الرواية.. بين الانتصار للحقوق وإملاءات الجوائز
تاريخ النشر: 25th, November 2024 GMT
لا تزال الساحة الثقافـية بين ضفتي المتوسط مشغولة بقضية الكاتب الفرنسي الجنسية الجزائري الأصل كمال داود، الحائز مؤخرا على جائزة «غونكور» الفرنسية، التي لا تتجاوز قيمتها المالية أكثر من عشرة يورو، ولكن للجائزة قيمة معنوية تمنح الرواية الفائزة شهرة واسعة فـي البلدان ذات الثقافة الفرنكوفونية، التي تُعد هذه الجائزة إحدى قواها الناعمة والمغرية للكُتّاب بلغة فولتير، مع أن هذه الجوائز تُخضِع الأدب القادم من العالم الثالث لمواصفات وشروط الذائقة الأوروبية والفرنسية على وجه التحديد، كما ذكر ذلك الكاتب الفرنسي جان ــ لو أمسيل فـي كتابه «اختلاق الساحل» الذي راجعه الكاتب بابا ولد حرمه ونشره فـي الموقع الإلكتروني لمركز الجزيرة للدراسات.
هكذا إذن يُقيّم المثقف الأوروبي للجوائز الأدبية التي تمنحها الدول الاستعمارية لمستوطناتها القديمة، ويذُكرنا ذلك بالمثل الإنجليزي القائل «من يدفع للزمار يختار اللحن». فالجوائز الأدبية التي تُمنح الشُهرة للعمل الأدبي، قد تؤثر على المواضيع التي يتناولها الأدب ويُتهم كتابها بالسعي إلى الشهرة على حساب القيم الوطنية والنيل من مكانة الدولة، مع العلم بأن الكتابة التي تدين العنف وتفضحه وتعريه هي كتابة مرحب بها، نظرا لأن وظيفة الأدب ليست المؤانسة والإمتاع، وإنما وسيلة من وسائل الانتصار للمظلوم ورفع الضيم عنه، ولكن للأسف يتم أحيانا توظيف الكتابة لأجندة سياسية قذرة تُستغل وتتحول إلى وسائل ابتزاز وضغط على بعض الدول، وهذا أحد أسباب الجدال «حسب رأيي» حول رواية حوريات، التي منحها محكمو الجائزة ستة أصوات من أصل عشرة للجنة التحكيم.
وبصرف النظر عن مواقف الكاتب كمال داود من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، فإنه لا يجوز محاكمة الكُتاب على أفكارهم شريطة ألا تتحول الكتابة إلى كآبة يتضرر منها آخرون كحال الشابة الجزائرية سعادة عربان (30 عاما) التي أفشت طبيبتها النفسية أسرارها لزوجها الكاتب كمال داوود وحكت الرواية قصتها الحقيقية، فأصبحت سعادة ضحية مرتين. مع التأكيد على أننا لم نكن لنعرف مأساة سعادة لولا رواية حوريات، كما لم نتعرف على مقتل الشاعرة الأفغانية ناديا انجومان التي قتلها زوجها عام 2005، لولا رواية حجر الصبر للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، الذي كشف المعاناة التي تتعرض لها المرأة فـي أفغانستان تحت حكم سلطات قامعة لكل حق فـي الحرية. وهنا تكمن سلطة الكتابة وسطوتها فـي التأثير على الرأي العام، وهنا لا بأس أن تتحول الرواية إلى ساحة جدال.
أما بخصوص الجوائز الثقافـية الغربية فتُعد المأساة الفلسطينية محكا لها وللفاعلين الثقافـيين من كتاب وإعلاميين وأكاديميين، فإما الانتصار للعدالة الإنسانية أو الخضوع لأهواء اللوبيات الداعمة للكيان الصهيوني، والتي تمارس نفوذها فـي المؤسسات الثقافـية الغربية، وهنا نستذكر ونُذكّر بحادثة الكاتبة والروائية الفلسطينية عدنية شبلي التي ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل منحها جائزة «ليبراتور»، بسبب أحداث السابع من أكتوبر. لذلك لا ننتظر من المحكمين لجائزة «غونكور» تتويج أي عمل أدبي يتناول القصص الإنسانية للإبادة الجماعية فـي فلسطين وجنوب لبنان، وغيرها من قصص ضحايا الحروب التي مارسها الغرب حديثا فـي المنطقة العربية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
الكاتب ونصوصه في مواجهة السطوة الرقمية
يدور في هذه الفترة بخاطري موضوع مهم يتعلّق بدور الكاتب في عصر الهيمنة الرقمية، الذي فرض للمعرفة والثقافة قوانين جديدة، تتمثّل فيها مظاهر السطحية والسرعة، والانتحال الرقمي، الذي استُبدِل بالإبداع البشري الصميم، والبيئة الثقافية الجديدة، التي اقتنصها بعضُ مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي لملء هذه الفوضى في الوسط الثقافي، سواء عبر تفاعلهم المفيد أو الضار.
في فحوى هذه القضية، كنت في نقاش مع صديقٍ لي نتحدث فيه عمّا إذا كانت المقالات التي ننشرها في الصحف، وكذلك الكتب التي نصدرها عبر دور النشر، ما زال لها حضورها القوي، وما زال لها قرّاء يبحثون عنها ويستمتعون بقراءتها، أم أن جمهورنا ـ أو جمهور المقالات والكتب ـ فقد الشغف بقراءة ما نكتبه وننشره، سواء بصيغته الورقية أو الإلكترونية؟
كان النقاش يستند إلى ما يمكن أن نلمسه في واقع مجتمعنا، وإلى ما نسمعه ونناقشه، وما يعكسه لنا الأصدقاء من تجارب وانطباعات؛ فوصلنا إلى نتيجة مفادها أن ثمّة عزوفًا عن قراءة الصحف مقارنة بالسنوات الماضية التي لم تكن فيها الأدوات الرقمية مهيمنة كما نراها اليوم؛ فهناك الآن عدد قليل من القرّاء أو متابعي الصحف، وبشكل أكبر الصحف الورقية التي تكاد تفقد حضورها في أماكن كثيرة، مع بعض الاستثناءات؛ إذ ما زالت الصحف الورقية متداولة في بعض المؤسسات الحكومية أو الخاصة باعتباره نوعًا من الإجراءات أو العادات التقليدية الحميدة، والتي نتمنى أن تستمر.
كذلك هناك الصحف الإلكترونية أو النسخ الإلكترونية للصحف الورقية، ولكن نلحظ أيضا فقدان هذه النسخ الرقمية لحضورها ونشاطها وتداولها سنة بعد أخرى؛ خصوصا مع تزاحم أدوات التواصل الاجتماعي، وتضاعف محتوياتها المختصرة والسريعة.
لا يمكن أن ننكر أننا الآن في عصر السرعة؛ حيثُ باتت الثقافة مختزلة في أنماط بسيطة وسريعة جدا؛ مثل «تغريدة»، أو نصوص قصيرة تُنشَر في وسائل التواصل الاجتماعي.
كذلك نجد هذا الأثرَ في عالم الكتب؛ فلا يكاد نجد للكتب ـ في وقتنا الحالي ـ من يقرؤها إلا عددا محدودا، وفي نطاق ضيّق. والسبب ذاته، هو أننا في عصر السرعة، وكذلك في عصر الهشاشة الثقافية.
لست هنا بصدد مناقشة هذا الأمر من الناحية الاجتماعية أو النفسية أو السلوكية، ولكن أنظر إليه من زاوية الواقع، وعبر ما يمكن لدور النشر وأصحاب المكتبات أن يسردوه لنا عن هذه الأزمة المعرفية.
في المقابل، يمكن -على سبيل المثال- أن نشهد وجود منصات مرئية تعمل على تلخيص الكتب؛ فيمكن أن نجد كتابا تتجاوز عدد صفحاته 300 صفحة أو أكثر، ويقوم المؤثر أو صاحب المحتوى بتلخيصه في 30 دقيقة أو 20 دقيقة أو أقل. لا بأس في ذلك من حيث المبدأ، ولكن المشكلة أن هذه الظاهرة أسهمت ـ بشكل سلبي ـ في القضاء على ثقافة القراءة، أو على الأقل أضعفت سلوك القراءة، الذي بات يتجه إلى منحنى ضيّق وخطر.
إلى جانب تراجع القراءة وسطوة المحتوى السريع، ثمّة ظاهرة أخرى أضحت دخيلة وخطيرة، تهدد هيمنة الكاتب وحضوره الثقافي، بل وتهدد كذلك استمرارية شغفه بالكتابة، وهي ظاهرة الكتابة عبر النماذج اللغوية الاصطناعية التوليدية؛ حيثُ أتاحت هذه النماذج المجال للجميع قدرة توليد النصوص وابتداعها؛ لتزعزع هذه الظاهرة من ثقة الكاتب الصميم بالوسط الثقافي الذي يتحرك فيه، وأثّر في رغبته واستمرارية شغفه بالكتابة.
وأرى أن هذه الظاهرة أصبحت من المهددات الحقيقية، ومن التحديات المقلقة للكاتب، خاصة مع ظهور فئة أمكن لها أن تعشعش في منطقة رمادية لا تتضح فيها الحدود بين الإبداع البشري والإبداع الرقمي، وتحديدا إبداع الآلة المتمثّلة في الذكاء الاصطناعي، وهذه المشكلة المتعلقة ـ في لبِّها ـ بجذوة الثقافة ونارها، سبق أن تحدثنا عنها في مقالات سابقة، غير أني أراها جزءًا من المشكلة الكلّية التي نحتاج أن نفهمها بعمق، وأن نربطها بموضوعنا الحالي فيما يتعلق بدور الكاتب وأزمته في عصر الهيمنة الرقمية.
نعود إلى قضية مقالنا الرئيسة، ونحاول أن نحدد كيف يمكن للكاتب التقليدي، الذي ما زال شغوفًا بالكتابة، أن يواصل كتابة المقالات والكتب بأسلوبه الإبداعي الذي يعكس بنات أفكاره المستمدة من تأملاته المعرفية ومعارفه المتاحة في أودية المعرفة المتعددة؛ من كتب، ومصادر رقمية، وما شابه ذلك؟
وكذلك نريد أن نرى: كيف يمكن لهذا الكاتب أن يقتحم الوسط الرقمي ويؤثر فيه؟ أو بالأحرى أن نسأل: هل هذا الكاتب بحاجة إلى أن يتجدد، ويجدد أساليبه وخطابه في تعامله مع جمهور القرّاء الذين في عصر السرعة الرقمية، لم يعُد كثيرٌ منهم يهتم بما يُكتب في الصحف أو في الكتب؟
لعلّ ذلك يقودنا هذا إلى محاولة فهم معادلة مهمة: هل نحن بحاجة إلى أن نفهم القدرات والأساليب التي امتلكها صنّاع المحتوى في وسائل التواصل الاجتماعي ومؤثِّروها، أو مَن يُطلَق عليهم «المشاهير»، وقدرتهم على جذب انتباه الجمهور وسحر عقله؟
قبل أيّ محاولة في الإجابة ووضع الحلول، علينا الإقرار أن بعض المؤثّرين أو المشاهير استطاع أن يستغل ثغرات الثقافة ومعوقاتها ويعيد طبخها بأسلوب يناسب ذائقة الجمهور الرقمي، أو بأسلوب يبحث عن الثقافة في قالبٍ رقمي سريع. ولكن علينا أن ندرك أيضا أننا ـ حينها ـ أمام معضلة أخرى، تتمثّل في انتكاسة ثقافية ناتجة عن اختزال الثقافة في شكل سطحي لا يحرك شغفَ المعرفة، ولا يستفز العقل البشري، ولا يدفعه إلى الدهشة والتعمّق لفهم جذور المعرفة العميقة.
لتتبع هذه المعضلة وجذورها، نستدل بواقعنا الإنساني عبر التاريخ، إذ شهدت الإنسانية الابتعاد ـ من قبل ـ عن أُمّهات الكتب؛ فصار كثيرون يبحثون عن شروحات أصول المعرفة وملخّصاتها، وهذا حصل قبل سنوات، مثل الذي نجده في حقل الأدب العربي واللغة العربية؛ إذ ظهرت كثيرٌ من الكتب التي تلخّص أو تشرح أصول اللغة العربية وقواعدها، وكذلك كثرت الكتب التي يُقال إنها تُعنى بالأدب العربي، بينما قلَّ الإقبال على أُمّهات الأدب العربي التي أراها الأهم والأجدر بالقراءة.
هذا ما يضارع أزمة الكاتب ومقالاته وكتبه؛ فنجد من يبتعد عن قراءة المقالات والكتب، ويتجه بدلا من ذلك إلى المحتوى السريع الذي يلخّص الثقافة والكتب والمقالات.
لكن نأتي إلى سؤالنا المهم الذي نريد أن نجيب عنه: هل يمكن للكاتب أن ينتقل ويواكب هذا الواقع الجديد؟
نعم، أرى أن ذلك ممكن، وأعرف من الأصدقاء الكتّاب من أدركوا ذلك مبكّرًا؛ فأدركوا ظاهرة العزوف عن القراءة، وأن القارئ أو الجيل الحالي لم يعُد يبحث عن القراءة الطويلة أو القراءة التقليدية، وإنما يبحث عن المعرفة الرقمية التي تُستَقبَل عبر الأدوات والمنصّات الرقمية.
لهذا بدأ هؤلاء يبحثون عن أساليب جديدة تناسب هذا العصر بجانب محافظتهم على أسلوبهم التقليدي في كتابة المقالات والكتب وحفظهم للعرف الثقافي؛ فانتقلوا إلى المنصّات الرقمية، واستطاعوا بواسطتها أن يخترقوا العقل البشري المتشبّث بالواقع الرقمي وأدواته، ويعيدوا ضخ ما يكتبونه في المقالات أو الكتب عبر «حقن» معرفية صغيرة، تناسب درجات الاستيعاب، وعوامل السرعة المطلوبة لدى العقل الجديد الذي لم يعُد يبحث إلا عن المعرفة السريعة.
كذلك أدركتْ كثيرٌ من دور النشر والصحف هذه المشكلة، وانتقل كثيرٌ منهم إلى البيئة الرقمية؛ سواء عبر الكتب الإلكترونية، أو عبر الصحف الإلكترونية، أو عبر التحول إلى «البودكاست»، والمحتوى المرئي بعمومه، والمنشورات الصغيرة والسريعة التي يمكن عن طريقها الوصول إلى القارئ.
لكننا ما زلنا بحاجة إلى أن نعيد القارئ إلى منطقة العمق المعرفي، ولستُ بصدد أن أضع كل الحلول في هذا المقال، ولكن أتركه مفتوحا للجميع؛ ليفكّروا بجدية في إيجاد حلول لمثل هذه التحديات الثقافية والمعرفية.
د. معمر بن علي التوبي / أكاديمي وباحث عُماني