التكاليف الاقتصادية والاجتماعية للحرب في السودان والاثر علي المكانة المالية للدولة
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
بروفيسور حسن بشير محمد نور
تعتبر الحرب في السودان، المستمرة منذ أبريل 2023، أحد أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد، حيث خلفت تأثيرات مدمرة على جميع القطاعات الاقتصادية. عند تحليل هذه التأثيرات من حيث التكاليف المباشرة وغير المباشرة، نجد أن البنية التحتية، الإنتاج، العمالة، والاستثمار، جميعها تأثرت بشكل خطير، مما أدى إلى تفاقم الوضع المالي للدولة وإضعاف قدرتها على تحقيق اي مشاريع تنموية بل وحتي القدرة علي تسيير قطاعات الخدمات الاجتماعية الاساسية وأولها الصحة والتعليم.
من التكاليف المباشرة للحرب في السودان الخسائر الفورية في البنية التحتية، مثل تدمير الجسور، الطرق، محطات الطاقة، وشبكات الاتصالات والمنشات العامة والخاصة. هذه الأضرار تؤدي إلى تعطيل حركة التجارة والنقل، مما يؤثر سلباً على الاقتصاد. كما تسببت الحرب في توقف العديد من المصانع والمنشآت الإنتاجية، ما أدى إلى انخفاض كبير في معدلات الإنتاج المحلي.
من جهة أخرى، فإن تكاليف توظيف الموارد في الحرب تزيد من العبء المالي على الدولة. فالإنفاق العسكري المرتفع يمتص موارد كانت يمكن استخدامها في تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية أو دعم قطاعات اقتصادية منتجة. هذه التكاليف العسكرية تشمل تجهيز القوات، توفير المعدات والذخائر والانفاق علي المقاتلين، ودعم العمليات اللوجستية، مما يؤدي إلى زيادة في النفقات الحكومية على حساب التوظيف الاقتصادي السليم للموارد.
أما التكاليف غير المباشرة للحرب فتتمثل في التأثير السلبي على سوق العمل والاستثمار. فقد فقدت أعداد كبيرة من المواطنين وظائفهم واعمالهم بسبب تعطيل الأعمال وتدمير المنشآت الاقتصادية والتهجير القسري ونهب الممتلكات أو تدميرها، مما يزيد من معدلات البطالة ويؤثر سلباً على دخل الأسر وقدرتها الشرائية. كذلك فإن حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي أدت إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع الاستثمار الأجنبي والمحلي، ما يزيد من صعوبة استعادة النشاط الاقتصادي وقد أدى ذلك لتراجع مالي كبير ظهر من خلال الارتفاع الكبير لمعدلات التضخم وانخفاض سعر الصرف للجنيه السوداني.
كما أن تعطل الإنتاج وتراجع الصادرات يؤدي إلى انخفاض الإيرادات العامة، مما يعمق العجز المالي للدولة. هذا العجز يعقد الوضع المالي للسودان، الذي كان بالفعل يعاني من تحديات مالية كبيرة قبل اندلاع الحرب. التكاليف المالية المرتبطة بإعادة بناء ما دمرته الحرب تزيد من هذه الضغوط حتي بعد توقف الحرب.
يضاف ذلك بالطبع للتكاليف الاجتماعية غير القابلة للتقييم النقدي مثل تكاليف القتل والاصابات والاعاقات الجسدية والنفسية والعقلية. اضافة لتكاليف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والاغتصاب، التهجير القسري وعمالة الأطفال. فوق ذلك هناك تكاليف الاوبئة وتوطين الامراض الناتحة عن الاكتظاظ في اماكن النزوح وانعدام الادوية, وسؤ التغذية والجوع الذي وصل حد المجاعة السافرة في العديد من المناطق.
الحرب أدت ايضا إلى تدهور الإيرادات العامة بشكل حاد، حيث توقفت الأنشطة الاقتصادية، وتراجعت الإيرادات الضريبية والعائدات من القطاعات الحيوية مثل الذهب والصادرات الزراعية، انخفاض الإيرادات مع ارتفاع النفقات العسكرية جعل الدولة تعتمد أكثر على المغالاة في فرض الضرائب والرسوم مما رفع تكاليف المعيشة والانتاج، مما جعل الملايين في حالة كفاح يومي من أجل البقاء علي قيد الحياة . ادي ذلك إلى تراكم الأعباء المالية وفاقم من مشاكل الديون في الحاضر والمستقبل.
المكانة المالية للسودان تراجعت نتيجة فقدان الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية. تفاقمت اثار وتبعات الدين الخارجي والعجز المالي الذي يضع السودان في موقف مالي متدهور، ويزيد من اعتماد البلاد على المساعدات الدولية والمنح الطارئة، مما يحد من استقلاليتها الاقتصادية ويعطل قدرتها على تنفيذ سياسات تنموية مستقلة، بل وحتي التحكم في مواردها وادارتها بشكل يحقق المصالح الاستراتيحية ويصون الامن القومي حاضرا ومستقبلا.
