“غريبة الروح .. حكاية الشاعر الذي كتب وجعه بالحبر والحنين”
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
بقلم : سمير السعد ..
شاعر الاغتراب والحنين الذي صوّر وجعه على وتر الحياة و في زوايا مدينة الناصرية، تلك الأرض الخصبة بالإبداع والموشومة بحكايات العشق والخيبات، وُلد الشاعر جبار الغزي. شابٌ حمل في قلبه روحًا حساسة عكست وجدان الجنوب الجريح. لم تكن مسيرته إلا سلسلة من محطات الألم والاغتراب، حفرها الزمن بيدٍ قاسية في ملامحه وروحه.
في مطلع شبابه، وقع الغزي في حب فتاة جميلة أخلاقًا وشكلاً، ارتبطت مشاعرها به تأثرًا بعذوبة كلماته ودفء روحه الشاعرية. كان يخطّ لها قصائد تشبه ندى الصباح، ويرسلها كرسائل حب تفيض بالعاطفة. لكنها، كأغلب قصص العشق المأساوية، انتهت برفض قاطع من أهلها، تاركين جبارًا في مواجهة الفراغ العاطفي والخذلان.
لم يستطع أن يجتاز هذه النكسة بسهولة. هرب إلى بغداد، محاولًا دفن جرحه بين دروبها الصاخبة، ولكنه لم يجد في شوارعها وأزقتها سوى غربته التي صارت رفيقة ليله ونهاره. هناك كتب واحدة من أعذب قصائده، “غريبة الروح”، التي أظهرت عذابه الداخلي وصراعه مع الذكريات !
“غريبة الروح لا طيفك يمر بيها
ولا ديره التلفيها
صفت وي ليل هجرانك ترد وتروح
عذبها الجفه وتاهت حمامة دوح”
وسط هذا التيه، حملت بغداد له لقاءً يعيد دفءًا مؤقتًا لروحه، حين التقى أمه تحت نصب الحرية بعد سنوات طويلة من الفراق. كان المشهد أشبه بمسرحية حزينة، حيث اجتمع العناق بين دموع الفقد وشوق اللقاء. عكست هذه اللحظة جبار الإنسان، الذي حمل أوجاع الوطن وفقد الأحبة في آنٍ واحد.
مع مرور الوقت، تحوّل الحنين إلى حالة مستديمة في حياة الغزي. كان يتمنى عودة محبوبته، ولو كغريبة تعبر دروب بغداد. حمل في داخله شوقًا مكابرًا، كالعطش للماء الذي لا يرتوي أبدًا ! .
“تحن مثل العطش للماي تحن
ويلفها المكابر
ويطويها وانت ولا يجي ببالك
تمر مرة غرب بيها واهيسك جرح بجروحي
يمرمرني وتحن روحي”
حين كتب “غريبة الروح”، لم تكن مجرد كلمات على ورق؛ بل كانت هوية شعرية تحمل توقيعه الأبدي. جسّد الفنان حسين نعمة هذه المشاعر بصوته، مانحًا النص حياة جديدة تتخطى حدود الكلمات. أضاف الموسيقار فرحان محسن لحنًا يمزج بين الحزن والشجن، ليصبح العمل مرآةً صادقة لروح الغزي.
رغم محاولات الغزي لتجاوز خساراته، بقيت روحه غريبة في هذا العالم. استمر وجعه كشاعر يعكس معاناة كل من عاش الغربة والفقد. ربما لم ينصفه الزمن، لكن أعماله ستظل شاهدة على شاعر جعل من الحزن إبداعًا، ومن الألم قصيدة خالدة.
هكذا، يبقى جبار الغزي رمزًا إنسانيًا يحمل تفاصيل حكاية وطن بأكمله، حيث الحب والخذلان، الغربة والحنين، والشعر الذي يخلد الأرواح المتعبة.
رحلة الغزي لم تكن رحلة فردية، بل كانت انعكاسًا لمأساة جيلٍ بأكمله. جيل عاش تحت وطأة الظروف القاسية التي مزجت بين الحروب والخذلان والهجرة القسرية. في كل بيت شعري كتبه، كان ينطق بلسان المحبين المحطمين، وبصوت كل غريب حمل قلبه عبء الذكريات.
قصائده لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل صور شعرية مؤثرة عكست شعوره بالضياع والخذلان، وجعلت مستمعيه يشعرون وكأنهم جزء من قصته. كان الحزن حاضراً في كل حرف، كأن روحه نُقشت على الورق. لم يكن الغزي شاعرًا تقليديًا يكتب فقط للتسلية أو الوصف، بل كان شاعر القلب الجريح الذي استمد إلهامه من تجربة عاطفية وإنسانية عميقة.
على الرغم من النجاح الكبير الذي حققته قصائده، ظل الغزي أسير الحزن. لم تشفِ الشهرة جراحه ولم تملأ الفراغ الذي تركه حبّه الأول. حياته انتهت بمأساة لم تكن غريبة على مسيرته المليئة بالألم. ترك هذا العالم وهو لا يزال غريب الروح، باحثًا عن طيف محبوبته، وعن مدينته التي لم تلتئم جراحها في قلبه.
اليوم، وبعد عقود من رحيله، ما زالت كلماته تُتلى كأنها صلوات على أرواح المتعبين. “غريبة الروح” ليست مجرد قصيدة ، إنها مرآة لروحه ولأرواح كل من فقد شيئًا أو شخصًا أحبّه.
حمل الناصرية في قلبه وبغداد في غربته، ترك بصمة لا تمحى في تاريخ الشعر الشعبي العراقي. لم يكن مجرّد شاعر كتب عن الحب والفقد، بل كان صوتًا للروح العراقية المعذّبة، وصورة حيّة لصراع الإنسان مع أقداره.
ويبقى السؤال الذي تركه وراءه معلقًا في وجداننا ..
“هل يمكن للغريب أن يجد وطنًا لروحه، أم أن الغربة قدرٌ لا فرار منه؟”
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات لم تکن جبار ا شاعر ا بل کان
إقرأ أيضاً:
السموع.. حكاية بلدة كنعانية تنبض بالحجارة والزيت والسمن والكرامة الفلسطينية
بلدة غنية بالآثار والخرب يعود تاريخها إلى العرب الكنعانيين وتمتاز بزيتها الذي لا مثيل له وبحجارتها التي تستخدم في البناء، وتعتبر البلدة قلعة البساط البلدي الفلسطيني حيث يتجلى جمال الفن في كل زاوية من زواياها. وهي تتبع محافظة الخليل بالضفة الغربية، وتبعد 18 كم جنوب مدينة الخليل، وتربطها بها طريق معبدة عن طريق يطا، وهناك طريق أخرى فرعية تصلها بطريق الخليل الظاهرية بئر السبع.
وتقع على بعد 45 كم جنوب مدينة القدس القديمة، وتحدها كل من بلدة يطا ودورا والظاهرية من الشمال والغرب، بينما يحدها الجدار العازل، جدار الفصل العنصري، من الجنوب، وهي آخر التجمعات السكانية أقصى جنوب الضفة الغربية.
وتقع فوق رقعة جبلية تنحدر أراضيها نحو الجنوب الغربي حيث تبدأ المجاري العليا لبعض الأودية المتجهة نحو بئر السبع.
ويتبع بلدة السموع عدد من الخرب الصغيرة مثل، رافات والسيميا ووادي العماير وأم غانم، فيما تعتبر جبال السموع أخر سلسلة جبلية من جبال الضفة الغربية، وهي مصدر جريان وادي غزة في الشتاء.
يوجد في البلدة مواقع أثرية كثيرة منها: مبنى قديم لكنيسة رومانية، وسجن أثري، وبقايا برج وكنيس، وأبنية متهدمة، وقطع منقوشة في القرية، ومدافن، وعدد من المغر الكنعانية حيث بنيت البلدة على عدة مغارات وإنفاق أثرية كنعانية وإسلامية عثر فيها على عدة مقابر وقطع أثرية وفخارية.
برج السموع أحد بقايا آثار المدينة الكنعانية.
وتبلغ مساحة أراضي السموع نحو 138,782 دونما، وأهم المحاصيل الزراعية التي تزرع في البلدة هي: الحبوب بأنواعها والعنب والتين والزيتون، ويعتمد السكان على تربية المواشي لتوفر المراعي في المناطق الوعرة.
وبلغ غدد سكان السموع في عام 1922 في الإحصاء الذي أجرته سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين نحو 1600 نسمة جميعهم العرب.
وفي عام 1945 بلغ العدد 2520 نسمة، فيما يبلغ عدد سكان السموع حاليا نحو 26 ألف نسمة.
تشتهر البلدة بالسمن البلدي، ويعتبر الزيت المستخرج من زيتونها الأفضل في فلسطين نظرا لكمية الأمطار القليلة الساقطة، بينما ينافس حجر المقالع المستخرج منها كل من حجر بيرزيت وصور معين والشيوخ.
يعود تاريخ البلدة للفترة الكنعانية، وذكرت في سفر يشوع حيث كانت مستوطنة تسمى "اشتموع" وفي العهد الروماني حرف الاسم إلى "استيمواع"، بمعنى طاعة .
خضعت السموع مثل بقية فلسطين لحكم الدولة العثمانية في عام 1517، وبحسب سجلات الضرائب العثمانية ظهرت القرية على أنها تابعة لناحية الخليل من لواء القدس، وكان عدد سكانها يتألف من 16 أسرة مسلمة. دفعوا ضريبة ثابتة نسبتها 33,3٪ على المنتجات الزراعية، كالقمح والشعير والكروم وأشجار الفاكهة، بالإضافة إلى رسوم على الماعز وخلايا النحل، ورسوم أخرى متفرقة، وهو ما مجموعه 3000 آقجة.
في عام 1838، وصف الباحث الأمريكي إدوارد روبنسون، مؤسس علم الآثار الكتابي، السموع كقرية "لها اعتبارها ومليئة بالطيور والحيوانات على أجمل ما يرام"، وذكر أن فيها بقايا جدران مبنية من الحجارة الكبيرة جدا .
وفي أعقاب نكبة فلسطين عام 1948، وبعد اتفاقيات الهدنة عام 1949، وقعت السموع تحت الحكم الأردني.
اشتهرت البلدة بمعركتها الشهيرة التي وقعت بين الجيش الأُردني وجيش الاحتلال الإسرائيلي في عام 1966 حيث زعم الاحتلال وجود قاعدة للعمل الفدائي في بلدة السموع في الضفة الغربية الواقعة تحت الحكم الأردني آنذاك، وأنها قامت بعدة عمليات عسكرية في العمق الإسرائيلي الأمر الذي دعاها إلى مهاجمة البلدة.
إلا أن بعض الخبراء يرون أن هذه العملية كانت لاستدراج الجيش الأردني للحرب، و حشد اللواء المدرع الإسرائيلي السابع، قواته على الحدود الأردنية واجتاز خطوط الهدنة برتلين من الدبابات و٤٠٠ مقاتل محمولين في عربات نصف مجنزرة تساندها عدة أسراب من الطائرات المقاتلة. تحرك أحد الأرتال باتجاه بلدة السموع والآخر باتجاه بلدة يطا التي تبعد كيلومترات عن السموع بهدف التضليل.
في موازاة ذلك، تحركت قوتان من الجيش الأردني باتجاه السموع عبر طريقين مختلفين الأولى عن طريق بلدة الظاهرية وهي تبعد مسافة قصيرة عن السموع، والثانية عن طريق يطا تحت قصف الطيران الإسرائيلي واصطدمت القوة الأردنية بالقوات الغازية في قتال ضاري.
تمكنت القوات الإسرائيلية من وصول مرتفعات السموع لحظة وصول القوات الأردنية، التي كان يشارك معها في القتال سرب طائرات وقد تصدت الطائرات المقاتلة الأردنية لها في معركة جوية فوق سماء السموع.
مستوطنون يقتحمون موقعا أثريا في بلدة السموع.
استشهد في المعركة 13 جنديا أردنيا إضافة إلى الرائد محمد ضيف الله الهباهبة، والملازم الطيار موفق بدر السلطي، وجرح في المعركة قائد لواء حطين العقيد بهجت المحيسن، إلى جانب 22 عسكريا وتراجعت القوات الإسرائيلية بعد مقتل قائد لواء المظليين الإسرائيلي العقيد يواف شاهام وهزيمتها الجوية.
وشاركت طائرات الاحتلال في المعارك وأسقط الجيش الأردني 3 طائرات إسرائيلية، وقد تعرضت البلدة إلى الغزو الإسرائيلي قل ذلك في عام 1965 حيث اجتاح بلدة رافات ونسفت أكثر من خمسين منزلا للمواطنين.
وصدر قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 228 بإدانة الهجوم الإسرائيلي على بلدة السموع.
بعد حرب عام 1967، وقعت السموع تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأقيمت على أراضيها عدة مستوطنات منها "بيت يتير"، "شمعة"، "عتنائيل"، "سوسيا"، "شاني ليفنه"، " اشتمواع"، "كفار لصيفر".
وقد استلمت السلطة الوطنية الفلسطينية البلدة عام 1996 في إطار اتفاقية أوسلو.
تنبض السموع بروح الصمود والمقاومة، فقد شهدت معارك عديدة وصمودا بطوليا منذ الانتفاضة الأولى والثانية حتى اليوم على وقع طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، واستطاعت أن تحافظ على هويتها وتراثها رغم الظروف الصعبة التي مرت بها.
المصادر:
ـ مصطفى الدباغ، موسوعة بلادنا فلسطين، الجزء الخامس، القسم الثاني،1991.
ـ الجهاز المركزي للإحصاء، السلطة الوطنية الفلسطينية، رام الله.
ـ عوض الرجوب، "56 عاما على معركة السمّوع..دامت 5 ساعات فقط ولكنها مفصلية ومهدت لاحتلال الضفة"، الجزيرة نت، 13/11/2021.
ـ الموقع الإلكتروني لبلدة السموع.
ـ موسوعة القرى الفلسطينية.
ـ علي سعادة، "معركة السموع.. أثارت انتقادات عالمية ومهدت لحرب 1967"، عربي21، 14/11/2020.