3 أعلام في دولة واحدة (2- 2)
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
جمال بن ماجد الكندي
سقط النظام السوري السابق، وكما قلنا، فإنَّ سقوطه له أسباب ظاهرة لنا ذكرناها حسب توصيف ابن خلدون في سقوط الحضارات والدول. وطبعًا، هناك روايات عدة ستخرج، وبعضها أصبح مُعلنًا، في كيفية سقوط النظام.
فهل كان اتفاقًا سياسيًا بين حلفاء سوريا وخصومها؟ الأكيد أنَّ هناك من يدعم ما حصل للنظام السابق من داخل سوريا، بصرف النظر عمّن استلم الحكم وما نتائج هذا الأمر.
وفي المقابل، هناك من تأثر ويعتقد بأننا خسرنا دولة محورية في المنطقة كانت على مدار سنوات حكمها شوكة في حلق إسرائيل، بدعمها واحتضانها لقوى المقاومة بكافة تنوعاتها ضد الكيان الصهيوني.
أما الخاسر والرابح من سقوط النظام السوري السابق، فيأتي على رأس قائمة الرابحون: أولًا: الكيان الصهيوني؛ حيث يعتقد الكثير من المتابعين لما حصل في سوريا مؤخرًا، أن إسرائيل هي أكبر الرابحين من سقوط نظام بشار الأسد. فهل ربح الإسرائيلي بسقوط النظام؟! هناك قاعدة نعمل بها: ما يُفرِح الإسرائيلي يُحزِننا، وما يُحزِنه يُفرِحنا. ما حصل في سوريا أفرح الصهاينة؛ فبعد السقوط مباشرة، احتلت إسرائيل جبل الشيخ، الموقع الاستراتيجي للدولة السورية. وبحسب المصادر الإخبارية، قام سلاح الجو الإسرائيلي خلال يومين فقط بأكثر من 1000 طلعة جوية دمّر فيها مقدرات الأسلحة السورية الاستراتيجية الموجهة لحرب مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، فدمرَّ المطارات والأسلحة الثقيلة، وما زال التدمير واحتلال المناطق السورية مُستمرًا. هذا الأمر يجعله رابحًا كبيرًا من سقوط النظام السوري السابق، ولكننا ما زلنا ننتظر قرارات الحكومة الجديدة، ربما تأخذ الحد المقبول والمنطقي في مقارعة إسرائيل، خاصة بعد احتلالها أراضي جديدة في سوريا.
ثانيًا: الشعب السوري الذي يمكن أن يكون الرابح الأكبر من سقوط النظام السابق إذا تمكنت الحكومة الجديدة من طيْ صفحة الماضي وتلبية تطلعات الشعب التي كانت مُغيَّبة عن السلطة السابقة؛ سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. وعلى الحكومة أن تسعى لمعاملة جميع شرائح الشعب السوري على قدم المساواة؛ بعيدًا عن أي انتماءات مذهبية أو طائفية أو عرقية، تحت مظلة الوطن الواحد. وبهذا النهج، يُمكن للشعب السوري أن يُصبح المستفيد الأكبر من التغيير. ومن المهم أن تُمنح الفرصة للشعب السوري لتتبلور لديه رؤية واضحة ووعي بما يجري، ليقرر بنفسه ما إذا كان سقوط النظام قد أتى بفائدة حقيقية أم أنه فتح الباب أمام الفوضى وانعدام الاستقرار الأمني.
ثالثًا: القضية الفلسطينية، من المعروف أنَّ النظام السابق كان حاضنًا لقوى المقاومة الفلسطينية بكافة شرائحها، وكان الاحتضان سياسيًا وعسكريًا. واليوم، نرى الحُكَّام الجُدد يطالبون هذه القوى بتسليم الأسلحة الثقيلة والمقرات التدريبية للدولة الجديدة والرحيل من سوريا، وهذا كان مطلبًا أمريكيًا وصهيونيًا، وكانت السلطة السابقة ترفضه. ربما الحكم الآن على الربح والخسارة بالنسبة للقضية الفلسطينية من قبل السلطة الجديدة يحتاج إلى وقت حتى تتبلور الحكومة القادمة في سوريا. ننتظر ونحكم بعدها؟!
