فاطمة الحارثية
كان الوعد بأن أُخصِّص بعض المقال كمقال قصصي، وشاء أفراد من المجتمع أن يستلوا خنجرًا في كبد الإبداع، لأسباب الجاهلية الأولى وعقد النقص المتمثل في سلوك الشخصنة، وهذا لم يمنع من كتابتها، لكنها محفوظة إلى أن تحين الساعة المُناسبة لنشرها، فلستُ ممن يخذل الذات أو يُحجر مواهب وقدرات حباها الله، وميَّز بها خلقاً عن خلق.
ولو كُنَّا مازلنا على سجية السلام الذي عهدناه حين النشأة، لما سولت الأنفس الضعيفة وأضمرت السوء للفكر والقلم، وعلى مشهد يقذ العين أمام الملأ الذي اختار أن يكون أبكمًا، خشية مصالح فانية؛ ولم يختلف عصرنا عن العصور الأولى؛ إذ بات للضعيف قوة المصلحة، وماتت الشجاعة وكلمة الحق أمام شهوات لن تدوم، وتم اغتيال الشغف والإلهام ثم يقتبسون "لو كان نافعًا لبقي"، عن أي نفع يتحدثون؛ فالتعريف يتباين أيها النَّاس، كلٌ حسب يقينه ومعتقده.
القدرة على ترجمة الواقع إلى كلمات على صفحات بيضاء، ومزج تلك الكلمات لتشكل صورًا تلامس خيال المتلقي ومشاعره قبل عينيه، بات أمرًا لا يُستهان به، وجهدًا لم يؤت أُكله للجميع. مضى العام غير مغفور له، علَّمني ألا أغفِر للجاهل؛ لأنَّ الجهل كان وسيبقى اختيارًا، وقد اختار فعلها، واختار الجهل طريقًا. علَّمني أن من يُكرر شعائر الثقة لفظًا ليس إلا فظًا غليظ القلب، علَّمني أنَّ الثقة لا تُغيِّر القدر، وأن العزوة هي القلوب البيضاء، وأكد لي أن معايير الدنيا كلها ليست بأقوى من معيار الجنة والنار، وأن ثمَّة عَبَدَة للمال والسُلطة وهم لا يختلفون عن عَبَدَة النار.. علَّمني أن الحب ليس حيث أريد؛ بل حيث يختاره الله لي، علَّمني أن الاستمرار نحو الإنجاز هو السلاح الأقوى في وجه الظالم؛ علمني أن الله معي، وإنْ اجتمعوا عليّ.
ثقافة اللغة رسالةُ وجسرُ ومصيرُ، نترجمها حسب قدراتنا وخبراتنا، وأيضًا حسب أهوائنا، فنحن رَهن اللحظات التي تسبق الحدث، ورهن بواطن اللاوعي، وقد ابتكرنا الكثير من التشبث، والوهم، لنصنع من نلوم ونلقي عليه إخفاقاتنا بكل جبن ولؤم، وإن حصلت مواجهة، يكون العذر المضطرب عندما يعجز التبرير "أبحث عمَّن يشاركني ألمي" وأين الآخر حين فرحك؟! قائمة أسماء الأفراح باتت تتباين تماماً مع قائمة أسماء الأتراح، وإن لم تتفق معي، فكر قليلا هل تتواصل مع ذات الشخص عند المصيبة والفرحة؟! فكر مليًا قبل أن ترد، فأنت تخاف حزن من تحب، ولا بأس عندك أن تؤلم من يُحبك.
ها هو العام الجديد حضر، سيحتوى الكثير من المتناقضات المزدانة بالاتساق، هكذا أراه، ستتحول معاني الكلمات إلى القصد لا اللغة، سيفك القدر تشابكه، وتُكشف البواطن، ويخرج اللؤم للعلن، سيرى الناس الواقع الذي يرفضونه، وسيبقى صامتا، وسيكون ثمة بيان للتشبث الواهي دون انعتاق، ولن يعود للوهم حجة في مسائل البقاء، وسيعلن المصير المشترك نفسه معيارا خلال هذا العام، أحبة سوف يغادرون، وأصحاب الرسائل في ازدحام بين الحق والباطل، لنتذكر أن الدموع والحزن لا تحل المشكلات ولا تصنع المعجزات، هي فقط مرسى مؤقت للسكن والعودة بحزم أكبر للسماح بالرحيل؛ لن نجد إلا تحويل الخسائر إلى دروس لنستطيع أن نمضي قدمًا.
لنضع أهدافنا الشخصية هذا العام بحرص، لنتأمل قبل أن نشد الرحال نحو تنفيذها، ولتكن مرنة، واقعية، ومتوازنة بين متعة الحياة والكسب المشترك وفضائل الآخرة، دعونا لا نغامر ونجعل هذا العام رهناً لطرف ثالث، يحدد مصير نجاح أهدافنا؛ الشراكة مهمة لكنها جزء من التنفيذ، وليس أساساً ولا يحتمل التشبث العاطفي، حتى لا نعيش الخذلان ولا نحتج بالوهم. وكما أسلفت الثقة لا تُغير قدر أحد ولا مجريات الأحداث ولا تحدد جنتنا ونارنا؛ ابحثوا عن العلاقات ذات الطابع والدلالات والمفهوم الحقيقي، تشبثوا بالمبادئ والقيم الأصيلة، واعتنقوا حب الله وما أوتيتم من علم وحكمة وموهبة في كل ما تسعون إليه وله.
وإن طال...
المسألة ليست ما نُريد؛ بل ما خُلقنا لأجله، ونستطيع أن نُدرك ذلك من خلال نِعَم الله والإمكانيات والقدرات التي أعطانا إياها، والمهارات التي نجيدها دون جهد يُذكر؛ لأنها الأدوات التي منحها الله لنا لنحقق العبادة التي يُريدها مِنَّا.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: منی أن
إقرأ أيضاً:
هل يجوز إعطاء بطاقات التموين لشخص غير مستحق؟.. دار الإفتاء تجيب
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول: (لدَى بعض أصدقائي كارت تموين وليسوا في حاجة إليه، فهل يجوز أن يعطيه لآخر، لمدة من الزمن؛ ليستفيد من صرف السلع التموينية المقررة لهذا الكارت؟).
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إنه مِن المقرر شرعًا أنَّ حماية المال والمحافظة عليه هو أحد مقاصد الشرع الشريف، وقد حرَّمَ الشرع الشريف التَّعدِّي على أموال الغير واستحلالها دون وجه حقٍّ، فقال- تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ [النساء: 29].
واستشهدت دار الإفتاء بما روي عن أبي بَكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» متفق عليه.
وأشارت إلى أن البطاقة التموينية- كما يُفْهَم مِن منطوق القرار الوزاري رقم 62 لسنة 2021م، بشأن "تنظيم قواعد استخراج البطاقات التموينية للفئات الأَولَى بالرعاية"- هي: وثيقةُ إثباتٍ شخصية، تمنحها الدولة لفئاتٍ معينةٍ بشرائطَ محددةٍ، تُخوِّل لحامليها استحقاق دعم معين تقدمه الدولة لتلك الفئات.
وأكدت أن هذا الدعم المقدم من الدولة ليس حقًّا مطلقًا خالصًا لمستحقه يتصرَّف فيه ببيعٍ أو غيره، وإنما مُقيَّد بما اشترطته الجهات المختصة مِن ضوابط، وعلى المستفيد استعمال هذا الأمر في إطاره المسموح به وفيما هو مُحدَّد له، فلا يتنازل عنه لغيره ما دام هذا غير مسموحٍ به من الجهات المختصة؛ إذ يُعَدُّ هذا التَّصرُّف اعتداء على المال العام الذي حرَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاعتداء عليه، بل وجعل صيانته من الإهدار مسؤولية الجميع؛ لأنَّ هذا المال ملك لكل أبناء الوطن، والتصرف فيه يكون وفق ضوابط الشرع وشروطه.
فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أخرجه الإمام البخاري.
وقد سَمَّى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- المال العام الذي لا يملكه فرد بعينه، بأنه مال الله، وتُوضِّح ذلك رواية الترمذي: «مِن مال الله ورسوله»؛ إذ هذه الإضافة خاصة بالمال العام، وفي الحديث وعيد شديد لمن يتخوض في المال العام، أي: يأخذه ليتملكه ويتصرف فيه تصرف المالك.
