على الرغم من عقود طويلة مرت على اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية - 1944 وما خلفته من كوارث ومآسٍ، إلا أن القصص الإنسانية والاجتماعية ناهيك عن قصص المعارك الحربية ظلت حاضرة أيضا في المرويات المرتبطة بتلك الحقبة العصيبة.

وخلال ذلك بقيت السينما تنهل من قصص تلك الحرب، فلا يكاد يمر عام من دون أن تظهر أفلام جديدة تحاكي تلك الحرب أو تروي قصصها، وهو ما يمكن النظر إليه من زاوية وجود جمهور لا يزال يجد في قصص تلك الحرب ما يجذبه إليها.

من هنا يمكننا النظر إلى الفيلم الإيطالي "قطار الأطفال" للمخرجة كرستينا كومنتشيني والمأخوذ عن رواية حملت الاسم نفسه للكاتبة الروائية فيونا اردوني، وقد كتب سيناريو الفيلم اثنان من كتاب السيناريو بالإضافة إلى المخرجة وهما جوليا سيليندا وكاميل دوغواي.

ها نحن في عام 1943 وفي مدينة نابولي الإيطالية وحيث حصاد الحرب وتشظيّاتها تضرب بشدة وتلتهم تلك الحرب أبناء الطبقات الفقيرة ومنهم أبناء ذلك الحي الفقير في تلك المدينة، وبسبب خشية العائلات -التي روعتها الحرب- على أطفالها وحفاظا على حياتهم وبمبادرة من الحزب الشيوعي الإيطالي آنذاك يتقرر إرسال الأطفال بواسطة قطار صاعد إلى الشمال لكي تحتضنهم بعض العائلات هناك، فما فحوى تلك الرحلة الغريبة وما أبعادها؟

في البدء لابد من التركيز على أصل الفكرة الواقعية التي انطلق منها الفيلم وهي جزء من حقائق التاريخ ومخلفات تلك الحرب المدمرة وتداعياتها وفي نطاق الصراع من أجل البقاء ولنا أن نتخيل صورة ذلك المجتمع الذي قدمه الفيلم وهو محاصر بالفقر والحرب من جميع الاتجاهات.

على أن انتقال الفتى أميريجو (كريستيان سيرفوني)، إلى تلك البيئة الجديدة البعيدة نوعا ما عن الحرب قد شكل تحولا دراميا ملحوظا خاصة من اندماجه في أجواء تعلم وتطوير مهاراته في عزف الكمان في أحضان معلمته التي احتضنته بكل ود وحنو ليعبر عن مكنونات نفسه ببساطة شديدة من خلال ذلك العزف، ومن جهة أخرى فإنه يجد في كنف ديرنا -الممثلة باربرا رونشي، ما لم يجده في أجواء عائلة أميريجو المزدحمة بالأطفال وبالتالي سوف يشعر أميريجو بالصراع بين الأم الحقيقية التي يفتقدها والأسرة البديلة التي تعتني به في غيابها.

يغطي الفيلم فترة من عدم اليقين الهائل في العالم، وباختصار فإنه يركز على تجربة الطفل في زمن الحرب وهي تجربة لطالما شكلت محورا مهما من محاور وموضوعات سينما الحرب العالمية الثانية من خلال إظهار انعكاسات تلك الحرب على مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة فئة الأطفال الذين دفعوا ثمنا باهظا من نتائج تلك الحرب.

على الجهة الأخرى تنجح المخرجة في بناء قصة سينمائية وخطوط سردية تتعلق بمجتمع من مجتمعات الحرب وبذلك أسست لما هو مختلف عما هو سائد ونمطي في ذلك النوع من الأفلام التي شكلت الذاكرة التاريخية الجمعية التي اعتدنا على مشاهدتها في العديد من الأفلام من هذا النوع وكذلك في تأسيس نوع ونمط فيلمي مختلف يواكب أشد الأزمات الإنسانية قتامة وهو ما يمكن النظر إليه من زوايا متعددة، أولها، زاوية المعاناة الإنسانية في ظل الحرب والتي تشمل أشد الفئات هشاشة وهي تلك العائلات التي تضررت من جراء الحرب بشكل مباشر.

من جهة أخرى تم نسج العلاقة بين الطفل ومعلمته التي عاش في كنفها، على أنها علاقة مختلفة، حملت للصبي صورة حياة أخرى أكثر تسامحا وعدلا وأقل وطأة على الذات، فالطفل وقد تحمل ما هو فوق طاقته وقدرته في وسط أسرة فقيرة نجده يتمسك بمعلمته وبالموسيقى ويجد فيهما ملاذا ولهذا حرصت المخرجة على ذلك المسار السردي في تعميق شخصية الطفل لجهة انشداده لحياته الجديدة وذلك النوع من الصراع مع الذات في العودة للأسرة الأصلية التي لم يجد فيها ما وجده مع معلمته وحياته الجديدة.

ولعل الحبكات الثانوية التي رافقت رحلة الطفل هي التي قادتنا إلى محور مهم وهو اكتشاف الطفل لحياة جديدة مختلفة دفعته للتشبث بها، والإمعان في التفاعل مع الحياة الجديدة ولكن من زاوية قد يبدو فيها نوع من الإسراف في استخدام الاستذكار ( فلاش باك)، فالفيلم منذ افتتاحه وهو يمضي مع شخص موسيقار ناجح يقيم حفلته في أحد المسارح الكبرى ثم العودة معه إلى البدايات التي أسهمت في تأسيس موهبته وتطويرها وخاصة تلك الذكرى البعيدة المدى الممتدة ببواكير البدايات وظهور الموهبة.

في النظرة العامة، وبدون المزيد من التفاصيل حول الشخصية الرئيسية، فإن الفيلم، يشبه مزيجًا مختلفا بين حكاية مثيرة للاهتمام ورحلة معاناة طويلة، أكثر من كونه فيلمًا تاريخيا لإمتاع المشاهدين أو لتذكيرهم بحقبة استثنائية شهدت أحداث تلك الحرب.

فعلى صعيد العرض الاجتماعي للأحداث، بدا من الصعب على الأسر التي تعيش في الجنوب الإيطالي أن تتقبل فكرة إرسال الأبناء إلى المجهول، لأنها عملية تبدو وكأنها خدعة وأنها امتداد للعديد من خدع الحرب، لكن العائلات الفقيرة بدت أكثر قناعة بأن أطفالهم سوف يكونون أفضل حالًا في مكان آخر مع أن هنالك من يجذر من أن اقتراب أولئك الأطفال وانغماسهم في بيئة ذات أيديولوجيا شيوعية، سوف يجعل أولئك الأطفال لقمة سائغة للروس.

من جانب آخر، هنالك شخصية موازية لهذه المعادلة وهي تلك الأم العزباء التي ترعى ذلك الطفل المهووس بالأحذية والتي تدرك جيدا أن خياراتها قليلة بينما هي تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، إلا أن الأمر بالنسبة للطفل أميريجو يختصر على الفور في الوعد بالحصول على أحذية بدون ثقوب، وهي قفزة من حالته الحالية حافي القدمين.

وما بين الجانب الخيري والإنساني وبين الخطاب السياسي المرتبط بأحداث الحرب، تراوحت أحداث الفيلم التي بقي فيها الطفل محورا مهما وفاعلا يعكس كل تلك التفاعلات والتي تمثلت في سرد متوازن عكس الواقع كما هو بلا مبالغات أو إسراف، في مقابل رحلة زمنية في حقبة مليئة بفواجع الحرب التي عمدت المخرجة على عدم التركيز عليها وجعل انعكاساتها على حياة الشخصيات أكثر من التفاعل معها بشكل مباشر وهي ميزة أخرى إضافية رسخت أحداث الفيلم وشجعت على المزيد من التحولات المهمة فيه.

..

إخراج/ كرستينا كومنتشيني

عن رواية فيونا اردوني - سيناريو جوليا سيليندا، كرستينا كومنتشيني، كاميل دوغواي

تمثيل/ الام أنطونييتا - الممثلة سيرينا روسي، الطفل أميريجو الممثل كريستيان سيرفوني. ديرنا - معلمة الموسيقى - الممثلة باربرا رونشي

مدير التصوير/ ايتالو بورتيشيوني

موسيقى/ نيكولا بيوفاني

التقييمات/ موقع أي ام بي دي 7.5 من 10، كومين سينس 4.5 من 5

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تلک الحرب

إقرأ أيضاً:

«حكماء المسلمين»: حماية الأطفال واجب شرعي وأخلاقي وإنساني

أكد مجلس حكماء المسلمين، برئاسة فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن حماية الأطفال، وصون طفولتهم من الاستغلال والمعاناة يمثل واجبًا شرعيًّا وأخلاقيًّا وأمانة إنسانية عظيمة، تتقاسمها المجتمعات والمؤسسات والأفراد على حدٍّ سواء.

أخبار ذات صلة حكماء المسلمين" يهنئ السعودية بنجاح موسم الحج "حكماء المسلمين" يشارك في مراسم تنصيب البابا ليو الرابع عشر

وقال المجلس في بيان له بمناسبة اليوم الدولي لمكافحة عمل الأطفال الذي يوافق 12 يونيو من كل عام: «إن التصدي لاستغلال الأطفال والعمل القسري مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود لوضع السياسات الرشيدة، وسن القوانين الرادعة، وتوفير الحماية الاجتماعية والتعليم الجيد، وتعزيز ثقافة المسؤولية المجتمعية تجاه الأطفال، وتكثيف الجهود لمكافحة الفقر والجهل، باعتبارهما من أبرز أسباب عمل الأطفال، مشيدًا بالمبادرات والبرامج التي تنفذها بعض الدول والمؤسسات لتمكين الأسر ودعم التعليم، ما يسهم في الحد من هذه الظاهرة الخطيرة، ويضمن بيئة آمنة ونموا سليمًا لكل طفل.

وأوضح أن الطفل في الدين الإسلامي الحنيف كائن مُكرَّم له الحق في الرعاية والتعليم والحماية والنمو في بيئة آمنة وسليمة، مؤكدا أهمية الدور التوعوي والتربوي الذي يمكن أن تقوم به المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية في مناهضة هذه الظاهرة، والمساهمة بشكل فاعل في تشكيل وعي جماعي يعلي من شأن حماية الطفل ويضعها في مقدمة الأولويات، خاصة في ظل ما يشهده عالمنا اليوم من حروب وصراعات فاقمت من معاناة الآلاف من الأطفال الأبرياء. وتنص وثيقة الأخوة الإنسانية، التي وقعها فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، والراحل البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية السابق، عام 2019 في أبوظبي، على أن حقوق الطفل الأساسية في التنشئة الأسرية، والتغذية والتعليم والرعاية، واجب ومسؤولية أخلاقية على كل من الأسرة والمجتمع، وينبغي أن تُوفَّر وأن يُدافعَ عنها، وألا يحرم منها أي طفل في أي مكان، وأن تدان أي ممارسة تنال من كرامتهم أو تُخِلُّ بحقوقهم، وكذلك ضرورة الانتباه إلى ما يتعرضون له من مخاطر، أو انتهاكها بأي صورة من الصور.

المصدر: وام

مقالات مشابهة

  • «تنمية المجتمع» بأبوظبي تطلق سياسة حماية الطفل في الجهات الرياضية
  • عادة واحدة تغيّر كل شيء.. هكذا يؤسس تأثير الدومينو لسلسلة تغييرات تربوية إيجابية
  • أبوظبي للغة العربية يطلق الطفل يقرأ
  • المشدد 5 سنوات عقوبة استخدام الأطفال في التجارب والأبحاث العلمية
  • «حكماء المسلمين»: حماية الأطفال واجب شرعي وأخلاقي وإنساني
  • العمل: عمالة الأطفال تحرمهم من التعليم وتؤثر على نموهم الصحي والجسدي
  • كيف نظم قانون العمل الجديد ضوابط تشغيل الأطفال؟
  • شروط الحصول على معاش الأطفال الجديد.. التضامن تحدد 3 فئات
  • سمنة الأطفال.. الطريق إلى الأمراض المزمنة والوقاية تبدأ من المنزل
  • مختصون: عدم استخدام كراسي الأطفال في المركبات يهدد سلامتهم