أيضاً:
لماذا تخلت روسيا عن إيران في حربها مع إسرائيل؟
على مدار 12 يوما، تبادلت إيران وإسرائيل الضربات الجوية والصاروخية حتى إعلان وقف إطلاق النار بين الطرفين. كانت إسرائيل هي مَن بدأت بشن هجومها العدواني بدعوى تحييد خطر البرنامج النووي الإيراني، لكن ضرباتها الجوية متعددة الأهداف، وحملة الاغتيالات التي طالت كبار المسؤولين العسكريين والعلماء النوويين الإيرانيين، أشارت إلى أهداف أوسع من ذلك تصل إلى حد تغيير النظام، وهو ما أفصح عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ضمنيا بدعوة الشعب الإيراني للثورة على النظام، وتلويحه بإمكانية اغتيال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
وبعد تردد لأيام، حسمت الولايات المتحدة موقفها بالتدخل مباشرة في الحرب وعدم الاكتفاء بتقديم الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل. وفي فجر يوم 22 يونيو/حزيران الحالي، شن الجيش الأميركي ضربات بالغة القوة ضد ثلاث منشآت نووية إيرانية هي فوردو ونطنز وأصفهان، وهو الهجوم الذي ردت عليه طهران باستهداف قاعدة العديد في قطر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2لهذه الأسباب لم ينجح القصف الجوي في إسقاط النظام الإيرانيlist 2 of 2الطائرات المسيّرة وقصة السيطرة على الأجواءend of listومع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، يبدو أن إيران نجت من مخطط أوسع وأثبتت قدرتها على الصمود، بل وعلى الرد بترسانة صاروخية متطورة، رغم الأضرار البالغة التي ضربت صفوفها القيادية وبنيتها التحتية النووية والعسكرية. لكن ما يلفت النظر في هذه المواجهة أن إيران وقفت فيها بمفردها تقريبا، ولم تتلقَ دعما حقيقيا يُذكر من حلفائها الافتراضيين وفي مقدمتهم موسكو.
كان سقف الموقف الروسي تجاه الحرب منخفضا جدا بالنظر إلى التحالف الوثيق بين الروس والإيرانيين خلال السنوات الأخيرة. لقد اكتفى بوتين والمسؤولون الروس بالإدانة الرسمية للعدوان الإسرائيلي، ولم يُظهروا علامات حول نيتهم تقديم دعم فعلي، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات. فلماذا اختارت موسكو عدم التورط في المواجهة والتخلي "عمليا" عن حليف مهم يتعرض لكل تلك الضربات؟ رغم أن مصدرا على صلة بوزارة الخارجية الروسية قال لصحيفة "الغارديان" البريطانية إنه إذا انهار النظام الإيراني الحالي فستكون تلك كارثة وضربة قاصمة لسُمعة روسيا عالميا، خاصة بعد نجاح الثورة السورية في الإطاحة ببشار الأسد حليف روسيا الذي دفعت موسكو -بصحبة إيران نفسها- ثمنا باهظا لعقد كامل من الزمن من أجل تثبيت عرشه وبقاء نظامه.
لم تكن لهجة روسيا في الأحداث الأخيرة متوقعة بالنسبة للكثيرين ممن انتظروا سماع عبارات تهديد رنانة من الرئيس الروسي ومسؤوليه، والأهم ربما توقعوا دعما عسكريا روسيا مؤثرا لطهران، خاصة أن موسكو لا تحتمل أن تخسر "حليفا" جديدا في الشرق الأوسط بحجم إيران بعد أشهر من سقوط بشار الأسد، لكن روسيا آثرت أن تكون لهجتها أكثر ميلا للاتزان، مقتنعة بأن الدور الذي يمكن أن تلعبه هو دور الناصح والمصلح والوسيط بين المتخاصمين.
إعلانأدانت روسيا تصرفات إسرائيل، وأعربت عن تعازيها لقيادة وشعب جمهورية إيران الإسلامية لما وقع من خسائر بشرية عديدة، بحسب بيان نُشر على موقع الكرملين الإلكتروني في أعقاب انطلاق العملية الإسرائيلية، كما أوضحت روسيا موقفها الذي يرى في العدوان الإسرائيلي انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وكذلك أدان الرئيس الروسي في مكالمته مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب العملية الإسرائيلية.
وعلى جانب آخر، نصحت روسيا الولايات المتحدة بألا تتدخل مباشرة في الصراع الدائر بين الطرفين، بعد أن انتشرت التقارير والمعلومات عن تدخل أميركي وشيك ضد إيران، مؤكدة أن هذا الهجوم -الذي لم يكن حدث وقتها- لربما يزعزع استقرار الشرق الأوسط على نحو جذري، بحسب ما صرح به سيرجي ريابكوف، نائب وزير خارجية روسيا، لوكالة "إنترفاكس" للأنباء. وكذلك استنكرت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، بحسب مجلة "تايم" الأميركية، ضرب المنشآت النووية وسط غياب للقلق وصمت من المجتمع الدولي ومدعي حماية البيئة بحسب رأيها.
ومن ناحيته، أوضح بوتين بعد اندلاع الصراع أنه قدّم مقترحات للتوسط بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، لكنه حتى حين قال ذلك كان تعليقه "باردا سياسيا"، ويفتقر إلى الدعم المتوقع منه لإيران، إذ قال إنه لن يفرض شيئا على أحد، وإنه فقط سيقدم رؤيته للخروج من الأزمة، لكن القرار في النهاية سيكون في يد القيادة السياسية للدول المتنازعة.
وربما كان أحد التصريحات الروسية القليلة التي ظهرت فيها النبرة المرتفعة هو إعلان الكرملين أن محاولة تغيير النظام في إيران يُعد أمرا غير مقبول، إذ صرح ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، بأن روسيا سترد "بشكل سلبي للغاية" في حال اغتيال المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، وأكد أن مثل هذا الأمر ينبغي ألا يكون الحديث عنه أو التفكير فيه مقبولا.
لكن حتى في تلك الحالة رفض بيسكوف -بحسب "سكاي نيوز"- أن يوضح التصرف الذي ستتخذه روسيا في حال اغتيال المرشد، وفضّل القول إن الرد سيكون قويا للغاية من داخل إيران، وبدأ يتحدث عن الأثر السلبي على المنطقة في حالة حدوث ذلك، إذ قال إن هذا سيؤدي إلى نشوب نزعات متطرفة داخل إيران، وإن على مَن يتحدثون عن قتل المرشد أن يستوعبوا ذلك ويضعوه في اعتبارهم، وأن يفهموا أنهم سيفتحون بذلك أبواب الشرور.
ومثله، كان تهديد الرئيس الروسي السابق ونائب مجلس الأمن الروسي الحالي دميتري ميدفيديف بأن دولا ثالثة قد تزود إيران بأسلحة نووية باهتا، حيث لم يفصح ميدفيديف عن هذه الدول، فيما امتنع المسؤولون الروس عن التعليق على هذا التصريح الذي انتقده الرئيس الأميركي ترامب.
في الواقع، كانت المنصة الألمانية "دويتش فيله" قد توقعت مثل هذا السلوك الروسي، وأن موسكو رغم كونها ترتبط بشراكة إستراتيجية مع طهران فإنها لن تقدم لها مساعدات عسكرية في حربها، وذلك رغم أن علاقة البلدين تطورت بشكل قوي للغاية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ووصل الأمر إلى حد اتهام الغرب لإيران بأنها مَن تزود روسيا بالذخائر وقذائف المدفعية وآلاف الطائرات بدون طيار التي تهاجم من خلالها البنية التحتية في أوكرانيا، بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال".
إعلانهذا بالإضافة إلى كون البلدين شريكين في مجموعة البريكس التي تضم الدول غير الغربية ذات الاقتصادات الصاعدة، وهي المجموعة التي أسهمت روسيا بشكل كبير في تأسيسها، ويضاف إلى كل ذلك أن إيران واحدة من الدول القليلة المتبقية التي تكسر العزلة الروسية، إذ إنها تشاركها في كونها عرضة للعقوبات الغربية الشديدة.
بيد أن هذه ليست هي المرة الأولى التي تتلقى فيها إيران الدعم البارد من روسيا، فحين كانت الحرب في سوريا مشتعلة، كانت موسكو التي نشرت أنظمة الدفاع الجوي المتطورة في سوريا تسمح لدولة الاحتلال الإسرائيلي بضرب الميليشيات الإيرانية الموجودة في البلاد دون تفعيل لأنظمتها، وهو ما قُرئ بوصفه تخلٍّ واضح عن حليفها، بيد أن طهران كانت مضطرة لغض الطرف عنه بسبب المصالح المشتركة مع الروس في الجغرافيا السورية.