وتابعت: يضاف لذلك أنَّ ما تمنحه الدولة مِن مساعدات وتقيده بوصفٍ معيَّن لفئات أو لأشخاص محدَّدين، فإنَّ هذه المساعدات تستحق متى توافر هذا الوصف، فمَن لم يكن متصفًا بذلك الوصف أو اتصف به ثم زال عنه، زال معه سبب الاستحقاق لهذه المساعدة، ولا يحلُّ أخذها، ضرورة أنَّ الحكم المعلَّق والمقيَّد بوصفٍ يدور معه وجودًا وعدمًا، بمعنى أنه ينزلُ الوصف من الحكم منزلةَ العلَّةِ التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، فإذا وُجد الوصف وُجدَ الحكم، وإذا انتفى انتفى الحكم.
ويقصد بالأموال العامة -كما هو مفاد المادة 87 من القانون المدني- : "كلُّ ما كان مملوكًا للدولة أو للأشخاص الاعتباريَّة العامَّةِ سواءٌ كان عقارًا أو منقولًا أو نحو ذلك، مما يكون مخصَّصًا لمنفعةٍ عامَّةٍ بالفعل أو بمقتضى قانونٍ أو مرسومٍ".
ويؤيد هذه النظرة الشرعية في التعامل مع المال العام ما أَقَرَّه الـمُشرِّع المصري في المادة الأولى بالقانون رقم 109 لسنة 1980م تعديلًا على القانون رقم 95 لسنة 1945م بإضافة المادة (3 مكرر "ب")، والتي تنص على العقوبة بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة من مائة جنيه إلى خمسمائة جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين لعدة أشخاص وهم:
أَوَّلًا: مَن "اشترى لغير استعماله الشخصي ولإعادة البيع مواد التموين الموزَّعة عن طريق مؤسسات القطاع العام والجمعيات التعاونية الاستهلاكية وفروعها".
ثانيًا: "مَن عُهِد إليه بتوزيع المواد التموينية في مناطق معينة أو على أشخاص معينين، وخالف ذلك بالتَّصرُّف فيها خارج هذه المنطقة أو إلى غير هؤلاء الأشخاص".
ثالثًا: مَن تَوصَّل بدون وجه حق إلى تقرير حصةٍ له في توزيع مواد تموينية أو غيرها مِن المواد التي يتم توزيعها طبقًا لنظام الحصص، وذلك بناءً على تقديم معلومات أو وثائق غير صحيحة، أو تَوصَّل إلى الحصول على هذه الحصص نفسها دون وجه حق، أو بعد زوال السبب الذي قام عليه تقرير حقه فيها، ومَن استعمل الحصة أو تَصرَّف فيها على غير الوجه الـمُقرَّر لذلك، أو إخلالًا بالغَرَض مِن تقرير التوزيع بالحصص، ومَن كان مختصًّا بتقرير هذه الحصص أو بصرفها متى قرر الحق في الحصة أو أقرَّ صرفها وكان عالمًا بعدم أحقِّيَّة المقررة له أو المنصرفة له".
والتصرف في كارت التموين بإعطائه للغير للاستفادة منه حالة كونه غير مسموحٍ به من الجهات المختصة هو نوع من الغش والاحتيال والخداع، وهي أمورٌ محرمةٌ حذَّرَ الشرعُ الشريفُ منها، وتوعد فاعلَها.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» أخرجه الإمام البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أخرجه الإمام مسلم.
وبناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فالتصرف في كارت التموين واستخدامه مُقيَّد بما حدَّدته الجهات المختصة لذلك، وعلى القَدْر الذي حدَّدته، وأي مخالفة لذلك فهي مُحرَّمة شرعًا وقانونًا؛ إذ الاحتيال لأخذ تلك المِنَحِ والمساعدات دون وجه حقٍّ، أو التَّصرُّف فيها على غير الوجه المقرَّر لها، عن طريق الإدلاء ببيانات خاطئةٍ أو بأيِّ وسيلة أخرى أمرٌ مُحرَّمٌ شرعًا ومجرَّم قانونًا، ففيه أكل أموال الناس بالباطل، ويشتدُّ إثمه لكونه اعتداءً على الأموال العامة التي تتعلق بها ذمة عموم المجتمع.