لا نجد وصفا مناسبا للحالة السياسية التونسية هذه الأيام سوى أن الجميع مصاب بحالة من الكِبر تمنعهم جميعهم، سلطة ومعارضة، من النظر إلى قصورهم وعجزهم، فلا يتنازل منهم طرف لصالح البلد والناس الذين تستمر معاناتهم في تدبير الضروري من الأقوات.
نلاحظ وجود تلك الفئة من الناس التي لا تهتم بما يجري حولها وتهز كتفيها ماضية في سعيها إلى سعادتها الخاصة، وهي نفس الفئة التي لم تفرح بالثورة ولم تحزن لانكسارها، وهذه الفئة تُظهر الآن سلوكيات تتخذها السلطة ذريعة للاستمرار في غيّها.
كِبر السلطة ليس غفلة
المؤشرات تتجمع لتجعل الحل السياسي يسبق الحل الاقتصادي، والحل السياسي يمر بالضرورة بالحديث مع المعارضة بكل أطيافها بمن فيها القيادات القابعة في السجون. مثل هذه الحديث يعني في بعض جوانبه التراجع عن تجميع السلطة في يد شخص واحد، ثم سماع عقول لم تغادر البلد ترى الحل السياسي ينطلق من هذه النقطة
هذه الفئة الاستهلاكية ليست كاشفة بما يكفي لحالة البؤس التي تتردى فيها فئات هشة فقدت كل أمل في الخروج من طوابير الخبز اليومية، وكِبر السلطة هنا أنها لا تريد أن ترى الهوامش التي تتسع من حولها. مؤشرات الاقتصاد كلها تعري العجز العام، فالأسعار في ارتفاع مستمر والمواد الضرورية مفقودة ولا يبدو أن هناك حلا سريعا يفرج الأزمة.
أخبار القروض الخارجية غير مبشرة والنظام أو بالأحرى الرئيس الماسك بكل السلطات لا يجد منفذا نحو السوق المالية الخارجية، أما الاقتراض الداخلي فقد توقف تقريبا لأن البنوك التجارية فقدت السيولة وهذه أخبار متداولة في غير القنوات الرسمية.
كل هذه المؤشرات تتجمع لتجعل الحل السياسي يسبق الحل الاقتصادي، والحل السياسي يمر بالضرورة بالحديث مع المعارضة بكل أطيافها بمن فيها القيادات القابعة في السجون. مثل هذه الحديث يعني في بعض جوانبه التراجع عن تجميع السلطة في يد شخص واحد، ثم سماع عقول لم تغادر البلد ترى الحل السياسي ينطلق من هذه النقطة.
لكن هل يسمع الرئيس المطلق لحديث العقل السياسي ويذهب إلى اتفاقات سياسية؟ على يقين تام من أن الكِبر الذي يملأ رأس الرئيس لا يسمح له بأي تراجع عقلاني عن مساره الذي يزيّن له ما يفعل، بل تصدر منه عبارات موحية بأنه يوحى إليه.
كِبر المعارضة أكبر
المعارضات الكثيرة وصلت إلى يقين أنها لن تفلح في إزعاج النظام/ الرئيس. فهي أولا شتات بلا أحجام في الشارع، وهي ثانيا واقفة عند التشنيع على الرئيس وحكومته مثلها مثل أي مدون هاو في الفيسبوك؛ فلا اقتراحات ولا مشاريع سياسية. وفي الأثناء أيقنت هذه المعارضات أنها لا تزن ريشة في الشارع دون حزب النهضة، لكنها عند وضع ميزانها تجد أن أي اقتراب من حزب النهضة يخسرها مكاسب سياسية قدمها لها الانقلاب وخلاصتها تحجيم النهضة وتفتيت قدراتها، وهي مكاسب لم تصل إليها بجهدها رغم أنها وصلت إلى تحالف مع الفاشية في البرلمان وفي الشارع. وهذا الأمر يعيدها إلى نقطة الصفر التي كانت فيها قبل الانقلاب، لذلك فهي تكابر أن تعترف بأن توحيد صفوف المعارضة مع حزب النهضة هو الكفيل بإعادة امتلاك الشارع والذهاب به إلى وضع حد للانقلاب.
ونخال بيقين أن طيفا واسعا من المعارضة الآن كامن يتربص بأحد أمرين؛ إما عطف الانقلاب عليه وإفاضة بعض خيره على كوادرها فالتغيير الحكومي تم والمناصب متاحة، أو انتظار سقوط النظام من تلقاء نفسه للظهور في لحظة الصفر كقوى إنقاذ من الأزمة، وطبعا استحضار خطاب مقاومة الارهاب الذي يعني في تونس مقاومة عودة النهضة، ثم تسويق أنفسهم للخارج (الفرنسي منه خاصة) كقوى تقدمية ديمقراطية معادية للرجعية والظلامية.. إلى آخر الأسطوانة التي عاش منها بن علي ربع قرن.
هذا الكِبر السياسي على الجانبين يدمر البلد ويجعل حياة الناس ضنكا، لكن طرفيه يعيشانه بيقين تام بأنه الحل الوحيد كي لا تظهر في الصورة قوى إسلامية تعرف كيف تستفيد من صندوق انتخابي.
تونس السياسية واقفة هنا، لا مجال لأي حل سياسي يُشرك حزب النهضة وأحزمته في الحل، وحتى الشخصيات السياسية التي تجاوزت هذا الموقف الاستئصالي ممنوعة من الكلام ومحاصرة في قوتها وبعضها في السجون.
هذا الكِبر السياسي على الجانبين يدمر البلد ويجعل حياة الناس ضنكا، لكن طرفيه يعيشانه بيقين تام بأنه الحل الوحيد كي لا تظهر في الصورة قوى إسلامية تعرف كيف تستفيد من صندوق انتخابي
عنق الزجاجة مغلق أيضا
النظام/ الرئيس يقتات من فرقة معارضيه.. كتبنا هذا مرات كثيرة وأظن أنه صار يقينا عند كثيرين ربما وصلوا إليه من طرق مختلفة، ولا نعلم موقف القوى الصلبة مما يجري فهذه منطقة ممنوعة وتعوزنا حولها المعطيات لذلك لا يمكننا وضع موقفها في سياق تحليل.
لكن كل ذي نظر يرى أن البلدة "حابسة وتمركي"، وهي عبارة تونسية تصف وجع راكب التاكسي الذي وقع في زحمة سير فلا هو يتقدم فتخف الكلفة ولا عداد التاكسي يتوقف ويرحمه.
وقد كانت هناك فكرة رائجة عن قدرة النخب السياسية التونسية في إيجاد توافقات وعقد صفقات وتوليد مخارج من عنق الزجاجة لكن الرئيس سد عنق الزجاجة أيضا، والطيف الاستئصالي رمى الزجاجة في البحر. هذه القدرة توقفت ولا تبدو النخب قادرة على توليد مخرج، ورئيس الحكومة الجديد لم يأت لحل أزمة فلا ماضي له ولا قدرة معروفة تسمح له بذلك.
كنا نتحدث طيلة فترة عشرية الحريات عن العودة السياسية التي تنهي عطلة الصيف وتفتح النقاشات في الشأن العام مع بداية شهر أيلول/ سبتمبر، ونحن نرى شهر أيلول/ سبتمبر يقترب ولا حديث عن عودة سياسية، بل تتواتر أخبار المساجين المرضى الممنوعين من الأطباء.
وحتى الذين كانوا ينتظرون حلا من الخارج نراهم مذهولين من حجم ردة الفعل على انقلاب النيجر وغضب الديمقراطيين الأفارقة على عسكر النيجر الانقلابي، لكن لا أحد في تونس تذكر موقفا شجاعا للأفارقة الديمقراطيين فجأة من انقلاب تونس. لقد تذكر الجميع أن ليس لتونس يورانيوم لمفاعلات فرنسا، ولذلك لا أحد اهتم بكسر عنق الزجاجة في تونس لتأمين خروج التونسيين نحو الهواء النقي.