في زمن التطور العلمي والتقني المتسارع
و (زمان الذكاء الاصطناعي الذي يكشف حتي المتخبأين خلف الاسماء المستعارة والحسابات الزائفة)،
تؤدي الحروب إلى تأخير عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بدلاً من الاستثمار في التعليم، الصحة، والبنية التحتية الرقمية ومواكبة التطور، ويتم توجيه الموارد تحت ضعط الحرب نحو مجالات غير إنتاجية. هذا الإهمال طويل الأجل للتنمية يعمق الفجوة بين السودان والدول الأخرى التي تستفيد من التقدم التكنولوجي ويؤدي كل ذلك على المدى الطويل، إلى تقليص الفرص الاقتصادية المتاحة للشباب وزيادة مستويات الفقر وعدم المساواة الاجتماعية، مما يفقد البلاد أهم مقومات التقدم المتمثلة في المورد البشري والاستثمار في التعليم والمعرفة.
في حال استمرار الحرب لفترة طويلة، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد السوداني مزيداً من التدهور. استمرار التكاليف العسكرية وتدمير البنية التحتية سيؤدي إلى تعميق الأزمة المالية، وزيادة الاعتماد على الديون الخارجية في المستقبل. كما تؤدي لتراجع الاستثمار وهروب رؤوس الأموال وهجرة الشباب والعقول و سيجعل ذلك من الصعب استعادة مسار سريع للتنمية حتى بعد انتهاء الحرب.
ومع ذلك، فإن هناك بعض الأمل في أن يتمكن السودان من تحقيق تعافٍ اقتصادي إذا توقفت الحرب وجاءت حكومة رشيدة تحظي بالقبول الداخلي والخارجي (رغم صعوبة تحقيق هذه الأمنية) وتم استغلال الموارد الطبيعية بالشكل الامثل. قد يساهم دعم المجتمع الدولي وبرامج إعادة الإعمار في استعادة بعض القطاعات الاقتصادية لمسار التعافى. ومع ذلك، فإن هذا سيتطلب إرادة سياسية قوية واستقرار سياسي وامني وسياسات اقتصادية متوازنة تركز على التنمية المستدامة وإصلاح القطاع المالي والاقتصادي.
إن التحليل الاقتصادي المنطقي يستدعي التأكيد على أن الحرب لا تقتصر آثارها على الدمار الفوري، بل تمتد لتشمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية عميقة. ومع استمرار الحرب، يزداد تعقيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي، مما يستدعي حلولا سياسية تنتج من مشروع وطني متوافق عليه يكون مؤهلا لوقف الحرب ومعالجة اثارها ويؤدي لوقف نزيف الموارد والعمل على إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. وهذا هدف يصعب تحقيقه دون مشروع وطني منكامل يعالج جذور الازمة القومية الشاملة التي يعاني منها السودان والتي اظهرتها الحرب الحالية في اوضح تجلياتها متعددة الأبعاد
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
السودان يواجه أسوأ تفشٍ للكوليرا منذ سنوات وسط الحرب والنزوح
طويلة، الواقعة على بعد 70 كيلومترًا من مدينة الفاشر، أصبحت مركزًا رئيسيًا لتفشي المرض. فالبلدة تستضيف مئات الآلاف من النازحين الذين فرّوا من أعمال العنف المستمرة. اعلان
في مطلع آب/أغسطس الجاري، امتلأت أجنحة علاج الكوليرا في بلدة طويلة بولاية شمال دارفور بالمرضى الذين تمددوا على أسرّة متواضعة، فيما برزت أنابيب المحاليل الوريدية في مشهد يعكس قسوة الوباء. وأكدت منظمة "أطباء بلا حدود" في بيان لها الخميس أنّ السودان يشهد "أسوأ تفشٍ للكوليرا منذ سنوات".
المنظمة الطبية الدولية أشارت إلى أنّ انتشار المرض لم يعد محصورًا داخل حدود السودان، محذّرة من أنّه قد يفاقم تفشيات مماثلة في دول الجوار خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
عبور الحدود وتحذيرات أممية
قال شيلدون ييت، ممثل منظمة اليونيسف في السودان، إنّ "الوباء تجاوز الحدود بالفعل نحو جنوب السودان، وهو الآن يعبر إلى تشاد". وأضاف: "ما لم نتمكن من احتواء هذه الأزمة، فإنها ستستمر في التمدد عبر الحدود لأسابيع وربما أشهر".
ووفقًا لبيانات أطباء بلا حدود، سجّل السودان منذ إعلان وزارة الصحة عن التفشي قبل عام ما يقارب 100 ألف حالة اشتباه بالكوليرا، وأكثر من 2400 وفاة مرتبطة بالمرض، بينها 40 وفاة في أسبوع واحد فقط في إقليم دارفور الغربي.
طويلة: بؤرة جديدة للوباء
بلدة طويلة، الواقعة على بعد 70 كيلومترًا من مدينة الفاشر - آخر معقل للجيش السوداني في دارفور والمحاصر منذ أكثر من عام - أصبحت مركزًا رئيسيًا لتفشي المرض. فالبلدة تستضيف مئات الآلاف من النازحين الذين فرّوا من أعمال العنف المستمرة.
لكن المخيمات التي لجأ إليها السكان تعاني من انعدام المياه النظيفة، وغياب البنى التحتية الصحية، ما يضطر العائلات إلى الشرب من مصادر ملوثة. وقال سيلفان بانيكو، منسق مشاريع المنظمة في طويلة، إنّ "الأسر كثيرًا ما تضطر للشرب من مياه ملوثة، مما يؤدي إلى إصابة الكثيرين بالكوليرا". وأضاف: "قبل أسبوعين فقط، عُثر على جثة داخل بئر في أحد المخيمات. ورغم إخراجها، أُجبر الناس بعد يومين على استخدام البئر نفسه للشرب".
Related منظمة الصحة العالمية: نحو 100 ألف إصابة بالكوليرا في السودان منذ يوليو الماضيالسودان: مقتل 40 مدنياً في هجوم على مخيم أبو شوك.. واتهامات بـ"إعدامات ميدانية"مجددًا الدعوة لنزع السلاح من الخرطوم.. قائد الجيش السوداني يعلن شروطه لوقف القتالالمرض وعوامل الفتك
الكوليرا تنتقل عبر تناول مياه أو أغذية ملوثة، وتزدهر في البيئات المكتظة التي تفتقر للصرف الصحي. وهي تقتل عبر تجفيف أجساد المصابين نتيجة الإسهال والقيء الحادين، ويزداد خطرها مع سوء التغذية. ورغم أنّ علاجها زهيد الثمن وبسيط، فإنّ صعوبة الوصول إلى الأدوية في مناطق النزاع تزيد من حدتها.
الحرب والكارثة الإنسانية
السودان غارق في حرب دامية منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في نيسان/أبريل 2023. إقليم دارفور، الذي تسيطر عليه بدرجة كبيرة قوات الدعم السريع، كان من بين أكثر المناطق تضررًا، حيث اجتمع النزوح الجماعي مع المجاعة وانتشار الأمراض.
وقالت اليونيسف هذا الشهر إنّ القتال في شمال دارفور وضع أكثر من 640 ألف طفل دون الخامسة في دائرة الخطر، جراء الجوع والمرض والعنف. وأضاف ييت: "مع تحرك السكان، يتحرك المرض أيضًا. كلما اعتقدنا أننا سيطرنا على الوباء في مكان، يظهر من جديد في مكان آخر".
الأزمات الإقليمية وتوسع الخطر
لم يقتصر تفشي الكوليرا على السودان. فقد شهدت تشاد تفشيًا في أحد مخيمات اللاجئين القادمين من دارفور ودول أخرى تعاني من موجات وبائية مشابهة. كما أعلنت الأمم المتحدة أنّ جنوب السودان يشهد "أسوأ وأطول" تفشٍ للكوليرا منذ إعلان الوباء في تشرين الأول/أكتوبر 2024، مع تسجيل أكثر من 80 ألف حالة و1,400 وفاة.
وفي أيار/مايو 2025، سجّلت جمهورية الكونغو الديمقراطية 29,392 حالة اشتباه و620 وفاة مرتبطة بالكوليرا. أما أنغولا، فقد وصفتها منظمة الصحة العالمية في تقرير حزيران/يونيو بأنّها تواجه "أسوأ تفشٍ للكوليرا منذ نحو عقدين"، بعد تسجيل أكثر من 26 ألف إصابة و750 وفاة خلال خمسة أشهر فقط.
أزمة تمويل تضاعف المعاناة
قدّمت الولايات المتحدة في عام 2024 نحو 830 مليون دولار كمساعدات طارئة للسودان، وهو أكبر دعم دولي حينها، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. لكن خفض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمساعدات هذا العام أدى إلى إضعاف برامج الإغاثة، بما في ذلك المطابخ الشعبية التي كانت توفر الغذاء للفئات الأشد ضعفًا.
وحذّر ممثل اليونيسف من أنّ تقليص المساعدات فاقم أزمة الكوليرا، مشددًا على أنّ "الأمطار الموسمية، التي تؤدي إلى اختلاط مياه الصرف بالشرب، لم تنتهِ بعد"، مضيفًا: "لدينا بالفعل تفشٍ واسع، وما زالت الأمطار أمامنا".
تفشي الكوليرا في السودان يعكس تداخل الأزمات بين الحرب والنزوح والمجاعة وانهيار الخدمات الصحية. وبينما تحذّر المنظمات الدولية من اتساع رقعة الوباء إلى دول الجوار، تبقى قدرة الاستجابة مرهونة بتأمين التمويل والإمدادات الطبية، إضافة إلى معالجة جذور الأزمة المتمثلة في الصراع المسلح المستمر.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة