الدكتور سلطان القاسمي يكتب: حقيقة تاريخ عُمان
تاريخ النشر: 9th, September 2024 GMT
الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
ما معنى كلمة حقيقة؟
الحقيقة: ما يجب على الإنسان أن يحميه، وحقيقة تاريخ عُمان، واجب عليّ قمت بتحقيقه بكل أمانة.
الحقيقة: ضد المجاز، وحقيقة الشيء: منتهاه وأصله، والمجاز: هو اللفظ المنقول من معناه إلى معنى يلابسه، لنعود إلى حقيقة الشيء.
نحو الألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، عاش سكان عُمان تغيرات مثيرة، فقد دخل إلى أرض عُمان أعداد كثيرة من البشر، قادمين من الأحقاف الواقعة بين المهرة وصلالة، والتي كانت تبعد مسيرة نصف يوم عن صلالة.
ذكر الله تعالى الأحقاف في سورة الأحقاف، حيث قال تعالى:
* وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) (سورة الأحقاف، الآيات 21-28).
﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾: هو النبي هود عليه السلام.
﴿ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُربَانًا ءَالِهَةَۢ﴾: وإله قوم عاد هو «عشتروت» أو عشتار، وهو إله الحب والخصب والجمال، عند الحميريين.
ذكر الله تعالى في سورة الأعراف المجادلة بين النبي هود عليه السلام وقوم عاد، حيث قال سبحانه وتعالى:
* وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُم هُودٗاۚ قَالَ يَقَومِ ٱعبُدُواْ ٱللهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ(65) قَالَ ٱلمَلَأ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِي سَفَاهَة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلكذِبينَ (66) قَالَ يٰقَومِ لَيسَ بِي سَفَاهَة وَلكِنِّي رَسُول مِّن رَّبِّ ٱلعٰلَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُم رِسَٰلَتِٰ رَبِّي وَأَنَا لَكُم نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبتُم أَن جَآءَكُم ذِكر مِّن رَّبِّكُم عَلَىٰ رَجُل مِّنكُم لِيُنذِرَكُم وَٱذكُرُوٓاْ إِذ جَعَلَكُم خُلَفَآءَ مِنۢ بَعدِ قَومِ نُوح وَزادَكُم فِي ٱلخَلقِ بَصطَة فَٱذكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ (69) قَالُوٓاْ أَجِئتَنَا لِنَعبُدَ ٱللّه وَحدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصٰدِقِينَ (70) قَالَ قَد وَقَعَ عَلَيكُم مِّن رَّبِّكُم رِجس وَغَضَبٌ أَتُجَدِلُونَنِي فِيٓ أَسمَاءٖ سَمَّيتُمُوهَآ أَنتُم وَءَابَآؤُكم مَّا نَزَّلَ ٱلله بِهَا مِن سُلطَنۚ فَٱنتَظِرُوٓا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَينَهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَة مِّنَّا وَقَطَعنَا دَابِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايٰتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤمِنِينَ (72) (سورة الأعراف، الآيات 65-72).
في الآيات السابقة يذكر الله تعالى أنه أنجى هوداً والذين معه برحمة منه، وقطع الله تعالى دابر الذين كذبوا بآيات الله ولم يكونوا مؤمنين، أي استأصلهم من الأحقاف.
في سورة الحاقة جاء ذكر قوم عاد، والهلاك الذي أصابهم، قال الله تعالى:
* وَأَمَّا عَاد فَأُهلِكُواْ بِرِيح صَرصَرٍ عَاتِيَة (6) سَخَّرَهَا عَلَيهِم سَبعَ لَيَال وَثَمَنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومٗا فَتَرَى ٱلقَومَ فِيهَا صَرعَىٰ كَأَنَّهُم أَعجَازُ نَخلٍ خَاوِيَةٖ (7) فَهَل تَرَىٰ لَهُم مِّنۢ بَاقِيَة (8) (سورة الحاقة، الآيات 6-8).
