الأسرة العربية.. نبض القيم وأساس الحضارة
تاريخ النشر: 8th, December 2024 GMT
د. حامد بن عبدالله البلوشي **
shinas2020@yahoo.com
في السابع من ديسمبر من كل عام، تتزين الصفحات العربية باحتفال يفيض بالمشاعر النبيلة، وتضاء خلاله شموع المحبة والوفاء، احتفاءً بيوم الأسرة العربية. وهو يومٌ يعكس المعنى العميق للأسرة، باعتبارها الركيزة الأساسية التي تبنى عليها الأمم. ويستعيد فيه المجتمع قيمة الأسرة بوصفها حجر الأساس لبناء الإنسان، ومصدر قوته الأخلاقية والنفسية؛ فالأسرة هي الحضن الأول الذي يجد فيه الفرد الأمان والحب، وهي المؤسسة التي تنقل من خلالها القيم والتقاليد، وهي المنهل الأول للأخلاق التي تشكل هويتهم، وترشدهم في مواجهة تقلبات الحياة، لتصبح رابطًا متينًا بين الأجيال.
ومنذ نعومة أظفاره، يجد الإنسان في الأسرة دفء الحياة ومعناها. إنها المدرسة الأولى التي تعلمه دروس الحب والحنان، وتزرع فيه بذور المسؤولية والالتزام. الأسرة هي البيئة التي تتشكل فيها شخصية الفرد، وهي الداعم والمُعين الذي يقف معه في لحظات الضعف والتحدي. وقد أكدت الدراسات النفسية والاجتماعية أنَّ الفرد الذي ينشأ في أسرة مستقرة ومترابطة يحقق نجاحات أكبر في حياته، ويكون أكثر قدرةً على مواجهة صعوبات الحياة.
وقد جاء الإسلام ليعلم البشرية قيمة الأسرة ويرسخ مكانتها، فجعل صلة الرحم عبادةً عظيمةً يتقرب بها الإنسان المؤمن إلى الله عز وجل، ويثاب عليها الإنسان المسلم، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالإحسان إلى الأهل والقرابة، فقال جل وعلا: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ﴾ (النساء:1). كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
وفي حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نجد أسمى النماذج في الاهتمام بالأسرة. فقد كان الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أبًا حنونًا، وزوجًا وفيًا، وجدا عطوفًا. كان يحرص على مشاركة أهل بيته تفاصيل الحياة اليومية، وكان يقول: "خيركم؛ خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
وقد أولت الثقافة العُمانية الأسرة مكانةً عظيمةً؛ حيث تعتبر الروابط العائلية أساس تماسك المجتمع العُماني. يحرص العُمانيون على الحفاظ على صلة الرحم، وزيارة الأقارب، والالتفاف حول الأسرة في المناسبات السعيدة، والمواقف الصعبة على حد سواء. الأسرة العُمانية ليست مجرد إطار اجتماعي؛ بل هي القلب النابض للقيم والتقاليد التي تعكس الهوية العُمانية الأصيلة.
وتتمتع الأسرة بمكانة محورية في الثقافة العُمانية، حيث تعد الأساس الذي يقوم عليه نسيج المجتمع، ومصدر قوته واستقراره. في عُمان، لا تعتبر الأسرة مجرد رابطة اجتماعية تجمع الأفراد في إطار القرابة، بل هي ميدانٌ لصقل القيم والعادات، وتوارث الأخلاق والفضائل، فهي المهد الذي يغرس فيه حب الوطن، واحترام التقاليد، والالتزام بمبادئ الدين الإسلامي.
وهذا الاهتمام بالأسرة متأصلٌ في الثقافة العُمانية، وقد تعزز من خلال توجيهات القيادة الرشيدة التي تدعم الاستقرار الأسري، وتشجع على بناء أسر متماسكة وقوية، بما يضمن استمرارية القيم التي تميز المجتمع العُماني عن غيره.
ومنذ انطلاق النهضة الحديثة في عُمان، كان للأسرة دورٌ محوري في رؤية القيادة الحكيمة. أدرك السلطان قابوس -طيب الله ثراه- أهمية الأسرة في بناء المجتمع، فوجه برامجه التنموية لدعم الأسرة وتعزيز استقرارها. واستمرت هذه الرؤية الحكيمة في عهد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- حيث أُطلقت مبادرات تستهدف تمكين الأسرة العُمانية، وضمان استدامة أدوارها الحيوية في بناء الإنسان.
وقد قال جلالة السلطان- أعزه الله- في خطابه السامي خلال افتتاح الدورة الثامنة من مجلس عُمان: "إننا إذ نرصد التحديات التي يتعرض لها المجتمع، ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقية والثقافية؛ لنؤكد على ضرورة التصدي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهوية الوطنية، والقيم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتجاهات الفكرية السلبية، التي تخالف مبادئ ديننا الحنيف، وقيمنا الأصيلة، وتتعارض مع السمت العُماني الذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنية".
ورغم أصالة الأسرة العُمانية، إلّا أنها تواجه تحديات عديدةً في العصر الحالي؛ فالتكنولوجيا الحديثة، وضغوط الحياة الاقتصادية، والعولمة والانفتاح الثقافي تعد من أبرز العوامل التي قد تهدد استقرار الأسرة. وهذه التحديات تستدعي وعيًا جماعيًا بأهمية الحفاظ على أسس الأسرة، وصيانة دورها المحوري.
إنَّ الحفاظ على الأسرة العُمانية يتطلب تضافر الجهود بين الأفراد، والمؤسسات الاجتماعية، والحكومة. يجب تعزيز الحوار الأسري، وتقديم برامج تربوية ترسخ القيم الأخلاقية، وتوجه الاستخدام الواعي للتكنولوجيا. كما إن المبادرات الوطنية التي تهتم بالأسرة تسهم في تقوية بنيان المجتمع العُماني.
وفي هذا اليوم، يجدد العُمانيون عهدهم مع قيمهم الأصيلة، ويؤكدون على أهمية الأسرة بوصفها اللبنة الأولى لبناء مستقبل واعد. الأسرة العُمانية كانت وستبقى منارةً تهتدي بها الأجيال القادمة في طريقها نحو الرخاء والاستقرار.
** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
في وداع السيدة خالصة
سارة البريكية
sara_albreiki@hotmail.com
يقف الإنسان عاجزًا في لحظة الموت الأليمة، يقف مكتوف الأيدي محاولًا إقناع ذاته بما حدث في لحظة فقدٍ وحزنٍ دائمٍ، ولوعةٍ تسطو على عناقيد القلب والروح والنفس... محاولًا جاهدًا التشبث ببصيص أمل لعودة الحياة إلى طبيعتها بعد مرور الوقت، إلّا أنه يقف وحيدًا أمام جيش المُعزِّين الذين لا يدركون مدى قوة وصلابة ذلك الإنسان الذي يقف أمامهم، تاركًا وراءه الكثير من التحديات، مُستذكرًا أنه قدوة، وأنه يجب أن يكون الأقوى والأكثر تأثيرًا وصلابة.
فقدنا الإنسانة الطيبة الخلوقة المثابرة والمكافحة، التي أنجبت ذلك الشموخ والبهاء والحنان والمحبة الصادقة، مُتجسِّدةً في شخص السيدة الجليلة التي تقف سندًا جنبًا إلى جنب مع سلطان عُمان المُفدّى وهي التي دائمًا الدافع الأول لتحقيق النجاح وسندًا للمرأة العُمانية ويد عز وسمو ورفعة وبهاء.
في الموت تقف الذكريات جميعها، تتلو بعضها بعضًا، يلي تلك اللحظة ألمٌ وذهولٌ ووقفةٌ لا تشبه جميع الوقفات، ولحظة صمتٍ تليها دموع الحزن تتساقط تباعًا وكأنه نهر... (لو استثمروا دمعي الذي في العراق سكون... كان اكتفى الشعب العراقي من أنهاره)، هكذا تحدثت مع نفسي ولسان حال دموعي التي أحاول جاهدًا مواراتها عن الجميع، لكنني أقف عاجزة أمام ذلك، فالفقد عظيم.
لم أرَ السيدة خالصة عن قرب، ولم أسمع عنها سابقًا، إلا أنني رأيت حزن الوطن والناس والأزقة والطرقات وزوايا البيوت، ورأيتها في تفتح الورد، واخضرار العشب والغصون الحالمة، ورأيتها في عيون السيدة الجليلة تحكي قصة حب عظيمة لوطن عظيم ولشعب سامٍ لم يأتِ من فراغ، بل جاء من خلالها، فهي امرأة قوية كانت تمنح الحب والسعادة لكل من يمر بالقرب، وحتى ذلك البعيد الذي أصبح يستشعر مكانتها في قلب الوطن.
إن الخسارات الكبيرة هي الفقد، ففقد الأعزاء خسارة كبيرة جدًا، وبعد ذلك الفقد لا يعود الإنسان كما كان بتاتًا، لأنه بالنهاية فقد جزءًا مهمًا من روحه. فالأم هي أعظم نعمة على الأرض، وهي الرحمة التي خلقها الله سبحانه وتعالى لبني البشر، فكل منا يشعر بالرحمة عندما يرى وجه أمه، ومهما كان وضع الإنسان، فإن وجود الأم ينسيه متاعب الحياة، فقربها أمان، وفي نظرتها السلام، وهي رحمة تمشي على الأرض، أودع فيها الله سبحانه ذلك الشعور الغريب الذي لن يحس به إلا هي.
تكبر الأحزان بعد رحيل الأم، فلا تجد ما في البسيطة كلها يغني عنها، ولا سعادة تستطيع أن تنسيك قدر أمك مهما بلغت قوة الأمل، لكننا نتوسم خيرًا في السيدة الأولى أن تكون صبورة، وأن تتجاوز هذه المحنة العظيمة والفقد الجلل، ولا نقول إلا ما يرضي الله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
خالص التعازي والمواساة لأم الوطن وللأسرة الحاكمة بهذا المصاب الكبير، رحم الله السيدة خالصة التي انتقلت إلى جوار ربّها الكريم، وأسبغ على قلب السيدة الجليلة صبرًا جميلًا.
وداع وما بعد ينفع أناديلك
يا أمي وين؟
وبكتب في تلاوين الصباح
وقصة العشاق
وأحزاني
وأُرتِّل اسمك بصوتي
وأحاول ارسم عيونك
وأنا مهما ترا حاولت
ابنسى كل شيء
وارجع
طفل!
وابحث عن عيونك
رابط مختصر