رابعًا: الحليفان الروسي والإيراني: كانت كل من روسيا وإيران حليفين للنظام السابق، والجهد العسكري لهذين الحليفين كان واضحًا خاصة من الجانب الروسي، الذي له قواعد عسكرية بحرية وجوية في سوريا. وثمة تساؤل اليوم حول مصير هذه القواعد؛ لأنه في حالة إخلائها ستخسر روسيا موطأ قدم مُهم قُبالة البحر الأبيض المتوسط وتخسر وجودها في المياه الدافئة، وستكون خاسرًا كبيرًا بسقوط النظام السابق. يقال إن هناك اتفاقًا روسيًا أمريكيًا بتسليم سوريا مقابل أوكرانيا، وهذه كلها تكهُّنات لا دليل عليها، والحسم في مسألة القواعد العسكرية الروسية سيكون عندما يتولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحكم في يناير المقبل. أما الحليف الإيراني فوجوده العسكري تقلَّص أو انعدم بعد سقوط النظام، ويبقى الوجود السياسي والذي سيتحدد طبيعته وحجمه في قادم الأيام بعد تشكيل الحكومة السورية الجديدة، المهم بأن الروسي والإيراني خسارتهما كبيرة بسقوط النظام السابق.
خامسًا: الطرف التركي: ربما تكون تركيا أحد أبرز الرابحين من سقوط النظام السابق؛ حيث لعبت أنقرة دور الداعم الرئيسي للجماعات المسلحة التي ساهمت في إسقاط نظام بشار الأسد. وهذا الدعم يجعل حلم تركيا بالسيطرة على حلب والشمال السوري أقرب إلى التحقق؛ مما يُعزز مكاسبها حتى الآن.
ومع ذلك، يبقى مصير قوات سوريا الديمقراطية "قسد" (وهي مجموعات كردية مدعومة أمريكيًا) عاملًا غير محسوم بالنسبة للجانب التركي، وينتظر الحسم من الإدارة الأمريكية المقبلة، المتمثلة بالرئيس ترامب. وإذا تم القضاء على تواجد "قسد"، فإن تركيا ستكون الرابح الأكبر؛ لأن ذلك سيمنع تشكُّل أي كيان كُردي مُستقل يمكن أن يُشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها الداخلي، خاصة مع وجود قضية الأكراد في تركيا الذين يعانون من سياسات حكومة أردوغان.
أما إذا استمرت قوات "قسد" تحت الرعاية الأمريكية وسيطرت على شمال سوريا، وخصوصًا المناطق الحدودية مع تركيا، فقد تواجه أنقرة خسارة استراتيجية كبيرة؛ ذلك أن إنشاء دولة كردية على حدودها سيُعزِّز المخاوف التركية من تحفيز تطلعات أكراد تركيا للاستقلال، مما يُهدد استقرارها الداخلي بشكل كبير.
لكن ثمة سؤال جوهري كبير بعد سقوط النظام السوري السابق وفرحة إسرائيل الكبيرة بهذا السقوط: هل شُفيت جروح الكيان الصهيوني التي سببتها معركة "طوفان الأقصى" ومعارك الإسناد اليمنية واللبنانية والعراقية؟! الجواب بالتأكيد أنَّ جراحه ما زالت تسيل ولم تُضمد؛ فمحور المقاومة خسر دولة محورية، لكنه في انتظار قرارات الحكومة الجديدة ضد إسرائيل، خاصة بعد ما قامت به من تدمير واحتلال بعد سقوط النظام السابق مباشرةً.
أما المحور الذي يقاتل إسرائيل فما زال قويًا، والضربات ضد الكيان شاهدةٌ على ذلك، وليس آخرها الصاروخ الفرط صوتي اليمني الذي أصاب قلب تل أبيب. كما إن حزب الله يحتفظ بسلاحه وعلى أُهبة الاستعداد، والمجاهدون في غزة صامدون يقاتلون من أجل قضيتهم منذ أكثر من 14 شهرًا، والعدو الصهيوني لم يُحقق ما كان يُعلن عنه من أهداف، وأهمها تحرير الأسرى وتدمير القدرات الصاروخية لحزب الله؛ لذلك نؤكد أن المقاومة بخير.
سوريا كانت تُحكَم بثلاثة أعلام لها أجندات مختلفة، واليوم بعد سقوط العلم الأقدم بقي عَلَمَان، لكل منهما مشروع في سوريا. المشروعان نستطيع تسميتهما بالمشروع الأمريكي من خلال علم "قوات قسد" الذي يُسيطر على آبار النفط والغاز في شمال سوريا، والمشروع التركي الذي يحلُم بالسيطرة على شمال شرق سوريا والقضاء على أكراد سوريا.