وبحسب تعبير منصة "آسيا تايمز"، فإن تغاضي روسيا حينها عن استهداف إسرائيل للإيرانيين في سوريا لم يكن سرا، ولكنه كان جزءا من اتفاق واسع بين إسرائيل وروسيا، يقضي بألا تتعرض دولة الاحتلال للمنشآت والأفراد الروس في سوريا آنذاك في مقابل ألا تستخدم روسيا أسلحتها لصد الهجمات الإسرائيلية على الإيرانيين في سوريا، وذهبت "آسيا تايمز" إلى ما هو أبعد من ذلك حينها بالقول إن روسيا كانت دائما حليفا غير موثوق لإيران، وفي عام 2010 على سبيل المثال لا الحصر رفضت روسيا بيع أنظمة الدفاع الجوي "إس-300" لطهران بسبب الضغوط التي مارستها عليها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
وفي أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها فصائل المقاومة الإسرائيلية ضد الاحتلال الإسرائيلي في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والحرب الإسرائيلية اللاحقة على غزة، قالت الحكومة الإيرانية إنها أبرمت صفقة مع موسكو لتزويدها بطائرات مقاتلة من طراز سوخوي "سو-35″، وطائرات هليكوبتر هجومية من طراز "مي-28″، وأنظمة دفاع جوي من طراز "إس-400″، وطائرات تدريب من طراز "ياك-130″، لكن طهران لم تحصل فعليا إلا على طائرات التدريب. وبحسب نيكول غرايفسكي، وهي زميلة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ومؤلفة كتاب عن إيران وروسيا، فإن مشكلات الإنتاج والضغوط الدبلوماسية من دول الخليج الأخرى دفعت روسيا إلى حجب التقنيات الأكثر حساسية وقوة عن إيران.
أكثر من ذلك عندما دمرت الضربات الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2024 بعضا من أفضل أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية التي قدمها الروس، بدا أن موسكو إما غير قادرة وإما غير راغبة في استبدالها. وحتى الآن لم تتعهد روسيا بتعويض الأنظمة الإيرانية التي قصفتها إسرائيل خلال الحرب الحالية، رغم طلب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من موسكو تزويد أنظمة دفاع جوي جديدة ومساعدة في ترميم شبكة الطاقة النووية، وفقا لما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال". وعندما سُئل بوتين عن سبب عدم إمداد روسيا إيران بالأسلحة لمواجهة الهجمات الإسرائيلية، قال إن اهتمام إيران بالمعدات الروسية قد تراجع، وإن إيران لم تُقدّم أي طلبات جديدة مُحددة.
وهنا يظهر السؤال: لماذا تتعامل روسيا مع حليفتها الإستراتيجية بهذه الطريقة وبتلك النبرة رغم أهمية إيران بالنسبة إليها؟ ولماذا بدا بوتين مترددا في دعم إيران في حربها وقبل ذلك في تزويد طهران باحتياجاتها من الأسلحة الروسية؟
من الواضح منذ فترة طويلة أن روسيا لن تدافع عن إيران عسكريا، لأنها ببساطة غير مستعدة للمخاطرة بمواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة من أجل إيران.
نيكيتا سماجين، الخبير في العلاقات الروسية الإيرانيةلقد وقّعت كلٌّ من إيران وروسيا معاهدة شراكة إستراتيجية شاملة في يناير/كانون الثاني الماضي، وصادق البرلمان الروسي عليها قبل شهرين من الآن، كما صادق عليها البرلمان الإيراني في 21 مايو/أيار الماضي. لكن رغم ذلك فإن تلك المعاهدة للدفاع المشترك لا تلزم روسيا ولا إيران بأن تساعد عسكريا حليفتها في حال هاجمتها قوة أخرى، وإنما يتوقف الالتزام على عدم مساعدة الدول المعتدية. ولكن بعيدا عن مسألة المعاهدة والتزاماتها، يبدو أن روسيا وجدت مصلحة ما في الحرب الإسرائيلية على إيران، أو على الأقل لم تجد دوافع كبيرة في التدخل بقوة لدعم حليفها.