بقي أن نذكّر بأن شهر أيلول/ سبتمبر هو موسم زراعة الجزر الشتوي، والتونسيون يحبون الجزر كثيرا مثل أرانب الحكايات ووجوه استعمال الجزر عندهم متعددة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية الإنقلاب تونس أزمات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحل السیاسی
إقرأ أيضاً:
ما تأثير التحقيقات ضد قادة المعارضة على المشهد السياسي التركي؟
أنقرة- تتصاعد في تركيا موجة قضائية جديدة تضع رمزين بارزين من المعارضة تحت مجهر الاتهام، في مشهد يزيد من سخونة السجال السياسي قبيل أي استحقاقات انتخابية مقبلة.
فقد منحت وزارة الداخلية إذنا رسميا بفتح تحقيق ضد رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش على خلفية شبهات تتعلق بإساءة استخدام المنصب، في حين وافقت محكمة جنائية في إسطنبول على لائحة اتهام غير مسبوقة ضد رئيس البلدية المعزول أكرم إمام أوغلو، تطالب بعقوبات تصل إلى أكثر من ألفي عام سجن في قضية يُزعم أنها الأكبر من نوعها في تاريخ البلاد.
وأشعلت الوزارة فتيل مواجهة جديدة مع المعارضة بإصدارها قرارا يخول النيابة العامة في أنقرة فتح تحقيق رسمي بحق يافاش وسكرتيره الخاص، على خلفية مزاعم تتعلق بـ"سوء استخدام السلطة" و"الإهمال في الرقابة" المرتبط بإنفاق البلدية على حفلات موسيقية خلال الفترة الممتدة من 2021 إلى 2024.
وبحسب ملف التحقيق الذي فتح رسميا في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، فإن الاتهامات تتركز على شبهات هدر للمال العام في تنظيم 32 فعالية فنية، قُدرت خسائرها بنحو 154.5 مليون ليرة تركية (نحو 3.68 ملايين دولار).
وقد أفضى التحقيق إلى توقيف 14 موظفا حاليا وسابقا من العاملين في المديرية الثقافية للبلدية، من بينهم مديرو فروع ورؤساء أقسام، إضافة إلى أصحاب شركات تعاقدت مع البلدية. ويواجهون تهما تتعلق بالتلاعب في المناقصات وسوء استخدام المنصب. وفي حال إدانتهم، قد تصل عقوباتهم 18 عاما سجنا لكل فرد.
من جانبه، رفض يافاش بشدة هذه الاتهامات، واعتبر منح الإذن بالتحقيق ضده بمثابة استهداف سياسي محض. وقال في بيان نشره على منصة "إكس"، إنها "ازدواجية معايير سافرة، وسنطعن في القرار أمام مجلس الدولة دون تأخير".
إعلانوأوضح أن وزارة الداخلية كانت قد أوفدت مفتشا سابقا للتحقيق في الملف نفسه، وقدم حينها إفادة خطية شاملة دون أن يُستدعى للتحقيق المباشر، مشيرا إلى أن إعادة فتح الملف اليوم يمثل انتقائية صارخة في تطبيق القانون.
لم تمر هذه الخطوة القضائية دون ردود غاضبة من المعارضة، حيث اعتبر رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل أن ما يتعرض له يافاش لا ينفصل عن السباق نحو الانتخابات الرئاسية المقبلة. وقال "يافاش واحد من أقوى المرشحين الذين نعتزم الدفع بهم إذا لم يتمكن إمام أوغلو من الترشح، وما يجري بحقه الآن ليس سوى محاولة استباقية لإبعاده من المشهد السياسي".
عاصفة اتهاماتفي تطور قضائي هو الأضخم من نوعه في تاريخ الجمهورية، تواجه بلدية إسطنبول وقيادتها السابقة عاصفة اتهامات تقف على رأسها شخصية رئيس البلدية المعزول أكرم إمام أوغلو، أحد أبرز وجوه المعارضة التركية.
وقدمت النيابة العامة لائحة اتهام ضخمة من 3 آلاف و900 صفحة إلى المحكمة الجنائية العليا الأربعين في إسطنبول، وُصف فيها إمام أوغلو بأنه "زعيم تنظيم إجرامي هدفه تحقيق مكاسب غير مشروعة"، ضمن شبكة يزعم أنها اخترقت مفاصل البلدية على مدى عقد كامل.
المحكمة وافقت رسميا على اللائحة في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فاتحة الطريق لمحاكمة علنية وشيكة لم يعلن عن موعدها بعد. وتضم القضية 402 متهما، منهم 105 قيد الاحتجاز، ويتوزعون على مستويات إدارية مختلفة داخل بلدية إسطنبول.
أما إمام أوغلو وحده، فيواجه 142 تهمة منفصلة تشمل تأسيس وقيادة منظمة إجرامية، والرشوة، والتلاعب بالمناقصات، والاحتيال على المؤسسات العامة، وغسل الأموال، وانتهاك قوانين البيئة والضرائب، إلى جانب اتهامات إضافية بجمع وتسريب بيانات شخصية، وإتلاف أدلة جنائية، وعرقلة الاتصالات الرسمية.
وتطالب النيابة العامة بعقوبات تصل إلى ألفين و430 عاما من السجن بحقه. ووفقا للائحة الاتهام، فإن إمام أوغلو يحمل قانونيا مسؤولية كل الجرائم التي نسبت لأعضاء الشبكة المزعومة بصفته قائدها الأعلى.
وتصور النيابة القضية على أنها "تنظيم هيكلي" متجذر داخل مؤسسات البلدية، أطلقت عليه وسائل الإعلام وصف "الأخطبوط"، ويتهم بتوجيه موارد البلدية لتحقيق منافع غير قانونية. وحسب المدعي العام أكن غورلك، فإن هذه الشبكة تسببت بخسائر قدرت بـ160 مليار ليرة تركية (24 مليون دولار) خلال 10 سنوات.
أحد أقوى الأقطاب السياسية في المعارضة التركية إذ كاد ينافس #أردوغان على كرسي الرئاسة.. رئيس بلدية #أنقرة ومرشح حزب الشعب الجمهوري لرئاستها منصور يافاش#الجزيرة_بروفايل pic.twitter.com/o5WwiTsExT
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 31, 2024
سياق سياسييرى عضو حزب الشعب الجمهوري في مدينة بورصة برهان الدين يلتشين أن تزامن التحقيقات القضائية مع كل من أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش لا يمكن قراءته بمعزل عن سياق سياسي أوسع، معتبرا أنه مسار ممنهج لضرب أبرز رموز المعارضة الذين يتمتعون بثقة الشارع.
وقال للجزيرة نت إن هذا التصعيد يأتي بعد سلسلة من الانتصارات التي حققها الحزب في البلديات الكبرى، مؤكدا أن تلك الملفات لن تدفعه إلى تعديل بوصلته بشأن مرشحيه، بل تعزز القناعة بأن المستهدفين هم الأقدر على قيادة التغيير.
إعلانوختم "من يظن أنه قادر على رسم خياراتنا باستخدام القضاء، يسيء فهم إرادة هذا الشعب. حزبنا سيبقى داعما لكل شخصية يراها مؤهلة لخوض المعركة السياسية مهما بلغت الضغوط".
من جانبه، يرى المحلل السياسي التركي جنك سراج أوغلو أن فتح الملفات القضائية بحق شخصيات مثل إمام أوغلو ويافاش يحمل تداعيات معقدة على المزاج الانتخابي، مشيرا إلى أن السلطة قد تستفيد تكتيكيا من شغْل المعارضة بمعارك قضائية تضعف تركيزها السياسي.
لكنه في المقابل شدد على أن هذا النوع من التصعيد قد يرتد سياسيا، خصوصا إذا قرأه الناخب التركي على أنه موجه ومسيس، ما من شأنه أن يعزز خطاب "المظلومية" الذي لطالما استخدمته المعارضة لتوحيد قواعدها، وتحفيز قطاعات مترددة من الناخبين، وعلى رأسهم الشباب.
وأكد سراج أوغلو للجزيرة نت أن استبعاد وجوه بارزة لا يضمن للحكومة معادلة انتخابية أسهل، بل ربما يدفع المعارضة إلى مزيد من التماسك، ويحول الغضب الشعبي إلى طاقة انتخابية منظمة.