والمتابع لا يستبعد المواجهة بين هذين العلمين، اللذين كانا السبب المباشر في إضعاف العلم القديم، فهل المواجهة قادمة بين قوات قسد والجماعات المسلحة مع الجيش التركي؟ لأن الطرف التركي إذا قبل بالوجود الكردي على حدوده، فسوف يُثير الأكراد في الداخل التركي، ويطالبون بدولة لهم. ومثلما ذكرت سابقًا، فإن هذا الأمر متروك لغاية وصول سيد البيت الأبيض الجديد.
ختامًا.. أتمنى أن يكون الرابح الأكبر هو الشعب السوري بكافة مكوناته؛ فهذا الشعب تَعِبَ من الحروب، ويريد أن يستقر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ويشعر بالأمان والرفاه الاقتصادي، وهذا الأمر ستُحدِّدُه الحكومة السورية المقبلة، وسوريا حُبلى بأحداث كبيرة مستقبلًا، ونرجو أن يكون الحدث الكبير هو ما يُفرح المواطن السوري.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تفاصيل مؤامرة النظام المخلوع لسرقة ثروات المواطنين في سوريا
يمثل صدور المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 عن الحكومة السورية الانتقالية خطوة في مسار سوريا الناشئة نحو تفكيك الإطار القانوني للمصادرة الممنهجة، التي كانت سمة بارزة لنظام حكم الأسد.
وقد صدر المرسوم في 10 مايو/أيار 2025، استنادا إلى المادة 48 من الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار من العام نفسه، بهدف إلغاء جميع قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة بين 2012 و2024. وبذلك يسعى إلى معالجة أحد أخطر أشكال انتهاكات حقوق الملكية التي مارستها الدولة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث.
وتشير بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى توثيق ما لا يقل عن 40 ألفا و602 قرار حجز ومصادرة، طالت قرابة 320 ألف مواطن سوري خلال تلك الفترة، ما يجعل هذه القضية شرطا أساسيا لإعادة بناء العقد الاجتماعي في سوريا ما بعد الأسد.
يقسم هذا المقال تحليله إلى محورين رئيسيين: يتناول الأول الخلفية التاريخية والإطار القانوني الذي أفضى إلى صدور هذا التدخل التشريعي، أما المحور الثاني فيقدم قراءة نقدية للمرسوم رقم 16 من حيث مضمونه وإطاره المؤسسي، محددا مكامن الإصلاح التي جاء بها، إلى جانب الثغرات التشريعية التي تعيق تحقيق عدالة شاملة.
القسم الأول: الإطار القانوني والسياق التاريخيإرث المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012: صدر هذا المرسوم في سبتمبر/أيلول 2012، في أوج حملة القمع العنيفة التي شنها نظام الأسد ضد الحراك الشعبي الذي بدأ في مارس/آذار 2011، مجسدا تحول القانون من أداة للحكم إلى وسيلة مركزية لتحويل مؤسسات الدولة إلى آلية منظمة للمصادرة التعسفية ذات الدوافع السياسية والأمنية، خارج أي إطار قضائي منصف.
وقد منح المرسوم وزير المالية صلاحية غير مسبوقة لإصدار قرارات الحجز التحفظي بناء على "طلب مسبب" من الأجهزة الأمنية فقط. هذه الصيغة، التي صيغت عمدا بعبارات فضفاضة، مكنت من حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة لأي شخص يُشتبه في ارتكابه "جرائم إرهابية" دون وضع معايير دقيقة للاشتباه، أو توفير ضمانات للمراجعة، أو الاعتراض، أو إحالة القضايا إلى القضاء.
إعلانوبذلك، رسخ انتهاكا ممنهجا لمبدأ الحصرية القضائية في تقييد الملكية، إذ استحوذت السلطة التنفيذية على صلاحيات قضائية من دون أي تفويض دستوري أو ضمانات إجرائية.
تكشف الأدلة التي وثقها تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان النطاق الواسع لهذا التوظيف السياسي للقانون؛ فبين 2012 و2024، سُجل ما لا يقل عن 40 ألفا و602 قرار صادر عن وزارة المالية تتعلق بأصول وممتلكات مواطنين سوريين، شملت تجميد الأصول المنقولة وغير المنقولة، وأوامر الحجز الاحتياطي، والمصادرة، والتجميد الدائم للحسابات المصرفية.
