سودانايل:
2025-12-09@23:52:36 GMT

التركة الاستعمارية: استعمار الحلال والبلال (2-2)

تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT

عبد الله علي إبراهيم
لم تعد الصفوة البرجوازية الصغيرة ترى في استعمار بريطانيا لنا تركة للتصفية (decolonization)كما أملنا بالاستقلال، بل إرثاً أو مأثرة. وباتوا على عقيدة تقية أن السودانيين كانوا استثناء في منظومة الاستعمار البريطاني جعل استعمارهم قريباً من كأن لم يكن.
والعقيدةُ الصفويةُ الأولى في استثناء السودان من الاستعمار هو زعمُ الصفوة أننا كنا في ولاية الخارجية البريطانية لا ولاية وزارة المستعمرات البريطانية.

وبالطبع لم نكن الاستثناء الوحيد في الإمبراطورية البريطانية في ولاية غير وزارة المستعمرات، شأن المستعمرة البريطانية، ناهيك عن ضعف الحجة لذلك الاستثناء نفسه. فلم تكن الهند تُدار لا من قبل وزارة المستعمرات البريطانية ولا من وزارة الخارجية، بل من إدارة خاصة بالهند قام عليها حاكم احتل مقعداً في مجلس الوزراء البريطاني. والسبب في هذا أن الهند كانت أقدم مستعمرات بريطانيا، بل وتاجها.
ومن وجوه هذا الاستثناء لاستعمارنا في قول الصفوة أن بريطانيا كانت تميز السودان دون غيره. فلا تبعث لإدارته سوى خريجي أكسفورد وكمبريدج "Oxbridge". وهذا التمييز أعرج حتى نعرف من كان يبعث الإنجليز لحكم غيرنا في أفريقيا وآسيا. فرِحم أكسفورد وكمبردج ولود ولا يمكن لإدارة السودان، التي لم تستوعب سوى 393 إدارياً من الجامعتين على طول فترة استعمارنا، استنفاد خريجيهما.
من جهة أخرى، متى سمعت عزة صفوتنا بحكم خريجي أكسفورد وكمبردج للسودان دون غيره انصرف ذهنك إلى أن المعيار في تعيين الإنجليز للخدمة في السودان كان الشطارة الأكاديمية. ولم تكن تلك مع ذلك ميزة من عينهم الإنجليز للخدمة في السودان. فخلافاً للتعيين في الخدمة في الهند مثلاً، لم يخضع المتقدمون للخدمة الاستعمارية في السودان لامتحانات أكاديمية يُكرم بها المرء أو يهان. فكل المطلوب من المتقدم للخدمة في السودان أن يكون ذا سابقة في الرياضة. وغلب بينهم لذلك من حازوا من الجامعتين على درجة الشرف الثانية والثالثة لا الأولى. علاوة على اعتبار بريطانيا سابق الخدمة الممتازة في الجيش في تعيين طاقمها في السودان.
وما حدا ببريطانيا لوضع أشراط التعيين تلك للسودان هو رأيها في أنه "منطقة شدة" إمبريالية لا يقوى عليها إلا ذو جسد شديد، طلّاع صحاري، جوّاب غابات. ومصداقاً لذلك قال جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري للحاكم العام في خمسينيات القرن الماضي، إن تميزهم الرياضي في المدرسة والجامعة قد زودهم بالثقة في النفس لمقابلة الوحشة والعزلة في السودان يديرون شؤون جماعات واسعة من السكان. وبلغ من استبداد التأهيل الرياضي (لا العلمي) في التعيين للخدمة في السودان أن سارت العبارة: "زرق يحكمون سمراً وسوداً". والزرق هنا إشارة للجوائز التي ينالها الرياضي في منافسات الجامعتين. والسمر والسود هم السودانيون.
ومن عقائد الصفوة الحفية بالتركة الاستعمارية أن الإنجليز تركوا فينا خدمة مدنية غراء ذات كفاءة عالية. وربما كانت تلك الخدمة كذلك. ولكن من الصعب بالطبع أن تُسمي إدارة رتبها الاستعمار لتصريف شؤونه في بلد ما خدمة مدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة الاستعمار نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء ثقيل على المستعمَر. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: "إنني أفضل أرض الأهالي عليهم". ولا يستغرب، والحال هكذا، وقوع حالات إبادة جماعية للسكان الأصليين خلال غزو بلادهم أو استعمارها.
ومن عقائد الصفوة في الحفاوة بالتركة الاستعمارية أن بريطانيا هي التي أنهت استعمارها لنا في توقيتها الخاص. وعليه جاءنا الاستقلال منحة حين تولى حزب العمال الحكم في بريطانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولا يحتاج هذا الاستثناء إلى كثير رد. فنهاية الاستعمار، التي ارتبطت بعهد الملكة إليزابيث الثانية، كان عصراً بحاله. بدأ بالهند في 1947. وسبقت السودان فيه غانا التي استقلت في 1957 بعام. ثم لم تبق من مستعمرة لم تتحرر في نهاية العقد السادس من القرن العشرين إلا التي كانت تحت استعمار استيطاني ولحين. فإذا تركنا جانباً إسقاط هذه العقيدة الصفوية لدور الحركة الوطنية في الاستقلال، فهي غير ذات قيمة لأن الاستعمار غادر، بالحسنى وبغيرها، أفريقيا في وقت معاً لا فضل فيه لقطر دون آخر.
وددت لو أخذ علم السياسة عندنا عن علم الثقافة في جرد التركة الاستعمارية وآثارها على الحكم فينا. فلعبد الله الطيب، الأكاديمي المصقع والشاعر، قولةٌ عن التركة الاستعمارية غاية في الإصابة. قال إن الاستعمار قد مات حقاً، ولكنه قام "بعاتي" في نظم حكمنا العاقبة له. وعقيدة البعاتي، وهي قيام أحد الناس من قبره من مخافات السودان فاشية فيه. ويقال إن البعاتي ينبعث فيمشي على أمشاطه، ولا ينظر إلى أعلى، ملتفعاً بكفنه. وزاد عبد الله الطيب قائلاً إن بصوته خنخنة. وربما كان هذا القبح ما نكرهه في نظمنا العاقبة للاستعمار بغير إدراك بأنه الأصل فيها.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

تلغراف البريطانية تتابع لغز الصيادين المفقودين في غزة

خرج الصياد أحمد رشاد الهسي برفقة أربعة من أقاربه إلى البحر بحثا عن الطعام في ظل الحصار الخانق على قطاع غزة، وغادروا مع خيوط الشمس الأولى في أحد أيام نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ولكنهم لم يعودوا حتى الآن.

وسلط تقرير نشرته صحيفة تلغراف البريطانية الضوء على اختفاء الصيادين، مشيرة إلى قلق عائلتهم اليومي وبحثها عن إجابات بلا طائل. فقد مر شهر كامل دون أي خبر عن الرجال الخمسة ولم يُعثر على أي أثر لهم، لا قوارب ولا جثث ولا حطام.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كاتب بهآرتس: إعلام إسرائيل يستخف بالفلسطينيين ويكرس الأبارتايدlist 2 of 2الأميركيون من أصول صومالية يحملون جوازاتهم بالشوارع خوفا من الترحيلend of list

وتخشى عائلة الهسي أن يكون الرجال قد اعتُقلوا في البحر. وفي حال تأكد ذلك، فسيرتفع عدد الصيادين الذين اعتقلوا منذ وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر/تشرين الأول إلى 16. ويأتي هذا إضافة إلى 65 صيادا قُتلوا بالرصاص أثناء صيدهم منذ بداية الحرب، بحسب الصحيفة.

الصيادون يعملون "وفق الحالة المزاجية لعناصر الشرطة الإسرائيلية"

بواسطة محمد مراد الهسي

وتكشف بيانات رسمية أن إسرائيل احتجزت حتى مايو/أيار من هذا العام نحو 6 آلاف شخص ضمن قانون "المقاتلين غير الشرعيين"، الذي يسمح باحتجاز الفلسطينيين دون محاكمة أو تهمة. وتظهر تقارير صحفية أن ربعهم فقط يشتبه بانتمائهم لجماعات مسلحة، بحسب تلغراف.

إسرائيل قتلت 65 صيادا منذ بداية الحرب وفق الصحيفة البريطانية (رويترز)

وفي يونيو/حزيران 2024، أكد مسؤول أممي رفيع أنه شاهد دبابات إسرائيلية تقتل صيادين يقفون في المياه لصيد الأسماك بالشباك، وفق التقرير الذي أعده الصحفيان هنري بودكين ورويدا عامر.

واختفى مع أحمد رشاد الهسي، كل من محمد الهسي، ومحمود الهسي، وعلاء رجب الهسي، ومحمد أحمد طلبة. وقد زوّدت الصحيفة الجيش الإسرائيلي بأسمائهم وتاريخ اختفائهم، لكن لم يصلها رد حتى اللحظة.

لعبة "قط وفأر"

ولم تتوقف لعبة "القط والفأر" -وفق تعبير التقرير- بين الصيادين والجيش الإسرائيلي منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين حظرت إسرائيل البحر تماما على سكان غزة.

إعلان

وكان الصيد مسموحا قبل ذلك حتى 6 أميال بحرية، ثم خُفض إلى 3 أميال عام 2018 ضمن الحصار البحري. ورغم القيود والمخاطر، يواصل الغزيون الذهاب إلى البحر للنجاة بأرواحهم وأطفالهم من المجاعة، بحسب التقرير.

ودمّرت الحرب ميناء غزة، وخسر الصيادون معدات بملايين الدولارات، وفق ما نقلته الصحيفة. وكان القطاع ينتج قبل الحرب أكثر من 4600 طن من الأسماك سنويا وفق الأمم المتحدة، لكن الإنتاج انخفض إلى 7% فقط من مستواه السابق.

جانب من الدمار الذي لحق صيادي غزة جراء الحرب الإسرائيلية المستمرة (الجزيرة)

ورغم "إطلاق النار"، استمرت الاعتقالات -وفق روايات الصيادين الذين قابلتهم تلغراف- خاصة وأن سفن البحرية الإسرائيلية تعمل في دوريات دائمة قبالة ساحل غزة.

وقال محمد مراد الهسي -ابن عم الصياد أحمد المختفي- لتلغراف إن الصيادين يعملون "وفق الحالة المزاجية لعناصر الشرطة الإسرائيلية".

وأضاف أنهم "أحيانا يكونون في مزاج جيد فيسمحون لنا بالصيد، ولكن عندما يكون مزاجهم سيئا يطلقون النار علينا ويعتقلوننا".

وشرح محمد رجب الهسي (33 عاما) -صياد آخر من العائلة- للصحيفة الأساليب المختلفة التي يعتمدها زملاؤه للبقاء آمنين، ومنها الخروج في جماعات حتى يستطيعوا حماية ومساعدة بعضهم عند الطوارئ.

الصيادون يتبعون إستراتيجيات منها الاصطياد ضمن جماعات لمساعدة بعضهم في حال هجوم إسرائيلي (غيتي)

وقال "نحاول الحفاظ على مظهر سلمي ليطمئن أفراد الشرطة الإسرائيلية أننا مجرد صيادين مسالمين، ونخرج رافعين رايات بيضاء على قواربنا، ونتأكد من خلو الشاطئ من الناس لتجنب الشبهات وخلق شعور بالأمان لكي تتيقن البحرية أننا مجرد صيادين".

وبينما تناقش دول عدة مستقبل غزة، يبقى الحصار البحري قائما، ومعه تستمر "اللعبة القاتلة" بين الصيادين والبحرية الإسرائيلية. أما زوجة أحمد، فلا تريد سوى خبر يؤكد لها أن زوجها لا يزال حيا، بحسب الصحيفة.

مقالات مشابهة

  • وزيرة الخارجية البريطانية: أهوال السودان مستمرة ويجب محاسبة المتورطين
  • وزيرة الخارجية البريطانية: يجب محاسبة مرتكبي الجرائم في السودان دون استثناء
  • وزير الكهرباء لسفير بريطانيا: توسيع الاستثمارات وزيادة مشاركة الشركات البريطانية
  • بريطانيا: لا بد من محاسبة مرتكبي الجرائم الشنيعة في السودان
  • البابا تواضروس: النظام والأمانة والرحمة عمود فقري للخدمة الاجتماعية
  • تلغراف البريطانية تتابع لغز الصيادين المفقودين في غزة
  • حكاية الإخوان في السودان
  • فتاة البشعة: نمت وصحيت لقيت نفسي تريند.. وبشتغل "تيك توكرز" للحصول على المال الحلال
  • فتاة البشعة: نمت وصحيت لقيت نفسي تريند.. وبشتغل تيك توكرز للحصول على المال الحلال
  • منظومة رقمية.. 3 آلاف ساعة تطوعية تمنح "صم الشرقية" التميز الوطني