موقع 24:
2025-08-03@03:24:00 GMT

حروب الدم والكلمات في المنطقة العربية

تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT

حروب الدم والكلمات في المنطقة العربية

تشهد المنطقة العربية منذ عقود من الزمن حروباً ومعارك متعدّدة، بعضها كلاسيكي وكثير منها وجودي وحضاري وهوياتي.

وإذا كان العنوان الأبرز للمواجهات العسكرية هو سقوط أعداد هائلة من الضحايا، المتزامن مع سفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ، في سياق مشاهد مرعبة تقشعر لها الأبدان، فإن الحروب غير التقليدية الهادفة إلى تغيير قناعات الأفراد وأفكارهم والتأثير في تصوراتهم، وأسلوب مقاربتهم لقضايا الأمة وشعوب المنطقة، تمارس فعلها عبر وسائط اللغات الطبيعية والخوارزميات الرقمية، من أجل محاولة تشكيل وعي جديد قادر على قبول تمثلات قائمة على احتقار الذات والطعن في مشروعية الهوية الثقافية والحضارية المشتركة والجامعة، لكل المجتمعات من المحيط إلى الخليج.



وتعتمد هذه الحروب غير التقليدية على الكلمات في تجلياتها المسموعة والمرئية، فاللغة كما يقول المتخصصون تسمح بالتفكير ومن ثم بالكلام؛ واختيار الكلمات والمصطلحات لا يمكنه أن يكون بريئاً ولا محايداً، لأن الكلمة تحوّل الواقع من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، وتجعله حياً وحاضراً، وبالتالي فإن الكلمة تفرض فضاءاتها وتاريخها وأسلوب تصورها، والقول هو بشكل من الأشكال إبداع للعوالم ومحاولة لإدخال المتحاورين معنا بداخلها.
يقول الباحث جان باتيست نوي، إن الحديث عن الشام، عن الشرق الأوسط، وعن العالم العربي ليس أمراً محايداً، فكل كلمة تشير إلى واقع مختلف، ليس هو نفسه الذي تشير إليه كلمات أخرى تخلق فضاءً ذهنياً مغايراً، وعندما نستعمل كلمات أجنبية، فإننا نجعل من مفاهيم غيرنا مفاهيم لنا. وبالتالي فإنه ليس من الغريب أن كلمات مثل الشهداء والوطن العربي والأمة الإسلامية، ليست لها لا المعنى ولا الوقع نفسه مقارنة بكلمات تقابلها مثل القتلى، العالم العربي أو العالم الإسلامي. وعندما نتحدث عن الشرق الأوسط كبديل عن التسميات الأخرى، فإننا نقبل ضمنياً باستبعاد عناصر الهوية العربية والإسلامية للمنطقة.
لن نذيع سراً في هذا السياق عندما نقول، إن الإنسان كائن رمزي بامتياز، وذلك ما يجعله مستعداً للتضحية، وإلى بذل جهود مضنية للحصول على مكاسب رمزية، لا يمكن قياسها بفوائدها وخصائصها المادية المباشرة. وعليه فإن اختلاف الإنسان عن باقي المخلوقات الأخرى، تجعله كائناً قادراً على استبدال الأشياء الواقعية برموزها؛ وتكون الرموز في الكثير من الحالات أكثر قيمة من نسخها المادية، ويتحدث عالم السيمائيات الروسي يوري لوتمان عن هذا البعد الثقافي والرمزي للإنسان بكثير من الإسهاب، وبالاعتماد على نصوص إبداعية مستوحاة من الثقافة الروسية.
ويمكننا أن نتحدث أيضاً في هذا السياق، كما يشير إلى ذلك سيرج حاليمي، عن حروب الكلمات التي تتحوّل إلى فن من فنون التشهير والقذف السياسي لمنع الخصوم من التأثير في الجمهور، ولجعل خطابهم غير قابل للتداول بناءً على قاعدة شيطنة الآخر، واتهامه بتهم أخلاقية واهية، لا تستند إلى أي أسس موضوعية.