ويظهر التحليل الديمغرافي للسكان المتضررين أن هذه الإجراءات استهدفت، بشكل مدروس، المعارضين السياسيين، والمعتقلين السابقين، والمختفين قسرا، واللاجئين، والنازحين، وبشكل خاص أفراد أسرهم، في انتهاك صارخ للمبدأ القانوني الأساسي للمسؤولية الفردية المكرس في كل من التقاليد الدستورية السورية والقانون الدولي.
الأساس الدستوري للمرسوم رقم 16 لعام 2025يستمد المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 تفويضه من المادة 48 من الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار 2025، التي تكرس صلاحية إلغاء القوانين وآثارها بالنظر إلى الطبيعة الممنهجة للانتهاكات القانونية في ظل النظام السابق، بما يقتضي ليس فقط إصلاحا مستقبليا، بل أيضا تصحيحا بأثر رجعي للمظالم المتراكمة.
ويستند مبدأ التصحيح بأثر رجعي، الوارد في المرسوم، إلى قاعدة قانونية مفادها أن "القرارات الباطلة لا تترتب عليها آثار قانونية، ولا تستلزم الطعن القضائي لإبطالها، بل تُلغى بإجراء تنظيمي فور ثبوت سبب البطلان".
ويجسد الأثر الرجعي، كما نصت عليه أحكام المرسوم التنفيذية، مبدأ التصحيح الإداري المباشر للقرارات الباطلة، عبر إبطال جميع الآثار القانونية الناشئة عن قرارات الحجز الملغاة، بما في ذلك شطب القيود العقارية، وإلغاء التجميد الإداري في السجلات الرسمية، وإعادة الوضع القانوني للأصول المحجوزة إلى حالتها السابقة.
ومع أن هذا المبدأ يتمتع بسلامة قانونية، إلا أن تطبيقه العملي يصطدم بتحديات معقدة في سياق مصادرات استمرت لأكثر من عقد. فقد أدى تحويل الحجز الاحتياطي إلى مصادرة دائمة، ونقل الملكية إلى أطراف ثالثة مرتبطة بالنظام السابق أو المليشيات التابعة له، وتسجيل الممتلكات باسم الدولة، إلى خلق أوضاع قانونية متشابكة تتجاوز مجرد التراجع الإداري.
ولذلك، فإن تفعيل هذا المبدأ الدستوري يتطلب ابتكار آليات قانونية متقدمة لمعالجة الانتهاكات متعددة المستويات، وتسوية المطالبات المتعارضة، والتعامل مع حالات الاستحالة المادية لاستعادة الحقوق.
القسم الثاني: التقييم النقدي لمحتوى الإصلاح والثغرات المؤسسيةيكشف المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 عن بنية متناقضة؛ فهو من جهة يقر بالانتهاكات القانونية الممنهجة، ومن جهة أخرى يحد من نطاق الانتصاف بطرق تحد من أثره الإصلاحي.
فالمادة الأولى منه تحصر الإلغاء صراحة في قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة "استنادا إلى المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012" دون مرجع قضائي أو تعليمات أمنية مباشرة.
ورغم أن هذه الصيغة تعالج الشريحة الكبرى من عدد الانتهاكات، فإنها ترسخ استثناءات تُضعف إلى حد كبير الأثر الإصلاحي للمرسوم.
إعلانومن أبرز هذه الاستثناءات استبعاد قرارات الحجز القضائي الصادرة عن النيابة العامة أو قضاة التحقيق أو المحاكم المختصة، رغم أن كثيرا منها استند إلى الإطار ذاته من التجريم المبهم والدوافع السياسية الذي وسم قرارات الحجز الإدارية.
يمثل هذا الاستبعاد للضبط القضائي إشكالية عميقة في ضوء واقع القضاء السوري تحت حكم الأسد، إذ أصدرت السلطات القضائية، في كثير من الحالات، أوامر ضبط وفق المنطق القانوني نفسه القائم على التلاعب السياسي والغموض التشريعي.
كما أن قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012، الذي منح النائب العام أو من ينوب عنه صلاحية تجميد الأصول، عمل ضمن الإطار الأمني ذاته الذي أسس له المرسوم رقم 63.