إعلانوبحسب "دويتش فيله" الألمانية، فإن الحرب الإسرائيلية في الواقع قد مثَّلت فرصة ذهبية لروسيا فيما يخص حربها المستمرة مع أوكرانيا، فانشغال القادة الأوروبيين والأميركيين مع إيران الآن، ما دام لم يصل إلى حد تهديد النظام فعليا، يقدم لروسيا خدمة مجانية بإبعاد أعينهم ولو قليلا عن الساحة الأوكرانية ذات الأولوية لموسكو، وبالفعل فقد انتهزت روسيا الموقف، بحسب المنصة الألمانية، وسددت هجوما هو الأشرس منذ شهور على كييف، وأسفر هذا الهجوم عن مقتل 14 شخصا وإصابة العشرات.
تُعد مسألة أوكرانيا من الأسباب الرئيسية لتفسير نبرة روسيا المنددة بحذر بما يحدث مع إيران، فبعيدا عن أن صرف انتباه الغرب عن أوكرانيا قليلا هو مصلحة روسية، هناك مسألة أخرى مهمة وهي أن روسيا تنظر إلى أوكرانيا باعتبارها حربها الأساسية في هذا العصر، والربح فيها هو هدفها الأول وربما الأخير حاليا، ومن ثم فهي مستغرقة تماما داخلها، ولن تغامر بالتضحية بها في مقابل تشتيت جهودها لمساعدة حلفاء آخرين أو الدخول في خصومات كبرى جديدة.
هذا الاهتمام الشديد بأوكرانيا دفع الروس إلى تقليص الدعم لحلفائهم الأبعد، وهو ما حدث على سبيل المثال مع أرمينيا، التي تربطها معاهدة دفاع مشترك مع روسيا، ولم تتلقَ أي مساعدة من موسكو حين هُوجمت قواتها في إقليم ناغورني قره باغ على يد قوات أذربيجان عام 2023. وقد سرّعت هذه الحرب تحول أرمينيا الجذري من التحالف مع موسكو إلى الشراكة مع الولايات المتحدة وفق "وول ستريت جورنال".
وبالمثل، عندما أُطيح بالأسد في سوريا العام الماضي، اكتفى بوتين بعرض اللجوء على الرئيس المخلوع وعائلته، ولم تتدخل روسيا للدعم بقوة رغم وجود قواتها بالفعل على الأراضي الروسية، ما يشير إلى أن روسيا باتت أقل رغبة في استثمار المزيد من الموارد في صراعات بعيدة عن محيطها الجغرافي.
على جانب آخر، تشير صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى أنه رغم أن إيران قد زودت روسيا في الأشهر الأولى من حربها مع أوكرانيا بالآلاف من الطائرات المقاتلة بدون طيار، التي ساعدت موسكو في ضرب أهداف مهمة في مدن أوكرانية مختلفة، فضلا عن مساعدتها من خلال إرسال مدربين وخبراء إيرانيين لأعماق جبال الأورال بهدف إنشاء مؤسسة روسية تنتج الطائرات بدون طيار اعتمادا على الخبرة والتصميمات الإيرانية، فإن روسيا الآن لم تعد تعتمد على إيران بهذا الشكل في إنتاج الطائرات المسيرة، إذ بات لديها الخبرة الكافية لإنتاجها بنفسها محليا وبكميات كبيرة، وهي تستورد الآن مكونات تلك الطائرات من أماكن أخرى غير طهران، وهذا ما يجعل احتياج موسكو إلى طهران أقل في الوقت الحالي.
ليس هذا فحسب، بل يمكن القول إن روسيا تستفيد اقتصاديا على المدى القصير من الضربات على إيران، وبحسب مجلة "تايم" الأميركية فإن أسعار النفط الروسي قد ارتفعت نتيجة الأحداث في إيران بنسبة 15%، وهو أمر مهم للغاية ولو كان قصير المدى بالنسبة لروسيا، التي تريد التخفيف من الأعباء على ماليتها العامة المنهكة بسبب الحرب الأوكرانية، بل إن احتمالية تصاعد الحرب إلى درجة تنفيذ إيران لتهديداتها بإغلاق مضيق هرمز كان من الممكن أن ينعش المالية العامة الروسية أكثر وأكثر.
بالطبع لا يعني ذلك أن روسيا كانت تريد للحرب ضد إيران أن تستمر، أو أنها تريد فقدان حليفتها أو تدمير البنية التحتية العسكرية الإيرانية بشكل جسيم، لكن المقصود أن موسكو تجد نفسها عالقة وسط الكثير من التوازنات أثناء صنع قرارها بشأن إيران، التي اعتادت أن تعامل روسيا بصورة الند لا بصورة التابع مثل نظام بشار الأسد على سبيل المثال، وهذا ما أنتج إجمالا سياسة "إمساك العصا من المنتصف" التي يتبعها الكرملين إزاء العدوان الإسرائيلي والرد الإيراني.
إلى جانب ذلك فإن روسيا حريصة حاليا على علاقاتها المتحسنة نسبيا مع الولايات المتحدة في عهد ترامب، وبحسب ما صرح به مصدر روسي على صلة بوزارة الخارجية الروسية لـ"الغارديان" البريطانية، فإن روسيا حاليا لا تريد أن تشعل أي صراع مع ترامب من خلال مساندة إيران بأكثر مما ينبغي، وأقصى ما يمكن أن تفعله هو دفع الولايات المتحدة للعودة للمسار الدبلوماسي مع إيران، لكنها لن تصدر أي موقف أو دعم يعكر صفو علاقتها بإدارة الرئيس دونالد ترامب أو تجعله يغير موقفه من أوكرانيا.
إعلانعلى مستويات أكثر عمقا، تخلص صحيفة "ذي أتلانتيك" إلى أسباب أخرى يمكن أن تفسر سبب الدعم البارد والتنديد الخافت الذي تعاملت به روسيا مع الضربات الموجعة التي تلقتها طهران، فروسيا وضعت حدودا دائما لمدى دعمها للنظام الإيراني، ولطالما تباطأت في إعطاء الأسلحة والدفاعات المتقدمة التي تطلبها منها طهران، لأنها تعي تماما الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالتعاون العسكري مع النظام الإيراني، في وقت تستهدف فيه روسيا الحفاظ على علاقاتها مع الدول الخليجية، التي لا تزال ترى في النظام الإيراني تهديدا لها رغم تحسن العلاقات الخليجية الإيرانية مؤخرا، فضلا عن محاولات روسيا الحفاظ على علاقتها مع إسرائيل رغم ما يشوب تلك العلاقة من مشكلات بين فترة وأخرى خاصة في ظل الجذور التاريخية التي ينتسب إليها الكثير من يهود إسرائيل القادمين من الاتحاد السوفياتي في الهجرات المتعاقبة للاستيطان في فلسطين.
بالإضافة لكل ما سبق، فإن روسيا تستهدف التنسيق الدائم مع "أوبك" فيما يخص أسعار النفط، وكلها أسباب تجعل روسيا مراعية دائما لفكرة ألا تقدّم دعما لإيران يثير حفيظة الأطراف المختلفة في الشرق الأوسط.
مسألة أخرى لا تقل أهمية هي أن روسيا، رغم تحالفها مع إيران واتفاق البلدين على الخصومة مع الغرب وتحديه، فإنها في الواقع لم تتحمس أبدا بحسب "ذي أتلانتيك" لفكرة امتلاك إيران لسلاح نووي أو تجاوزها للعتبة النووية. فإيران مختلفة عن "سوريا الأسد"، وهي دولة طموحة لديها مشروعها الخاص ورؤيتها المستقلة وليست "جُرما" يدور في فلك الكرملين، ومن ثم فإن امتلاكها لأسلحة تضعها في مصاف الكبار عالميا يعني أنها ستصبح منافسة لروسيا، ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن أيضا في آسيا الوسطى.
وأخيرا وليس آخرا، لربما يدرك بوتين أن أي مساعدة يقدمها لإيران دون مستوى التدخل الكامل، كما حدث في سوريا، لن تكون كافية لتغيير مسار الحرب، وربما تظهر موسكو بمظهر الضعف بدلا من أن تعزز صورتها، خاصة في ظل تعرض طهران "ومحورها" لانتكاسات كبيرة مؤخرا، ما يعني أن موسكو تخشى الرهان على "فرس خاسر" مجددا كما فعلت في سوريا. وبالنسبة لبوتين، فإن تكاليف التخلي عن حليف أقل من الضريبة المتوقعة لمغامرة عسكرية جديدة دون أي ضمانات لتحقيق النصر.