فرّ قوم عاد خوفاً من تلك الرياح العاتية، والتي كانت تهلك كل من مرت به، حيث كانت تهب من الناحية الجنوبية للأحقاف، أيْ من بحر العرب، فكان اتجاه سَير النبي هود عليه السلام، ومن معه من المؤمنين إلى الشمال الشرقي، ناحية ظفار، فتبعهم الفارون من تلك الرياح، من الساحل ومناطق البدو وانتشروا في أرض عُمان.
توفي النبي هود عليه السلام، وقبره في جبال ظفار في صلالة، حينها انتشر قوم عاد من المؤمنين وغير المؤمنين في أرض عُمان، ودمروا كل شيء بتسلطهم، حيث انتشروا في جميع مناطق عُمان، من ذلك يتبين أن سكان عُمان هم قوم عاد الحميريين وليسوا فُرساً، كما ذكره سلمة بن مسلم العوتبي في مخطوطة كتاب الأنساب.
بدراسة العصر الحديدي (1300 – 700 سنة قبل الميلاد) وخاصة في أواخره، سنة 700 قبل الميلاد، يتبيّن أن هناك سلطة مسيطرة بنزعة نحو المساواة القانونية والأهمية الدينية، ولم يتضح لنا من كان المسيطر على تلك السلطة، حتى برز لنا أول ملك لعمان، وهو:
«باد» ملك أرض قاد، الذي سكن في مدينة إزكي، وبالبحث عن كلمة «باد» في معاجم اللغة العربية، عثرت على تفسير كلمة «باد»، في معجم متن اللغة لأحمد رضا، الجزء الأول الصفحة 257، فقد ذكر أن معنى «باد» هو: السلطان ذو العدوان، وذو البدوان، أيْ لا يزال يبدو له رأي جديد، وقاد هو الجبل الطويل، وذلك ذكر للجبل الأخضر.
كانت العلاقات بين قاد والإمبراطورية الآشورية قوية، وكان أحد أشهر الملوك الآشوريين هو «آشور بانيبال» (668 - 627 سنة قبل الميلاد)، وقد وضع نقشاً في معبد عشتار في نينوى، يعود تاريخه إلى سنة 640 قبل الميلاد – يعرف باسم (بلاطة عشتار) - حيث تلقت التماثيل/ الجزية من «باد»، ملك قاد، والتي ربما كانت عاصمتها تقع في إزكي، وكان النقش كالتالي:
«... باد، ملك أرض قاد، الذي سكن في مدينة إزكي، التي لم يطأ أي ملك سابق حدود آشور: بأمر آشور وننليل مبعوثهما إلى السلام والنوايا الحسنة مع تكريمهم الغني، سافروا في رحلة مدتها ستة أشهر، وجاؤوا إلي».
من النص السالف الذكر، يتبيّن لنا أن الملك آشور في نينوى بين النهرين، هو من أبناء عم الملك «باد» في قاد (عُمان) فهما من عاد، حيث كانت مجموعة من الإرميين قوم عاد، قد فرّت إلى ما بين النهرين حاملة صنمها عشتار، عند الاجتياح الإغريقي على قوم عاد الإرميين، الذين جاؤوا من الأحقاف.
بعد تلك الفترة بعدة سنوات، كان الملك على عُمان يدعى «ماكان»، ويقال له: ملك قاد، وقد بحثت عن الاسم، فوجدته في كتاب لغة نامة، والذي يتألف من خمسين جزءاً باللغة الفارسية لمؤلفه علي أكبر دهخدا، وفي الجزء 43 وبالصفحة 76 وجدت كلمة «ماكان»، فكانت أنها اسم لملك، وفي القواميس العربية، ماكِن أو مَكّان، الأول من مكَن بالتخفيف، والثاني من مكَّن بالتشديد، وهو السلطان ذو القدرة، و«ماكان» وهو سلطان الجبل الأخضر في مدينة إزكي.
في عهد الملك «ماكان»، قام «قورش» مؤسس الإمبراطورية الأخمينية في بلاد فارس، 640 – 600 سنة قبل الميلاد، وأخذ يستولي على المناطق من حول بلاد فارس.
قام الملك «قورش» بمحاولة احتلال عُمان، فاستنجد الملك «ماكان» بالملك الآشوري، «آشور بانيبال»، والذي شنّ هجوماً على فارس، وقهر الأخمينيين، واحتل «شوش» بخوزستان (عربستان)، حتى وصل إلى «ديزفول» «Dezful»، عند الجبال، وهي البوابة إلى عمق فارس، وأخذ يهدد دولة الأخمينيين، مما اضطر الملك «قورش» إلى التوقف عن تهديد عُمان.
في ضوء ما ورد في نقوش فارسية (الفارسي القديم)، أن موقع «ماكان» في النقش، جاء قبل قاد، فهي ليست مرادفة كما ذكر بعض المؤرخين من أن «ماكان» تعني عُمان، وكذلك قاد فهي مرادفة، وذلك غير صحيح، والصحيح ملك عُمان.
نعود إلى نصوص «آشور بانيبال»، لتذكر أن الحاكم «باد» كان مقيماً في عاصمته إزكي في بلاد قاد، ومن المؤكد تقريباً أنها نفسها المدينة العمانية إزكي الحالية في شمال غرب مسقط، والتي بقيت محتفظة باسمها القديم لأكثر من 2600 سنة، ويتوافق هذا مع الكلام المتداول اليوم عن إزكي الحديثة، باعتبارها أقدم مدينة في السلطنة، ومن غير المعلوم حتى الآن ما إذا كانت بقايا إزكي القديمة موجودة تحت مباني المدينة الحديثة، أو تحت الحارة القديمة المعروفة باسم حارة اليمن، أو في مكان قريب منها.
للحديث بقية..
المصدر: صحيفة الخليج
كلمات دلالية: فيديوهات الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة سنة قبل المیلاد الله تعالى ک ان وا
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: ارتقاء وسط العواصف
تقف مصر اليوم على حافة واقع جديد، يلتقي فيه الميراث الحضاري الممتد لسبعة آلاف عام مع تحديات عالم يغلي فوق صفيح ساخن. في مثل ذلك المشهد المضطرب، لا يعود السؤال عمّن يملك القوة، بل عمن باستطاعته النجاة والارتقاء رغم التحديات، أو أن ينتزع لنفسه موقعاً في ميزان إقليمي شديد التوتر. هنا تحديداً يتقدم العقل الاستراتيجي المصري ليعيد قراءة اللحظة من منظور مختلف، لا يرى في العواصف نهايات، بل يرى فيها بداية لتحديات يمكن مواجهتها.
وسط العواصف العالمية والتحديات الإقليمية، تظهر وثائق فكرية عميقة مثل رسالة اللواء إيهاب لطفي، التي كشفت ما يجري خلف الكواليس من صراع إرادات وتنافس مشاريع كبرى ترسم في الخفاء وتنعكس تجلياتها في العلن. ليست بحثاً أكاديمياً عابراً، بل نافذة تطل على مستقبل تعاد صياغته الآن، حيث تتقاطع القوى الكبرى، وتتمدد المشاريع الإقليمية، وتتآكل الهياكل العربية التقليدية، بينما تتقدم مصر خطوة بخطوة نحو استعادة دورها الطبيعي كقلب نابض للنظام الإقليمي الجديد.
قارب نجاة وسط عواصف التحولات
لا يكاد أحد يختلف الآن أننا نشهد عصراً من التحولات الجيوسياسية التي تعيد رسم خرائط
النفوذ.. لم يعد العالم كما كان قبل عِقد مضى؛ إذ تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الشرق الأوسط هو الإقليم الأكثر تعرضًا للاضطرابات والقلاقل منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وأن معدل التحولات السياسية خلال العشرية الأخيرة تَجاوز ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي.
في خضم هذا المشهد المتوتر، يتقدّم الوعي المصري كحارسٍ يقظ يتمترس بالمعرفة والعلم والرؤية الاستشرافية؛ فمن بين الأوراق التي وضعت على طاولة المفكرين الاستراتيجيين في القاهرة تقف رسالة الباحث (إيهاب لطفي): "الرؤية المستقبلية للدور المصري نحو صياغة نظام إقليمي جديد"، باعتبارها وثيقة تحمل همَّ التحدي الراهن وتواجهه بقوة ووعي.
لا يمكن اعتبارها مجرد أطروحة جامعية، بل خريطة طريق تمتد من زلازل 2011 حتى أفق 2030، من أجل تحويل ما يبدو قدرًا قاسيًا إلى فرصة لتجديد القيادة وإعادة مصر إلى موقعها الطبيعي قبلاً نابضاً ينبض لأجل حياة المنطقة ونجاتها من العواصف المهلكة.
جغرافيا النار
الشرق الأوسط اليوم ليس سوى رقعة شطرنج تتنقل فوقها قطع ثقيلة الوزن والوطأة: إيران، تركيا، إسرائيل؛ ثلاث قوى غير عربية أعادت تقارير مركز “ستراتفور” تسميتها بـ"محور الظلال"! أولاً: إيران التي تملك نحو 200 ألف مقاتل من الميليشيات الحليفة المنتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وفق تقديرات معهد الدراسات الاستراتيجية. ثانياً: تركيا التي تحاول ملء فراغ النفوذ عبر قواعد عسكرية في قطر والصومال وشمال سوريا والعراق. ثالثاً: إسرائيل التي توسّع وجودها العسكري والتقني حتى باتت الدولة الأكثر إنفاقاً على أمنها بالنسبة لعدد سكانها المحدود، وفق معهد ستوكهولم. وفي الخلفية يتصارع الكبار: واشنطن يتراجع حضورها لكنها تقاوم بالهروب للأمام. وموسكو التي ترى المنطقة بابًا موارباً يسمح بمحاولة استعادة مجدها، وبكين التي جعلت الشرق الأوسط محورًا رئيسيًا في مبادرة "الحزام والطريق" التي يمر 60% من تجارتها عبر ممراته البحرية.
وسط هذا الصراع المشتعل، تبدو المنطقة العربية، وفق تقارير الجامعة العربية، الأكثر فقدانًا للوزن السياسي منذ عقود: دول تهتز، أنظمة تتداعى، وقوة عربية مركزية تبحث عن إعادة تشكيلها وتموضعها.
يحلل اللواء إيهاب فى رسالته هذا الفراغ السياسي متوغلاً فى تفاصيل المشهد بعمق وتمعن، ومؤكداً أن انهيار أو اهتزاز دول كالعراق وسوريا وليبيا واليمن جعل النظام العربي يبدو مثل جدار بلا أعمدة؛ إذ تشير تقارير صندوق النقد إلى أن 7 دول عربية فقدت أكثر من 40% من قوتها الاقتصادية خلال عشر سنوات، فيما ارتفعت النزاعات المسلحة بنسبة 300% بين 2011 و2023 وفق "مؤشر النزاعات العالمي".
إن هذا الانهيار العربي خلق فراغًا قياديًا واسعًا، فضلاً عن ضعف المؤسسات المشتركة، وغياب الإرادة الجماعية لمعالجة قضايا مصيرية مثل الأمن المائي والغذائي، وهي ملفات تمس مصر مباشرة في الصميم.
تحديات ماثلة فى المشهد الإقليمي
لا يختلف اثنان على أن أكبر تهديد وجودي لمصر هو سد النهضة. فوفق تقارير الأمم المتحدة للمياه، تعتمد مصر بنسبة 97% على نهر النيل كمصدر للمياه، بينما انخفض نصيب الفرد من المياه إلى 550 مترًا مكعبًا سنويًا، وهو أقل من خط الفقر المائي العالمي (1000 متر).
وتؤكد الدراسات أن أي ملء أحادي إضافي دون اتفاق قد يفقِد مصر ما بين 5 إلى 15 مليار متر مكعب سنويًا، وهو ما يعني تراجع الرقعة الزراعية بنسبة تصل إلى 20%؛ لذلك يرى الباحث إيهاب لطفي أن مصر في هذا الملف تراهن على مزيج دقيق من الدبلوماسية المرنة، والمناورة القانونية، والاستعداد الردعي دون إعلان؛ فالماء ليس ملفًا سياسيًا، بل قضية حياة أو موت.
وبنظرة خاطفة نحو الشرق؛ نحو سيناء: تلك البقعة التي استوطنها الإرهاب لسنوات، قبل أن تُسجَّل أكبر عملية تطهير في تاريخها المعاصر. أظهرت تقارير الإرهاب الدولي لعام 2023 أن النشاط الإرهابي في سيناء انخفض بأكثر من 90% منذ 2016، نتيجة استراتيجية عسكرية وأمنية مركبة، رافقها تمدد تنموي تجاوزت تكلفته 600 مليار جنيه خلال عقد.
فإذا نظرنا غرباً نحو ليبيا؛ نكتشف مصدراً مستمراً للقلق، حيث يتواجد نحو20 ألف مقاتل مرتزق وميليشيات متعددة الجنسيات بحسب الأمم المتحدة. هذه الحدود الممتدة لأكثر من 1,200 كلم تجعل من الاستقرار الليبي مسألة أمن قومي لا تحتمل التراخي.. والجنوب ليس أفضل حالاً؛ فالسودان الآن دولة تتفكك أمام أعين العالم؛ إذ تشير تقديرات المنظمات الأممية إلى نزوح أكثر من 9 ملايين منذ اندلاع الحرب الأهلية الأخيرة، إنها أكبر أزمة نزوح على الكوكب. ومصر تدرك أن انهيار السودان يعني وصول عدوى الفوضى إلى بواباتها الجنوبية.
مصر بين التهديد والنهضة
هكذا نري كيف أن مصر محاطة بمشاريع هيمنة متمثلة فى: مشروع إيراني يتمدد عبر أربعة عواصم عربية. ومشروع تركي يسعى لوراثة الإرث العثماني. ومشروع إسرائيلي يعيد رسم الخريطة على الأرض بقضم يومي للضفة الغربية.. فيما تشير تقارير الدول الكبرى إلى أن الشرق الأوسط بات ساحة تنافس بين خمس قوى إقليمية رئيسية، وأن أي دولة عربية لن تستطيع مواجهة هذا التزاحم دون تحالفات ذكية ووزن عسكري معتبر.
مصر تمتلك عدة مقومات استعادة دور إقليمي يواجه مشاريع الهيمنة المتربصة: أولاً: موقع استراتيجي تمر عبره 12% من التجارة العالمية. ثانياً: قناة السويس التي ارتفع دخلها إلى 9.4 مليار دولار عام 2023 قبل الأزمة الأخيرة في البحر الأحمر. ثالثاً: جيش مصنف بين أقوى 15 جيشًا في العالم. رابعاً: كتلة سكانية تتجاوز 105 ملايين تمتلك سوقًا ضخمة وطاقة بشرية هائلة. خامساً: تاريخ حضاري يعد من أثقل روافد القوة الناعمة عالميًا.
ويمكن القول إن القاهرة، خلال العقد الأخير، أصبحت مركزًا إلزاميًا للوساطات: ففي غزة: هي الوسيط الرئيسي في كل جولات التهدئة منذ 2014. وفي ليبيا: راعية مؤتمر القاهرة ومسار توحيد الجيش. وفي السودان: مصر كانت فى قلب جهود منع الانهيار التام. وفي اليمن: مصر فاعل سياسي رغم بعد الجغرافيا.. هذا وقد أدرج البنك الدولي مصر ضمن الدول الأكثر تأثيرًا في مسارات الوساطة الإقليمية خلال تقريره لعام 2023.
مسارات القوة والاحتواء
مسار مواجهة التحديات والقلاقل فى مصر يرتكز على قدرتها على الاحتواء ومنع الأزمات من الوصول إلى الداخل المصري. ويتجلى ذلك في التحرك الهادئ في القرن الأفريقي، وبناء شراكات مع دول منابع النيل مثل أوغندا وكينيا وتنزانيا، وتكثيف التواجد التنموي والدبلوماسي في إثيوبيا رغم الخلافات.
بهذه الطريقة تتحول مصر لصانعة للأحداث: إذ أن مشاركتها الفعالة في الكوميسا، واستضافتها لمؤتمرات المناخ، وقيادتها لملفات الطاقة في شرق المتوسط، كلها أمثلة على تحول الدور من الدفاع إلى المبادرة.
ثم هناك مسار التوازن، وهو الأكثر دقة وحساسية: فتوازن العلاقات بين واشنطن وموسكو وبكين، بين الخليج وإيران وتركيا، بين أوروبا وإفريقيا، كلها حقول ألغام سياسية؛ إنها دبلوماسية الخيط الرفيع حيث يصبح للقاهرة قدرة على الحركة في كل الاتجاهات دون أن تُحسَب على محور واح؛ دبلوماسية تشبه سيفًا ينحني لكنه لا ينكسر، تدار بخبرة تجعل مصر تعود بقوة إلى بعثات حفظ السلام، وتفتح خطوطًا دائمة مع الاتحاد الأفريقي. وتقيم مساراً للتحالفات مع تشاد وإريتريا وجيبوتي وجنوب أفريقيا والسنغال، مبنية على المصالح لا الأيديولوجيا.
فوق هذا هناك قوانا الناعمة: الإعلام، الثقافة، السينما، الأزهر، الكنيسة، التاريخ.. حيث تقول تقارير "سوفت باور 30" إن مصر واحدة من ثلاث دول عربية فقط تمتلك تأثيرًا ناعمًا يفوق قوتها الاقتصادية.
وفى جانب التوسع الاقتصادي؛ تهدف مصر لرفع التجارة مع إفريقيا إلى 30 مليار دولار بحلول 2030 لا كهدف اقتصادي فحسب، بل خطوة لبناء عمق استراتيجي مستدام.
معركة الهوية والقيادة الإقليمية
تعترف الرؤية، بصدق نادر، بأن الداخل المصري يحتاج إلى مزيد من الإصلاح، وأن الاقتصاد يجب أن يتحول من اقتصاد استهلاك إلى اقتصاد إنتاج وتصدير. ووفق خطة التنمية 2030، تهدف مصر إلى رفع معدل النمو إلى6-7% وخفض البطالة إلى 7%، وتعزيز الإنتاج الصناعي بنسبة 20%.. الرهان يتمثل في قدرة مصر على الجمع بين: رؤية تستشرف الغد، وحكمة لإدارة اللحظة. وقوة تردع الأعداء. ودبلوماسية تبني الجسور رغم العواصف.
إن مصر التي علمت الدنيا الحرف والمعمار والجيش والدولة، تقف اليوم مجددًا على عتبة امتحان تاريخي؛ يعيد إلى الذاكرة كل لحظة عبرت فيها بين الصعود والسقوط ثم عادت أكثر قوة.. إنها رحلة نحو القمة، شاقة ووعرة، لكنها الرحلة وحيدة الممكنة.. فالشمس، كما يقول التاريخ، لا تشرق إلا على أولئك الذين يصنعون مصائرهم بأيديهم.