هكذا خلّد فنانون من غزة ذكراهم قبل الرحيل
تاريخ النشر: 22nd, October 2024 GMT
غزة- كان طفلا لم يتجاوز الخامسة، حين وقف أمام جمع من الناس يُسمعهم صوته في احتفال لرياض الأطفال، فكانت وقفته تلك هي الخطوة الأولى في مشوار فني استمر لأكثر من 30 عاما.
"وراثة من جد جده" تكشف أم حمزة أبو قينص عن سر صوت ابنها الشجي، وتُكمل "كل الدار عندي صوتها حلو" كناية عن زوجها وأولادها ذكورا وإناثا. ورحل حمزة ولم يكن شهيدها الأول بل الأخير، فلم تُبق الحرب من رجالها أحدا إذ فقدت أبناءها الثلاثة ووالدهم.
"كان طيبا حنونا ذكيا فطنا مثقفا سبعا ورجلا بمعنى الكلمة" تُسهب أم حمزة في سرد صفات ابنها الذي قصم فقده ظهرها كما تقول عبر حديثها مع الجزيرة نت "عشتُ يتيمة، أنجبته وعمري 18 عاما فكان صاحبي وأخي وأبي".
فقد بعد شوقكان حمزة مواساتها حين رحل عنها ولداها ومعينها على الصبر، لم تره منذ بداية الحرب فقد نزحت مع زوجته وأطفاله جنوبا وظل هو صامدا في شمالها، وتسترجع المكالمة الأخيرة لهما قبل أيام من رحيله حيث كان يتنقل فيها الهاتف على آذان أطفاله الثلاثة وزوجته، طلب بعدها الحديث مع أمه "راضية يُمّا؟" فتجيبه "قلبي وربي يُما راضين عليك يا حبيبي".
وكان هذا آخر ما تسلل من صوته الشجي إلى أمه، أما الناس فثمة أناشيد تسللت لقلوب الملايين منهم خلدها بألحانه ولم تغب. ورغم أن وقع خبر استشهاد حمزة كان قاسيا على قلب والدته، إلا أن هناك سكينة أنزلها الله عليها كما توافد المهنئون بشهادته رغم عدم معرفتها بهم، علاوة على وقوف الطيبين من الناس وتفاعلهم مع رحيله مما خفف عنها مصابها، كما تقول.
أما صديقه المقرب أسامة قاسم فيرى أن تفاعل الملايين مع استشهاد أبو قينص جاء لصدقه وصدق ما غنى، فقد كان صاحب رسالة وأناشيده كانت تترجم حال العامة من الفاقدين والجرحى والمكلومين.
وأنهى أبو قينص تسجيل ألبوم "القابضون على الجمر" قبل الحرب بفترة وجيزة، وكان ينوي الإعلان عنه باحتفال كبير لكن دخول الحرب حال دون ذلك، فقرر مع زميله قاسم نشر أناشيد الألبوم خلال هذه الحرب، لتلاقي بعد ذلك رواجا وتداولا كبيرا خاصة أنها تحاكي واقع الفقد والرحيل والشهادة.
وارتبط صوته مغنيا "سبّل عيونو" وتأثره بـ"قل لي وين رايح مسك منو فايح" برثاء الشهداء، وانتشرت بين الناس كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى لقبوه براثي الشهداء وحدّاء الراحلين.
ويبكي قاسم وهو يرثي جاره وصديقه الأقرب حمزة الذي جمع بينهما الأستوديو والعمل الفني لمدة تجاوزت 20 عاما كونه صاحب الشركة المنتجة لأعمال أبو قينص.
ويستذكر -في حديث مع الجزيرة نت- المشوار الأخير لهما، حين همّ قاسم برسم خطة لأعمالهما الفنية بعد الحرب، ليقاطعه حمزة "لن أكون معك بل سأكون في الأعلى وأشفع لك، فأبي وإخوتي ملوا انتظاري، لابد أن أرحل إليهم".
الملتقى الجنةرحل المنشد الأشهر في غزة ولم يتقبل قاسم الخبر فلا زال حتى اليوم يبعث إليه رسائل نصية على هاتفه يناديه فيها للرجوع والكف عن المزاح، ويقول "يستحيل أن تجد صورة على هاتفي لوحدي دونه، أمشي وحيدا دون رفيق بعدما ترك فراغا لا يُسد أبدا. لكن ما يواسيني مقولته الشهيرة التي كان يرددها دوما: الملتقى الجنة".
ولم يصل حمزة للعالمية خلال حياته ولم يحيِ حفلات خارج غزة كما كان يطمح لأنه كان ممنوعا من السفر، لكن العالمين العربي والإسلامي نعوه وبكوه ولا يزالون يتداولون أناشيده التي اخترقت السدود والحدود بعد رحيله.
وتتشابه نهاية حمزة مع ختام الفنانة محاسن الخطيب (32 عاما) التي استشهدت قبل أيام في مخيم جباليا الذي رفضت النزوح منه رغم حصار الاحتلال، فقد انتشرت حكايتها واشتهرت رسوماتها المعبرة على منصات التواصل ووسائل الإعلام، لكن بتوصيفها بـ"الفنانة الشهيدة".
وقد أجرت الجزيرة نت مقابلة مع فاطمة حسونة صديقة محاسن المقربة، التي كانت قد رأت لتوها صورة قبر صديقتها، وكأنه الدليل الأول الذي يثبت أنها رحلت حقا.
وتقول وهي تذرف دموعها "لقد خسر العالم محاسن، صديقتي لم تكن تريد الموت بعد، فانتزعها منا وخسرناها جميعا" وتضيف فاطمة التي فقدت العشرات من أفراد أسرتها وصديقات أخريات "لقد اعتقلتُ دموعي وحبستها منذ فقدت العشرات من عائلتي قبل أشهر لكنني اليوم أطلقتها وبكيت بلا توقف".
وتتذكر شعور صديقتها الذي باحت لها به مؤخرا "انخنقتُ من الحصار يا فاطمة" وطلبها الأخير "أريد من والدتك أن تطهو لي ورق العنب المعهود حين نخرج من الحصار". وبين شعور محاسن الذي تحقق وطلبها الذي لم يُتح الوقت لتحقيقه، تُقلب فاطمة محادثاتها وصورها مع محاسن، واصفة إياها بأنها "طفرة مدهشة، وفتاة حالمة، وملهمة وقوية جدا، وراضية لم تتذمر يوما".
وتتابع "كانت صديقتي صادقة جدا حتى في اسمها الذي كان على مسمى، فقد جمعت أحسن الأخلاق والصفات".
وكانت المعيلة لأسرتها بعد وفاة والدها، فتحملت مسؤولية والدتها وإخوتها الذين كان منهم 3 من ذوي الاحتياجات الخاصة. ورغم ذلك، فقد كانت محاسن تعمل بحب وشغف وتدرب المئات من الطلبة على الرسم الرقمي الذي اتجهت إليه رغم دراستها تخصص الرياضيات بالمرحلة الجامعية.
الفن مقاومةهدمت إسرائيل أحلام ومشاريع الخطيب، فدمرت مركز التدريب الذي أنشأته حديثا قبل الحرب لإعطاء دورات الرسم، ورغم ذلك فقد شيدت لها عالمها الخاص على سطح منزلها في غرفة صغيرة تأوي إليها بعد يوم شاق من الطهو على الحطب وتعبئة المياه وأداء مهام المنزل مع والدتها التي يصعب عليها تقبل الخبر "فروحاهما معلقتان إحداهما بالأخرى" كما تقول فاطمة.
ولم يكن الموت موضوعا في نقاش محاسن، التي كانت تتحدث دوما عن أحلامها وطموحاتها ومشاريعها التي ستحقق فيها ذاتها بعد انتهاء الحرب، وتوصل من خلالها صورة مأساة غزة إلى العالم.
ولم تنته الحرب وانتهت حياة محاسن، مثل عشرات الفنانين الحالمين، في استهدافات مباشرة "لن تؤتي أكلها" كما يقول محمود سلمي مدير أستديوهات رابطة الفنانين.
ويرى محمود أن "الفن مقاومة كالبندقية لا يمكن أن نتنازل عنه أو نيأس من حمله وهذا إيمان راسخ عندنا" رغم استهداف الاحتلال للفنانين عن سبق إصرار وترصد باغتيالهم وتدمير مقراتهم، فمع الأيام الأولى للحرب قصفت الطائرات الإسرائيلية مقر رابطة الفنانين الفلسطينيين الرئيسي وسوته بالأرض، وهي الجسم الوحيد الذي يجمع فناني قطاع غزة.
وأكد محمود -في مقابلة مع الجزيرة نت- على استمرار محاولات الفنانين الانبعاث من تحت الرماد، حيث استخرج أدواته وعدته المدمرة من الركام وأصلح جزءا منها. غير أن تحديات عدة تواجه الفنانين اليوم كانعدام الكهرباء والمعيقات اللوجستية وعدم استقرار الوضع الأمني، والحالة النفسية السيئة التي يعيشونها بعد عام من الحرب، فقدوا فيه بيوتهم وأقاربهم وزملاءهم.
ولفت محمود إلى دور منصات التواصل الاجتماعي في إيصال الغزي رسائله وفنونه، وتطويعها بما يخدم قضيته ويبرز معاناته، وختم حديثه "سنعيد بناء مقارنا وأستديوهاتنا الفنية، ونجمع فنانينا ونحقق ذواتنا ونواصل إنتاجاتنا غصبا عن الاحتلال".
إسرائيل قتلت أكثر من 20 فنانا فلسطينيا من غزة، وذبحت حناجرهم وهشمت أكفهم ودمرت أحلامهم، لكن صنائعهم بقيت شاهدة على "نازية" المحتل، والتي جسدوها على هيئة لحن لكلمات أو ألوان على صفحة بيضاء أو مشهد على مسرح، مؤمنين بأن الفن مقاومة على نعومتها إلا أن تأثيرها قوي ويدوم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجامعات الجزیرة نت أبو قینص
إقرأ أيضاً:
سعد: الغائب الذي لم يَغب
صراحة نيوز ـ الدكتور أسعد عبد الرحمن
يا أيّها الغالي سعد…
لا أحد يدرك، لا أحد يستطيع أن يدرك، كيف أن مطرقة رحيلك الصاعق قد هدمت ابراجاً داخلية عندي لطالما ظننتها منيعة. قد سحقت لبناتٌ شيّدها في داخلي التفاؤل المزمن الذي لطالما صاغ نفسيتي، وحماني من الهموم المتكاثرة في هذه الدنيا لكنك ذهبت. وبذهابك، سقط السقف.
صحيح، صحيح تمامًا، أنك أخي، ابن أمي وأبي. لكن هذا، وحده، لم يُتوّجك سلطانًا على قلبي، ولا جعلك توأم روحي الذي أصبحتَه. لقد جاءت “كلمة السر” في هذه العلاقة الإنسانية الاستثنائية من نبعٍ أعمق من صلات الدم، من ينابيع الصداقة التي تنامت بيننا، منذ كنت طفلًا يحبو. ثم، تفتحت من جديد – بعد انتهاء انقطاع قسري- مع التئام شملنا في الكويت حين بلغت أنت الخامسة والعشرين… ومنذ تلك اللحظة، كأن الحياة ابتسمت لي بك. كأننا، نحن الاثنان، استعدنا بقايا طفولة مؤجّلة، وعشناها بنضج من يعرف معنى أن يجد في أخيه صديقًا يسند الظهر، ويقرأ الصمت، ويكون مرآة الروح.
وحين غربت شمسك، ذات “فجرٍ” من حزيران الأسود عام 2023، غرب معك شيء لن يعود. لم يكن يومًا عاديًا. كان انسحابًا هادئًا لظلّك من كل زاوية في حياتنا. وتركتنا (تركتني انا بالذات) أُعاني من رحيلك ومن تلاشي دعوة متكاملة كنت قد وجهتها لك لرحلات متتابعة نقوم بها لتعزيز توأمة الروح التي جمعتنا، قبل أن يحين الأجل المحتوم والذي “توقعناه” في غضون سنوات…كأننا ظننا في اللاوعي عندنا اننا نعيش في”بروج مشيدة”!!!!!غير ان الحقيقة المرّة انفجرت حين غادرتنا بطريقة جعلت الوداع لا ينتهي.
بكيتك، سرًا وعلانية. بكيتك كما يُبكى الوطن حين يُغتصب، كما يُبكى الضوء حين يُطفأ فجأة ولا يعود. ثم، فجأة، انحبس الدمع وجفّ، الأمر الذي حيّرني. وحين سألني صمتي عن السبب، وجدتُ الجواب في دمار “قطاع غزة” ودمار شمال “الضفة”… في فلسطين التي تنزف ولا تموت. هناك، بكى وجعي الأكبر: فما سكبته عيناي من دموع على أهلنا لم يعلم به أحد. كان ذلك السرّ بين ربي وبيني. وكم حرصتُ على ألّا يعرف أحد عن ذلك الانكسار، لا عائلتي، ولا أصدقائي، ولا زملائي. آنئذٍ، صارت الفجيعة بك-اعذرني ياحبيب- تنزوي في ظلّ فاجعة أكبر.
لكن يا سعد…
عدتَ إليّ، من حيث لم أكن أتوقّع. عدت إليّ حين اجتمعنا في منزلكم لإحياء ذكراك. عدت اليّ في الصور المتكئة على جدران منزلك وفي استعادتي لعباراتك الظريفة كلما تحلقنا حول مائدة طعامكم الشهي. عودتك-هذه المرة- تداخلت مع المفارقة بالتجويع الظالم للأهل في “قطاع غزة”. كل هذه التداعيات “فجرّتني” بالبكاء من جديد، كأنني لم أبكِك من قبل، فحملتُ قلبي المتعب، واندفعتُ خارجًا من منزلك…لا لأهرب منك، بل لأهرب اليك.
ياسعد…
لا أحد يدرك، لا أحد يستطيع أن يدرك كم أفتقدك. وسواء كنتُ وحدي، أو مع الأقارب أو الأصدقاء، لطالما وجدتك تزورني، غالبًا بنعومة، وأحيانًا بشدّة. كنتُ أتجلّد. أتجمّد. كي لا “أفسد الجو”، كما كنت تمازحني…
لكن، آه يا توأم الروح، ما أشدّ وقع هذا التجلّد، وما أبطأ هذا النوع من الموت!
كلما عاد حزيران، سقطت من قلبي صفحة. وكلما اقترب “فجر” يومه الأول، يوم رحيلك، أدركت أنه ليس فجرًا… بل موعدٌ مع وجع، مع غيابٍ لا يرحل، ومعك، أنت، الذي ما زلت تعيش في كل ركنٍ من ذاكرتي. واليوم، انا لم أكتبك لأرثيك… بل لأُبقيك حيًّا. في الورق. في اللغة. في الذين سيقرؤونك دون أن يعرفوك. كتبتك لتظلّ بيننا.
ونعم، يا سعد، غبتَ جسدًا لكنك لم تغب من قلبي لحظة. تسكنني كما يسكن الضوء المرآة: لا يُرى، لكنه يُضيء كل ما يمرّ عليه. فسلامٌ عليك، في الذكرى الثانية، كما يليق بروحٍ نادرةٍ، لا يتكرّر غيابها، ولا يُشفى من فقدها.