وعندما يتم الآن، في سياق النقاش السياسي الغربي، اتهام معارضي السياسة الإسرائيلية الإجرامية في المنطقة العربية بمعاداة السامية، فإن ذلك يدخل في سياق استراتيجية تهدف إلى تدمير الآخر، واغتياله سياسياً كما يحدث الآن في فرنسا مع شخصيات سياسية مرموقة مثل جون لوك ميلونشون ودومينيك دوفيلبان وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، حيث تهدف الآلة الإعلامية إلى إسكات كل الأصوات التي ترفع صوتها، من أجل انتقاد سياسة الإبادة في فلسطين، والتدمير في لبنان.
وعلاوة على ما تقدّم فإن حروب الكلمات والرموز، لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تشمل في أحايين كثيرة العمل على تشويه الحقائق، والتلاعب بالتاريخ، والأمثلة على ذلك كثيرة، ويمكننا أن نقدم بشأنها مثالاً توضيحياً مأخوذاً من التاريخ الغربي المعاصر، فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، واستسلام ألمانيا النازية قام المعهد الفرنسي للرأي العام بطرح سؤال على عينة من المواطنين الفرنسيين مضمونه: من هي الأمة التي كان لها الإسهام الأبرز في إلحاق الهزيمة بألمانيا، وكان جواب أكثر من 80 في المئة منهم في شهر مايو/أيار من سنة 1945، أن الاتحاد السوفييتي لعب الدور الأبرز في إضعاف واستنزاف ألمانيا. بيد أن التاريخ الرسمي للدول الغربية ركّز لاحقاً على الإسهام الأمريكي في انتصار الحلفاء، وعملت الدعاية الهوليودية بعد ذلك على تضخيم دور الجيش الأمريكي على الرغم من الهزائم المذلة التي تلقاها على يد الجيش الياباني.
ومن الواضح أننا في محيطنا العربي الراهن، نعيش لحظة امتزاج حروب الكلمات بحروب الدم التي تُسفك فيها دماء الأبرياء؛ وبعد أن جرى تدجين الكلمات وجعل دلالاتها باهتة، يتم الآن تسفيه وتبسيط القتل، وتحويل أعداد الضحايا إلى أرقام صماء من دون روح. وسيكون من ثمة ممكناً للغرب تشويه الحاضر حتى قبل أن يتحوّل إلى ماض، مع العمل على صياغة سرديات تساوي بين الضحية والجلاد، وتتحدث بالتالي عن حق المحتل في «الدفاع عن نفسه»، وعن حقه في تدمير البشر والحجر واستفزاز اللبنانيين بالقول لهم سندمركم كما دمرنا غزة، وذلك كله بهدف تبرير حروب القتل والإبادة، وإقصاء كل ما هو مختلف ومغاير، وتمزيق الهويات الجماعية، وخلق ذوات مُغفلة، تتساوى لديها الأنوار والظلم.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية غزة وإسرائيل إسرائيل وحزب الله

إقرأ أيضاً:

عودة الدم على حدود أوروبا

في 10 يوليو/ تموز، أعلن ثانوس بليفريس، وزير الهجرة اليوناني، عن تشريع جديد من شأنه فعليا أن يحول دون منح اللجوء لأولئك الذين يصلون إلى السواحل اليونانية بعد رحلة محفوفة بالمخاطر عبر البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من أفريقيا. وقال بليفريس خلال مقابلة: "اليونان لن تتسامح مع الدخول غير المنضبط لآلاف المهاجرين غير النظاميين القادمين من شمال أفريقيا".

وقد جاءت ردود الفعل ضد التشريع اليوناني الجديد فورية؛ إذ وصفته منظمات حقوق الإنسان بأنه غير قانوني، وطالبت بسحبه. كما شددت الهيئة العامة لنقابات المحامين اليونانيين على أن حرمان الأشخاص من حق اللجوء يُعدّ انتهاكا للقانون الدولي وتشريعات الاتحاد الأوروبي.

في اليوم نفسه، ولكن على الجانب الآخر من القارة، عرض رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اتفاقا وصفه بـ"الرائد" مع فرنسا، قال إنه يستهدف القوارب الصغيرة وعصابات التهريب، وسيرسل "رسالة واضحة مفادها أن هذه الرحلات التي تهدد الحياة لا جدوى منها".

وقد تعرض الاتفاق البريطاني الفرنسي لانتقادات من جميع أطياف الطيف السياسي. فقد وصفت منظمات مثل "أطباء بلا حدود" الاتفاق بأنه "متهور"، و"محكوم عليه بالفشل"، و"خطير"، في حين شددت شبكة حقوق المهاجرين على أن الاتفاق الجديد لن يمنع الناس من محاولة العبور إلى المملكة المتحدة.

خطط اليونان والمملكة المتحدة الجديدة للحد من الهجرة محكوم عليها بالفشل، والسبب بسيط: ردع الهجرة لا ينجح.

قبل عقد من الزمن، في صيف 2015، واجه الاتحاد الأوروبي أزمة لم يكن يتوقعها ولم يكن مستعدا لها. فقد أدّى صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والحرب الأهلية الوحشية في سوريا، وحالة عدم الاستقرار في أفغانستان إلى سعي آلاف الأشخاص للعثور على الأمان والحماية داخل الاتحاد الأوروبي.

وقد شكل "الصيف الطويل للهجرة" بداية ما يُعرف بأزمة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لم يكن لدى الاتحاد خطة واضحة؛ إذ إن "الأجندة الأوروبية للهجرة"، التي تمّ التوافق عليها في مايو/ أيار 2015، لم تكن قد خضعت للاختبار بعد.

إعلان

اليوم، لا تزال سردية الأزمة تشكل السياسات المتعلقة بالهجرة في عموم أوروبا. ففي اليونان، استُخدمت هذه السردية لتبرير تدابير الردع التقييدية منذ 2015، مما يجعل حملات القمع الجديدة أمرا غير مفاجئ.

بالنسبة للحكومة اليونانية النيوليبرالية، تُعتبر الهجرة وصمة تشوّه السردية الرسمية حول نجاحها الاقتصادي. أما في المملكة المتحدة، فتُستغل الهجرة لإذكاء المشاعر اليمينية المتطرفة. وفي كلتا الحالتين، لا تُصاغ السياسات بهدف ردع الوافدين فحسب، بل أيضا لإرضاء المطالب السياسية الداخلية.

ولا ينبغي النظر إلى أيٍّ من الخطتين المتعلقتين بالهجرة بمعزل عن صعود اليمين المتطرف في أنحاء القارة. فقد استُخدم تبنّي الخطاب اليميني المتطرف حول تجريم الهجرة في كلا البلدين؛ لتبرير سياسات غير إنسانية.

ففي اليونان، ترتكز مبررات السياسة الجديدة على سردية مشكوك فيها عن "غزو" قادم من أفريقيا، وهي استعارة لطالما كررها وزير الهجرة اليوناني. فبالنسبة له، يجب تعزيز الحدود اليونانية، وبالتالي الحدود الأوروبية، لضمان أن يتمكن "اللاجئون الحقيقيون" فقط من الاستفادة من الحماية الأوروبية.

أما الحكومة البريطانية، فتعتبر القوارب الصغيرة تهديدا لـ"أمن الحدود" الوطني، وفقا لما صرّحت به وزيرة الداخلية يفِت كوبر، وبالتالي يجب منعها من الدخول.

رغم أن كل خطة من خطط الهجرة هي نتاج عمليات سياسية مختلفة في كل من اليونان، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، فإن تصميمها والسرديات التي تُستخدم لتبريرها متشابهة من نواحٍ عديدة. فكلاهما يُصور المهاجر والحدود بالمفاهيم نفسها تقريبا. ففي نظر كل دولة، يُنظر إلى المهاجر بوصفه تهديدا للحدود، وتُصور الحدود على أنها بحاجة إلى الحماية.

المهاجر الذي يصل إلى شواطئ أي من البلدين يُجرم، وقد أصبحت عبارة "مهاجر غير شرعي" شائعة على ألسنة المسؤولين الحكوميين. وتُقدَم الحدود بوصفها آلية أمنية لا بد من الدفاع عنها ضد أولئك الذين يحاولون الوصول إليها. وتنتِج هذه المقاربة، مجتمعة، سردية تقوم على "نحن في مقابل هم"؛ أي على الانقسام.

ويُختزل المهاجرون في هويتهم المرتبطة بالهجرة فقط؛ فيُنظر إليهم كجماعة متجانسة، وتُمحى تجاربهم الفردية. وبهذا التصور، يصبح المهاجرون إما "جديرين" بالحماية الدولية أو "غير جديرين"، مرغوبا فيهم أو غير مرغوب. ولا يُعتبر "مستحقا" للحماية الدولية إلا من يُنظر إليه باعتباره "لاجئا حقيقيا". أما "غير المرغوب فيهم"، فيُجرَدون من إنسانيتهم، وتطردهم الحدود.

ونتيجة لذلك، تُروَج سردية الخوف وتُصنع أزمة مفتعلة.

ورغم أن ما جرى على حدود أوروبا قد أُطلق عليه اسم "أزمة اللاجئين"، فإنه في الحقيقة كان أزمة الحدود الأوروبية نفسها.

هذه السياسات متجذرة في العنصرية، ومصممة عمدا لإحداث الانقسام. هدفها الأساسي هو فصل البشر عن بعضهم البعض، وتحديد من يستحق العيش في أمان، ومن ينبغي طرده من أراضي الغرب.

ولا ينبغي النظر إلى هذه السياسات بمعزل عن الماضي الاستعماري والرأسمالي لكل من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. في الوقت ذاته، فإن مسرحية الحدود تؤدَى بشكل كامل ومدروس: فهي تنتج وهما بالتحكم في أزمة مصطنعة لا يمكن السيطرة عليها في الواقع.

إعلان

فالغاية الحقيقية من سياسات ردع الهجرة ليست النجاح، بل إقناع المواطنين بضرورتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع لـ سانا: تقوم وحدات الجيش العربي السوري في هذه اللحظات بتنفيذ ضربات دقيقة تستهدف مصادر النيران التي استخدمتها قوات “قسد” في قصف قرية الكيارية ومحيطها بريف منبج، وقد تمكنت قواتنا من رصد راجمة صواريخ ومدفع
  • خبير : حروب الجيل الرابع تستهدف عقول الشعوب لتفكيك المجتمعات
  • بعد زلزال روسيا الأخير.. هل تؤثر موجات التسونامي على المنطقة العربية؟
  • بني ياس يواجه العربي الكويتي 6 أغسطس
  • دولة عظمى تشن إعصارًا فترد الأخرى بتسونامي.. حروب المناخ قادمة!
  • عودة الدم على حدود أوروبا
  • سوريا: تزايد التوترات بين العشائر العربية وقوات سورية الديمقراطية
  • كنت فنان راقي ومتميز..أحمد التهامي يودع لطفي لبيب بهذه الكلمات
  • «عرفت إنك في جنة الرحمن».. خالد جلال يرثي شقيقه بهذه الكلمات بعد رحيله
  • الرئيس اللبناني: تعبنا من حروب الآخرين على أراضينا وعلينا وقف الانتحار وسحب سلاح حزب الله