ورغم أن وزير العدل قد شكل لجنة قضائية خاصة لمراجعة أحكام محكمة مكافحة الإرهاب، فإن غياب نصوص صريحة في المرسوم رقم 16 لربط هذه القرارات القضائية بإلغاء الإطار الاستثنائي الأوسع يترك مساحة واسعة من أوامر الضبط وتجميد الأصول قائمة ونافذة.
وتتضاعف الإشكالية باستثناء المرسوم للإجراءات التي تحولت إلى حجز تنفيذي أو إلى مصادرة نهائية، بما في ذلك العقارات التي حُول حجزها الاحتياطي إلى مصادرة دائمة، أو التي سُجلت باسم الدولة، أو نُقلت ملكيتها إلى أطراف ثالثة، غالبا ما تكون جهات مرتبطة بالنظام السابق أو المليشيات الموالية له.
ويعد هذا النقل أحد أخطر الأساليب التي اعتمدها نظام بشار الأسد لشرعنة المصادرة السياسية، إذ جرى نقل ملكية آلاف العقارات من أصحابها الأصليين دون مراعاة الأصول القانونية.
وعلى الرغم من الأهمية القانونية لمبدأ الأثر الرجعي الذي نص عليه المرسوم، فإن تصميم آلية تطبيقه يعاني من قيود هيكلية واضحة. فالمادة الثانية تنص على شطب تسجيلات العقارات الناتجة عن القرارات الملغاة، وإلغاء التجميد الإداري في السجلات الرسمية، وإعادة الوضع القانوني للأصول إلى حالتها السابقة، غير أن تحليل الشبكة السورية لحقوق الإنسان يؤكد أن هذا التصحيح الإداري لا يواجه التعقيدات القانونية المتراكمة عبر أكثر من عقد من نزع الملكية.
وتشمل هذه التعقيدات العقارات التي خضعت لعمليات بيع أو نقل ملكية متعددة، أو التي أُدمجت في مشاريع تطوير، أو فُقدت أو أُتلفت وثائقها الأصلية، وهي حالات تتجاوز إمكانية المعالجة عبر مجرد التراجع الإداري.
أما على صعيد التنفيذ، فقد أُنيطت المهمة بوزارة المالية بالتنسيق مع وزارتي العدل والداخلية، وهو ما يكشف عن قصور في الإحالة التنفيذية ومحدودية في البنية المؤسسية، فرغم أن المادة الثانية تفوض صلاحيات التنفيذ، فإنها لا تحدد جدولا زمنيا واضحا، ولا إجراءات مفصلة، ولا آليات للمساءلة، ما يجعل التطبيق عرضة للبطء أو التعطيل.
ويؤدي هذا الغموض المؤسسي إلى خطر أن يبقى المرسوم بلا أثر عملي ملموس، خصوصا في غياب جهة إدارية مستقلة تُعنى بمراقبة التنفيذ ومعالجة المظالم الناشئة.
القصور التشريعي: تقييم منهجي للقيود الهيكليةيبرز الخلل التشريعي الأهم في أن المرسوم رقم 16 لم يُلغِ صراحة المرسوم التشريعي رقم 63 لعام 2012. ورغم أن المرسوم الجديد علق فعليا تطبيق جزء أساسي من أحكام المرسوم رقم 63، فإن إبقاءه في المنظومة القانونية، ولو معطلا، يترك الباب مفتوحا لإحيائه قانونيا مستقبلا، وهو ما يتناقض مع متطلبات العدالة الانتقالية التي تستدعي قطعا حاسما مع البنى القانونية الاستبدادية.
كما يشكل عدم معالجة المرسوم للإجراءات الصادرة بموجب قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 ثغرة تشريعية أخرى، إذ تبقى قرارات تجميد الأصول الصادرة عن النائب العام أو من ينوب عنه، والتي غالبا ما استندت إلى السياق ذاته من التجريم السياسي والغموض القانوني، خارج نطاق الإلغاء.
إعلانهذا النهج الانتقائي في تفكيك الإطار التشريعي الأمني يعكس ما يمكن تسميته بـ"التجزئة والتأويل" في مسار العدالة الانتقالية، تاركا مساحات واسعة من الانتهاكات ذات الدوافع السياسية دون معالجة قانونية.
ولا يتضمن المرسوم أي نصوص تتعلق بالمحاسبة المؤسسية أو الفردية للمسؤولين عن إصدار أو تنفيذ قرارات الحجز الباطلة، سواء كانوا موظفين في وزارة المالية، أو ضباطا في الأجهزة الأمنية، أو قضاة متواطئين بالصمت أو الدعم.
