خوَنة العصر: تجارُ المبادئ في زمن الانحياز للعدو
تاريخ النشر: 4th, November 2024 GMT
شاهر عمير
في عصر مليء بالتحديات والصراعات، تبرُزُ معركةٌ أُخرى أشدُّ وطأةً، إنها معركةُ المبادئ والأخلاق التي تتناقَصُ قيمُها على أيدي من خانوا ضمائرهم وتخلوا عن رسالتهم تجاه أمتهم.
“خونة العصر” هم فئة أضاعت الطريق الصحيح وانحازت إلى صف الأعداء، متخلية عن القيم الأصيلة والنزاهة، متجردة من كُـلّ مبدأ يربطها بأوطانها وبقضايا الأُمَّــة.
ما يميز هؤلاء الخونة عن غيرهم هو تظاهرهم الكاذب بالنزاهة وارتداؤهم عباءة العروبة، بينما في الواقع يقفون مع من يسعى لتدمير أوطانهم وتمزيق نسيجها الاجتماعي. تجدهم يتحدثون عن الشرف والمبادئ والوطنية، ولكن حينما تحين لحظة الفعل، يثبتون أنهم لا يملكون سوى الكلام الأجوف والشعارات المزيفة، التي يخدعون بها الناس ويتملقون بها الأعداء.
في الوقت الذي تقدم فيه شعوب الأُمَّــة أغلى ما تملك في سبيل الحفاظ على كرامتها وسيادتها، يقف هؤلاء في الطرف النقيض، يشككون في التضحيات ويطعنون في الظهور، مستخدمين وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي للتقليل من جهود المدافعين عن الأُمَّــة، وتشويه صورة المقاومين والوطنيين الحقيقيين الذين يذودون عن الأرض والعرض. إن هؤلاء الخونة لا يكتفون بخيانتهم للضمير الوطني، بل يمارسون التضليلَ والتشويه، ليصنعوا صورةً مزيَّفةً ويضللوا الناس ويقنعوهم بأن الهزيمةَ هي الحل وأن الاستسلام هو الطريق الأسلم.
هؤلاء الخونة لا يمثلون فقط أعداءً داخليين للأُمَّـة، بل هم أدوات في يد العدوّ يستغلها لتحقيق مآربه ومخطّطاته، وهم “الطابور الخامس” الذي يتغلغل في نسيج المجتمعات ليهدمها ويزرع الفتن ويثير الخلافات بين أبناء الوطن الواحد. فبينما يعمل الشرفاء على الحفاظ على وَحدة الأُمَّــة ويقفون في وجه الأعداء، يجدون أنفسهم محاطين بخونة الداخل الذين يتعاونون مع العدوّ لضرب استقرار أوطانهم.
ولم تقتصر خيانة هؤلاء على دعم الأعداء، بل تجاوزوها إلى محاولة تشويه صورة من يقفون بصدق في وجه الظلم. تجدهم يصفون المقاومين بالمغامرين ويقلِّلون من أهميّة التضحيات التي تُبذَلُ للحفاظ على الكرامة والسيادة، بينما في الواقع هم من يبيعون أوطانهم بثمن بخس ويمتثلون لكل إملاءات العدوّ بلا تردّد، متجاهلين آلام الشعوب ومعاناتهم.
إن خونة العصر استرخصوا كرامتهم وكرامة شعوبهم وباعوا تاريخهم ومستقبلهم، لا يدركون أن الشعوب لن تنسى خيانتَهم وأن التاريخ سيسجل مواقفَهم بمداد الخزي والعار. قد يحاولون أن يخدعوا البعض، لكن لا يمكنهم أن يخدعوا الجميعَ إلى الأبد؛ فوعيُ الشعوب وضمير الأُمَّــة سيكشفُهم مهما طال الزمن.
رسالتنا لهم ولكل من تسوّل له نفسه الانحياز للعدو: العروبة ليست كلمات رنانة أَو عبارات جوفاء، بل هي قيم ومواقف، هي التضحية والفداء والوقوف بوجه الظلم مهما كانت التحديات. إن كُـلّ من يقف في وجه المعتدين ويسعى لرفع الظلم عن الأُمَّــة هو من يمثل الأمة بحق، أما من باع ضميره وانحاز للعدو؛ فهو خارج عن دائرة الشرف والقيم.
العروبة ليست سُلعةً تباع وتشترى، ولا وسيلة لتحقيق مصالح شخصية ضيقة، بل هي التزام ومسؤولية تجاه كُـلّ أبناء الأُمَّــة. لذلك، لن يغفر التاريخ ولا الشعوب لكل من تخاذل وباع أرضه وكرامته، ولن يرحم الخائنين الذين يسيئون لأوطانهم ويتآمرون مع الأعداء.
سيبقى الأحرار والشرفاء متمسكين بمبادئهم، يقدمون أرواحهم ودماءهم؛ دفاعًا عن كرامة الأُمَّــة وسيادتها، بينما سيظل الخونة في حضيض التاريخ، مثقَلين بعارهم ومرتهنين بعمالتهم.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
مادلين تُحاصِر الحصار
في زمن تتواطأ فيه السياسة مع النسيان، ويتحوّل الصمت الدولي إلى أداة قتل، توجهت سفينة "مادلين" إلى شواطئ غزة، ولم تكن تحمل سوى 12 ناشطا وناشطة، من جنسيات متعددة، جاؤوا في محاولة رمزية لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة.
لكن، كما كان متوقعا، لم تجد السفينة المتضامنة ميناء أو ترحيبا إنسانيا، بل اعترضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في عرض البحر، وصادرت حريتها، واعتقلت من كانوا على متنها، في خرق فاضح للقانون الدولي، ورسالة واضحة: ممنوع حتى أن تتضامن مع غزة..
أصوات لا سلاح
من بين المعتقلين كانت الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ، التي طالما خاطبت قادة العالم حول أزمة المناخ، لكنها قررت هذه المرة مخاطبة ضميرهم بشأن ما يحدث في غزة. كما ضمّت السفينة النائبة الأوروبية ريما حسن، الممنوعة سابقا من دخول الأراضي الفلسطينية، لكنها قررت أن تعود إليها عبر البحر، في تحدٍّ رمزي لقيود الاحتلال.
ما فعلته "مادلين" يتجاوز محاولة رمزية للوصول إلى غزة، لقد أعادت إشعال نار التضامن الشعبي، وحرّكت وجدانا عالميا كان يُراد له أن يتجمّد أمام مشاهد الإبادة المستمرة في القطاع
كان على متن "مادلين" أطباء وصحفيون ومدافعون عن حقوق الإنسان، لم يحملوا سلاحا، بل شهاداتهم وأصواتهم، لكنهم وُوجهوا بالقمع ذاته الذي يتعرض له من يحاول إيصال حليب أطفال أو أدوية إلى غزة.
الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحظى بغطاء سياسي يكاد يكون مطلقا، لم يكتفِ هذه المرة بمنع السفينة من الرسو، بل قرر أن يعتقل ويشيطن كل من يحاول كسر الصمت. وزير الدفاع الإسرائيلي وصف النشطاء بأنهم "مخرّبون"، وهو توصيف يكشف أن تل أبيب تعتبر كل تضامن فعلا عدائيا، حتى لو صدر عن طبيب يحمل سماعته أو صحفي يحمل قلمه.
من إيطاليا إلى الجزائر.. الشعوب تتحرّك
ومع ذلك، فإن ما فعلته "مادلين" يتجاوز محاولة رمزية للوصول إلى غزة، لقد أعادت إشعال نار التضامن الشعبي، وحرّكت وجدانا عالميا كان يُراد له أن يتجمّد أمام مشاهد الإبادة المستمرة في القطاع.
من الجزائر، جاء الإعلان عن قافلة برّية شعبية تستعد للانطلاق نحو معبر رفح، بمشاركة واسعة من النقابات والمجتمع المدني. رسالة هذه القافلة واضحة: إذا أُغلقت المعابر السياسية، فستُفتح الطرق الشعبية، وإذا خذلت الحكومات، فعلى الشعوب أن تقول كلمتها.
هنا، تبرز المفارقة المؤلمة: أن "مادلين" أبحرت من أوروبا، على متنها أجانب يخاطرون بحياتهم من أجل غزة، في وقت تلتزم فيه دول الجوار بالصمت، وتُحكم فيه قبضتها على حدودها، وكأنها تقف في صفّ الحصار، لا ضده.
غزة: اختبار أخلاقي للعالم
منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تُقصف غزة بشكل يومي، ويُقتل الأطفال تحت الأنقاض، وتُدمّر المستشفيات، وتُجتثّ الأحياء من جذورها. تقارير الأمم المتحدة والهيئات الحقوقية تتحدث بوضوح عن جريمة إبادة جماعية، لكنها لا تجد ترجمة سياسية أو قانونية، سوى بعض البيانات الدبلوماسية المترددة، وأحيانا المتواطئة.
لقد تحوّلت رحلة السفينة إلى لحظة كاشفة، لجبن السياسات، ولشجاعة الضمائر. إلى محطة فاصلة، بين عالم يواصل تجاهل المجازر، وآخر بدأ، في استعادة صوته
في هذا السياق، تصبح كل محاولة رمزية -كرحلة "مادلين" أو قافلة الجزائر- فعلا سياسيا بامتياز، يُحرج المجتمع الدولي، ويضعه أمام مرآة سقطاته. فحين يُجرَّم التضامن، تصبح إنسانيتنا هي المتّهمة.
إن الخطر الأكبر ليس فقط فيما يرتكبه الاحتلال من جرائم ممنهجة، بل في ما لا نفعله نحن. كل دقيقة صمت نمارسها، هي شراكة ضمنية في استمرار هذه الكارثة.
الرسالة وصلت رغم القمع
رغم قمعها ومصادرتها، لم تفشل "مادلين"، على العكس، لقد أوصلت رسالتها بوضوح: أن الحصار لن يكون قدرا دائما، وأن الشعوب حين تتحرك قادرة على إرباك أقوى الجيوش، ولو بقارب صغير.
لقد تحوّلت رحلة السفينة إلى لحظة كاشفة، لجبن السياسات، ولشجاعة الضمائر. إلى محطة فاصلة، بين عالم يواصل تجاهل المجازر، وآخر بدأ، في استعادة صوته.
وإن كانت "مادلين" قد اعتُقلت، فالرمز لا يُعتقل.. وإن مُنعت من الوصول، فقد فتحت الطريق.
إن غزة لم تعد فقط جغرافيا تحت الحصار، بل صارت جرحا مفتوحا في ضمير هذا العالم. وكل قارب يبحر نحوها، وكل قافلة تنطلق باتجاهها، هو محاولة لإعادة وصل ما انقطع بين السياسة والأخلاق. وإذا كانت الحكومات قد قررت أن تنسحب من المعركة، فلتتقدّم الشعوب.