من الثورة إلى النكبة: كيف أعادت الحوثية اليمن إلى حقبة الإمامة؟
تاريخ النشر: 21st, September 2024 GMT
تمر عشر سنوات على نكبة 21 سبتمبر التي أسقطت اليمن في مستنقع من الأزمات والكوارث الإنسانية، حيث مثل انقلاب المليشيات الحوثية على الدولة ومؤسساتها حدثاً مفصلياً في تاريخ البلاد الحديث.
منذ ذلك اليوم الأسود، 21 سبتمبر / ايلول 2014م واليمنيون يعيشون في دوامة من الفقر والحرب والعزلة، تدفعهم مليشيا متعطشة للسلطة إلى حضيض لا يعرف نهاية.
استحضرت المليشيات الحوثية ممارسات الإمامة البائدة التي أزاحت ثورة 26 سبتمبر عام 1962 نظامها الفاسد. فقد استبدلت شعارات الثورة والجمهورية بمشروع الولاية الطائفية التي تقوم على أسس استعلائية وسلالية تُكرس لتقسيم المجتمع وإعادة إحياء الامتيازات الطبقية التي تذمّرت منها الأجيال الماضية.
لم تتوقف هذه الجماعة عند حد سلب الدولة، بل أمعنت في تدمير كل مقومات الحياة. ففرضت أفكاراً مذهبية وقوانين رجعية كتلك التي سادت في زمن الأئمة، فأعادت العمل بقوانين "الخمس" وأثقلت كاهل المواطنين بالجبايات، في مشهد يُعيد إلى الذاكرة أهوال عهد الإمام أحمد الذي حكم اليمن بالحديد والنار.
وارتكبت المليشيات خلال تلك السنوات أبشع الجرائم الإنسانية. منذ أن دخلت صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وممارساتها الإجرامية تزداد وحشية؛ اغتيالات، اعتقالات تعسفية، تهجير قسري، ومصادرة ممتلكات المعارضين، حتى بات اليمن بيئة خصبة للفوضى، أشبه بما كانت عليه البلاد في عهد الإمامة المعزولة.
تعتبر الأضرار الاقتصادية الناجمة عن نكبة 21 سبتمبر من أكثر الجوانب المدمرة. فقد شهد اليمن تدهوراً غير مسبوق في الاقتصاد، حيث قامت المليشيات بفرض ضرائب وجبايات خارج إطار القانون على التجار ورجال الأعمال، ما أدى إلى هروب الكثيرين منهم. علاوة على ذلك، صادرت إيرادات الدولة لتوجيهها نحو حربها العبثية، متجاهلة احتياجات المواطنين الملحة في ظل انقطاع الرواتب وتفشي الفقر والمجاعة.
أما على الصعيد الأمني، فقد عمدت المليشيات إلى تقويض المؤسسات العسكرية والأمنية، لتستبدلها بمجموعات مسلحة موالية لها، تضحي بالوطن في سبيل خدمة مشروعها الطائفي. هذه الجماعات لا تهتم بحماية المواطنين أو الدفاع عن سيادة البلاد، بل تسعى لفرض أيديولوجية الحوثي بالقوة والعنف.
ومع مرور عشر سنوات على هذه النكبة، يغرق اليمن في أزمات متعددة الأوجه: سياسية، اقتصادية، اجتماعية وصحية. حيث باتت الأمراض والأوبئة المنتشرة جزءاً لا يتجزأ من حياة المواطنين اليومية، مع تفشي أمراض مثل الكوليرا والملاريا في مناطق واسعة من البلاد.
وتمثل نكبة 21 سبتمبر 2014م أكبر كارثة حلت في تاريخ اليمن المعاصر، حيث أعادت البلاد إلى زمن الإمامة البائد، وأسقطتها في فخ التبعية لإيران. وفي ظل هذا الواقع المظلم، يبقى اليمنيون يعانون يومياً من ويلات انقلاب الحوثي، متطلعين إلى يومٍ تستعيد فيه اليمن كرامتها وتعود جمهوريتها إلى سابق عهدها.
المصدر: وكالة خبر للأنباء
إقرأ أيضاً:
وقفة بين الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية
عبد النبي الشعلة
نَشرتُ الأسبوع الماضي مقالًا بعنوان "انقلابات أشهُر يوليو.. جراح لم تندمل". تناولت فيه ذكرى أول انقلاب عسكري أطاح بالنظام الملكي في أفغانستان، وما خلّفه من تداعيات. وقارنت ذلك الحدث بمجموعة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض الدول العربية، والتي وقع جلها في أشهر يوليو من سنوات مختلفة.
وقد تلقيت إثر نشر المقال سيلًا من الاتصالات والتعليقات، غلبت عليها عبارات الإشادة والتأييد لمضمون المقال وتحليلاته، لكن عددًا محدودًا من القراء عبّر عن رأي مغاير، معتبرًا أن ما وقع في العراق عام 1958، وفي اليمن عام 1962، وفي ليبيا عام 1969، على سبيل المثال، لم يكن مجرد انقلابات عسكرية، بل ثورات شعبية مكتملة الأركان.
ومع احترامي لتلك الرؤى، فإنني أرى أن من المهم التمييز بين "الثورة" و"الانقلاب" ليس فقط على مستوى الاصطلاح، بل أيضًا في البنية الفكرية والاجتماعية التي تسبق كل منهما وتنتج عنه.
ففي تجارب العراق واليمن وليبيا، كما في غيرها من التجارب المشابهة، أُطلقت تسميات مثل "الضباط الأحرار" وجرى توصيف التحركات العسكرية بأنها "ثورات" في إطار محاولة لإضفاء طابع شعبي وشرعي على ما حدث، رغم أن هذه التحركات انطلقت من داخل المؤسسة العسكرية، وفرضت نفسها بالقوة، ثم سعت لاحقًا إلى تسويق نفسها كثورات شعبية.
في "معجم اللغة العربية المعاصرة" تُعرَّف الثورة بأنها: "اندفاع عنيف من جماهير الشعب نحو تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييرًا أساسيًا" وتذهب التعريفات الحديثة إلى أن الثورة هي حركة جماهيرية تنطلق من قاعدة شعبية واعية، وتستند إلى تراكم فكري واجتماعي، وتطمح إلى بناء نظام جديد يستجيب لتطلعات الناس. وغالبًا ما تكون القوى العسكرية في الثورات إما مترددة، أو في صف النظام القائم، لا في طليعة التغيير.
وفي المقابل، فإن الانقلاب العسكري يُعرف بأنه تحرك مفاجئ تقوم به مجموعة من العسكريين للسيطرة على السلطة، غالبًا دون مشاركة شعبية واسعة، ودون تقديم مشروع فكري متكامل، وغالبًا ما تكون الدوافع المباشرة مرتبطة بطموحات سلطوية أكثر منها بتطلعات وطنية نابعة من الناس.
إن أبرز الأمثلة على الثورات الشعبية الحقيقية هي الثورة الفرنسية (1789–1799)، التي سبقتها عقود من التمهيد الفكري، قادها مفكرون مثل فولتير وروسو ومونتسكيو، وأسّست لوعي شعبي جديد قائم على قيم الحرية والعدالة والمساواة. ولم يكن الجيش الفرنسي في طليعة هذا التغيير، بل على العكس، سعى في بداياته للدفاع عن النظام الملكي القائم.
وكذلك الثورة الأمريكية (1775–1783)، التي قادتها نخب مدنية وسياسية مثقفة، وارتكزت على أفكار الفيلسوف جون لوك حول الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي.
أما الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، فقد نشأت عن نضال طويل خاضه مفكرون ثوريون أمثال ماركس ولينين، وشهدت تعبئة جماهيرية واسعة للعمال والفلاحين، وتمثل بذلك نموذجًا ثوريًا فكريًا وتنظيميًا متكاملًا.
وعند مقارنة تلك الثورات الكبرى بالانقلابات التي شهدتها بعض الدول العربية، يتضح أن الأخيرة افتقرت إلى التمهيد الفكري والشعبي. ففي العراق (1958)، واليمن (1962)، وليبيا (1969)، انطلقت التغييرات من قلب المؤسسة العسكرية، دون سابق إنذار، ودون مشاركة جماهيرية منظمة أو مشروع فكري واضح. وغالبًا ما كانت تعبيرًا عن صراعات داخل النخبة أو طموحات سلطوية لمجموعات محددة، وليس تعبيرًا عن تطلعات مجتمعية ناضجة.
وهذا ما يفسّر لماذا لم تفضِ تلك الانقلابات إلى بناء دول ديمقراطية مستقرة، بل أدت في كثير من الأحيان إلى الاستبداد، أو إلى دورات جديدة من العنف والفوضى، نتيجة غياب الشرعية الشعبية، والفكر المؤسس، والبرنامج الوطني المتكامل.
لسنا هنا في معرض إصدار الأحكام القطعية أو النيل من نوايا من قادوا تلك التحركات، فلكل سياقه وظروفه، ولكننا نعيد التذكير بأهمية التمييز بين التغيير الذي ينبع من فكر وشعب، والتغيير الذي يُفرض من أعلى دون مشاركة المجتمع. فالكلمات ليست محايدة، والمصطلحات تصنع الذاكرة الجمعية، وتشكل طريقة فهمنا للماضي واستشرافنا للمستقبل.
ولذلك فإن إعادة توصيف ما جرى في بعض بلداننا، وقراءته بأدوات التحليل السياسي والاجتماعي الحديثة، ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم ما حدث، ولماذا أخفقت تلك التحولات في بناء أوطان مستقرة وعادلة، على الرغم من الوعود الكبرى التي صاحبتها.
رابط مختصر