كما يغيب عن المرسوم أي تنظيم لمسألة التعويضات، سواء الرمزية أو المادية، وعدم إنشاء آليات لتقييم الخسائر أو صرف تعويضات مالية في حال تعذر استعادة الممتلكات.
ويجب أن يظل رد الممتلكات الخيار الأول والأساسي لجبر الضرر، على أن يقتصر التعويض المالي على الحالات التي تثبت فيها استحالة الرد قضائيا.
وإلى جانب ذلك، يفتقر المرسوم إلى أحكام واضحة بشأن الشفافية والوصول إلى المعلومات؛ فهو لا يُلزم وزارة المالية أو الجهات المختصة بنشر قوائم المتضررين، ولا ينص على آليات تمكنهم من الاطلاع على ملفاتهم، أو تقديم اعتراضات، أو استرجاع وثائقهم العقارية.
الآثار المترتبة على السكان المتضررين: التحديات الجغرافية والقضائيةتتجسد القيود العملية للمرسوم بوضوح عند النظر إلى واقع التشتت الجغرافي للسكان المتضررين وتجزؤ الولاية القضائية عليهم، حيث يقصي إطار التنفيذ فعليا الفئات الأكثر تضررا من نظام الاستيلاء السابق، مثل اللاجئين، والنازحين داخليا، وسكان المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة الانتقالية.
وهنا تظهر ثغرة حرجة تتعلق بـ"الأشخاص المتضررين المقيمين خارج البلاد أو في مناطق خارج سيطرة الحكومة الانتقالية، مثل المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية)"، حيث يواجه هؤلاء صعوبات كبيرة في الوصول إلى السلطات المختصة.
ويؤثر هذا الاستبعاد الجغرافي على ملايين السوريين الذين صُودرت ممتلكاتهم غيابيا كإجراء عقابي على معارضتهم المزعومة للنظام، فيما يحرمهم غياب أي ترتيبات استثنائية أو إجراءات بديلة من الاستفادة من المرسوم، رغم الإلغاء الرسمي لقرارات الحجز.
وتتخطى العقبات الإجرائية حدود التحديات الجغرافية لتشمل صعوبات تتعلق بالوثائق والإثبات، إذ فقد كثير من المتضررين أوراق ملكياتهم أو اضطروا للتخلي عنها أثناء النزوح، بينما أُتلفت سجلات آخرين في العمليات العسكرية، أو أُزيلت عمدا من قبل الأجهزة الأمنية.
ويؤدي غياب أي نصوص في المرسوم بشأن معايير الأدلة البديلة، أو القرائن القانونية لصالح المالكين المسلوبين، أو إجراءات مبسطة لمعالجة أنماط الانتهاكات الشائعة، إلى تحميل الضحايا أعباء إثبات ثقيلة.
ويضاف إلى ذلك بعد زمني يزيد من تعقيد الوضع، إذ لا يحدد المرسوم مهلا زمنية للتنفيذ أو آجالا لتقديم الطلبات، كما لا ينص على قواعد للتقادم تحمي حقوق المتضررين.
هذا الغموض، مقترنا بغياب إلزامية الإخطار العام، يجعل كثيرا من الضحايا يجهلون حقوقهم بموجب المرسوم، أو يفوتون مهلا غير معلنة لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
خاتمةيحتل المرسوم التشريعي رقم 16 لعام 2025 موقعا إشكاليا في مسار العدالة الانتقالية السورية؛ إذ يجمع بين كونه اعترافا رسميا بالانتهاكات المنهجية لحقوق الملكية التي ارتكبها نظام الأسد، وبين قصوره الواضح كإجراء جزئي غير كافٍ لمعالجة الاستبداد القانوني الراسخ.
إن استعادة حقوق الملكية تمثل ركيزة أساسية لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضمان عودة ملايين السوريين إلى ممتلكاتهم ومجتمعاتهم بسلام وكرامة.
ويتطلب تحقيق ذلك الشروع في مراجعة شاملة لجميع القوانين والمراسيم التي أقرها النظام السابق والتي شرعنت المصادرة والنهب، مع تبني مسارات تشريعية واضحة وملزمة تضمن تحقيق العدالة والمساءلة، وتؤسس لقطيعة حقيقية مع الممارسات القانونية الاستبدادية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline