سودانايل:
2025-06-22@15:56:45 GMT

التركة الاستعمارية: استعمار الحلال والبلال (2-2)

تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT

عبد الله علي إبراهيم
لم تعد الصفوة البرجوازية الصغيرة ترى في استعمار بريطانيا لنا تركة للتصفية (decolonization)كما أملنا بالاستقلال، بل إرثاً أو مأثرة. وباتوا على عقيدة تقية أن السودانيين كانوا استثناء في منظومة الاستعمار البريطاني جعل استعمارهم قريباً من كأن لم يكن.
والعقيدةُ الصفويةُ الأولى في استثناء السودان من الاستعمار هو زعمُ الصفوة أننا كنا في ولاية الخارجية البريطانية لا ولاية وزارة المستعمرات البريطانية.

وبالطبع لم نكن الاستثناء الوحيد في الإمبراطورية البريطانية في ولاية غير وزارة المستعمرات، شأن المستعمرة البريطانية، ناهيك عن ضعف الحجة لذلك الاستثناء نفسه. فلم تكن الهند تُدار لا من قبل وزارة المستعمرات البريطانية ولا من وزارة الخارجية، بل من إدارة خاصة بالهند قام عليها حاكم احتل مقعداً في مجلس الوزراء البريطاني. والسبب في هذا أن الهند كانت أقدم مستعمرات بريطانيا، بل وتاجها.
ومن وجوه هذا الاستثناء لاستعمارنا في قول الصفوة أن بريطانيا كانت تميز السودان دون غيره. فلا تبعث لإدارته سوى خريجي أكسفورد وكمبريدج "Oxbridge". وهذا التمييز أعرج حتى نعرف من كان يبعث الإنجليز لحكم غيرنا في أفريقيا وآسيا. فرِحم أكسفورد وكمبردج ولود ولا يمكن لإدارة السودان، التي لم تستوعب سوى 393 إدارياً من الجامعتين على طول فترة استعمارنا، استنفاد خريجيهما.
من جهة أخرى، متى سمعت عزة صفوتنا بحكم خريجي أكسفورد وكمبردج للسودان دون غيره انصرف ذهنك إلى أن المعيار في تعيين الإنجليز للخدمة في السودان كان الشطارة الأكاديمية. ولم تكن تلك مع ذلك ميزة من عينهم الإنجليز للخدمة في السودان. فخلافاً للتعيين في الخدمة في الهند مثلاً، لم يخضع المتقدمون للخدمة الاستعمارية في السودان لامتحانات أكاديمية يُكرم بها المرء أو يهان. فكل المطلوب من المتقدم للخدمة في السودان أن يكون ذا سابقة في الرياضة. وغلب بينهم لذلك من حازوا من الجامعتين على درجة الشرف الثانية والثالثة لا الأولى. علاوة على اعتبار بريطانيا سابق الخدمة الممتازة في الجيش في تعيين طاقمها في السودان.
وما حدا ببريطانيا لوضع أشراط التعيين تلك للسودان هو رأيها في أنه "منطقة شدة" إمبريالية لا يقوى عليها إلا ذو جسد شديد، طلّاع صحاري، جوّاب غابات. ومصداقاً لذلك قال جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري للحاكم العام في خمسينيات القرن الماضي، إن تميزهم الرياضي في المدرسة والجامعة قد زودهم بالثقة في النفس لمقابلة الوحشة والعزلة في السودان يديرون شؤون جماعات واسعة من السكان. وبلغ من استبداد التأهيل الرياضي (لا العلمي) في التعيين للخدمة في السودان أن سارت العبارة: "زرق يحكمون سمراً وسوداً". والزرق هنا إشارة للجوائز التي ينالها الرياضي في منافسات الجامعتين. والسمر والسود هم السودانيون.
ومن عقائد الصفوة الحفية بالتركة الاستعمارية أن الإنجليز تركوا فينا خدمة مدنية غراء ذات كفاءة عالية. وربما كانت تلك الخدمة كذلك. ولكن من الصعب بالطبع أن تُسمي إدارة رتبها الاستعمار لتصريف شؤونه في بلد ما خدمة مدنية. فالدولة الاستعمارية ليست حكومة في المعنى المصطلح عليه لتكون لديها خدمة مدنية. فالأصل في الحكومات أنها نشأت لإدارة جماعات من السكان بينما حكومة الاستعمار نشأت لإدارة رقعة جغرافية تستأثر بخير ظاهرها وباطنها. أما سكان هذه الرقعة فهم عبء ثقيل على المستعمَر. وعَبَّر سيسل رودس، الحاكم الإنجليزي لمستعمرة كيب تاون في جنوب أفريقيا، عن شبق المستعمرين للأرض دون الناس بقوله: "إنني أفضل أرض الأهالي عليهم". ولا يستغرب، والحال هكذا، وقوع حالات إبادة جماعية للسكان الأصليين خلال غزو بلادهم أو استعمارها.
ومن عقائد الصفوة في الحفاوة بالتركة الاستعمارية أن بريطانيا هي التي أنهت استعمارها لنا في توقيتها الخاص. وعليه جاءنا الاستقلال منحة حين تولى حزب العمال الحكم في بريطانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولا يحتاج هذا الاستثناء إلى كثير رد. فنهاية الاستعمار، التي ارتبطت بعهد الملكة إليزابيث الثانية، كان عصراً بحاله. بدأ بالهند في 1947. وسبقت السودان فيه غانا التي استقلت في 1957 بعام. ثم لم تبق من مستعمرة لم تتحرر في نهاية العقد السادس من القرن العشرين إلا التي كانت تحت استعمار استيطاني ولحين. فإذا تركنا جانباً إسقاط هذه العقيدة الصفوية لدور الحركة الوطنية في الاستقلال، فهي غير ذات قيمة لأن الاستعمار غادر، بالحسنى وبغيرها، أفريقيا في وقت معاً لا فضل فيه لقطر دون آخر.
وددت لو أخذ علم السياسة عندنا عن علم الثقافة في جرد التركة الاستعمارية وآثارها على الحكم فينا. فلعبد الله الطيب، الأكاديمي المصقع والشاعر، قولةٌ عن التركة الاستعمارية غاية في الإصابة. قال إن الاستعمار قد مات حقاً، ولكنه قام "بعاتي" في نظم حكمنا العاقبة له. وعقيدة البعاتي، وهي قيام أحد الناس من قبره من مخافات السودان فاشية فيه. ويقال إن البعاتي ينبعث فيمشي على أمشاطه، ولا ينظر إلى أعلى، ملتفعاً بكفنه. وزاد عبد الله الطيب قائلاً إن بصوته خنخنة. وربما كان هذا القبح ما نكرهه في نظمنا العاقبة للاستعمار بغير إدراك بأنه الأصل فيها.

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

كارثة صامتة.. ازدياد تلوث الأنهار في بريطانيا وسط تحذيرات بيئية

كشفت تحقيقات استقصائية أن كميات المياه المسحوبة من أنهار وبحيرات إنجلترا لأغراض صناعية واستهلاكية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، بارتفاع بلغ 76% خلال العقدين الماضيين، في مؤشر خطير على تفاقم أزمة الموارد المائية في البلاد وتهديد متصاعد للتوازن البيئي. اعلان

 ووفق تحليل مشترك أجرته "واترشِد إنفستيغيشنز" وصحيفة الغارديان، فقد تم سحب 11.6 مليون متر مكعب من المياه خلال السنوات الخمس الأخيرة حتى عام 2023، مقارنة بـ6.6 ملايين متر مكعب فقط مطلع الألفية. وارتفع معدل سحب المياه من الأنهار ليشكل اليوم 61% من إجمالي المياه المسحوبة من الطبيعة، مقارنة بأقل من 40% قبل عشرين عامًا، في حين زاد الاعتماد على المياه الجوفية بنسبة 53% منذ عام 2018.

"أنهارنا في خطر"

يحذر خبراء البيئة من أن هذا التوسع المفرط في سحب المياه يأتي في وقت تعاني فيه البلاد من فترات جفاف متكررة، وتهالك في البنية التحتية المائية، وتسربات هائلة من الشبكات.

يقول نيك ميشام، الرئيس التنفيذي لمنظمة WildFish البيئية: "نُحمّل الأنهار فوق طاقتها وهي تجف. وعندما يعود المطر، نعيد للمجرى مياهًا ملوثة. موائل الحياة البرية في خطر حقيقي".

ورغم تصنيف بعض الاستخدامات بأنها "غير استهلاكية" – مثل المياه المستخدمة في توليد الكهرباء أو الملاحة – يؤكد النشطاء أنها ليست آمنة بيئيًا، إذ تُفقد كميات كبيرة أثناء العملية، وتعود المياه غالبًا ملوثة حراريًا أو كيميائيًا.

Relatedاللجنة الأولمبية تقلل من مسألة تلوث المياه في ريو دي جانيروتفاقم الكوليرا في اليمن نتيجة تلوث المياهالاتحاد الأوروبي يطلق استراتيجية شاملة لمكافحة تلوث المياهالترخيص يتوسع.. بينما المخزون يتقلص

أظهرت البيانات أن الحد الأقصى المسموح لسحبه من الأنهار والبحيرات ارتفع بنسبة 6% خلال السنوات العشر الماضية، ليصل إلى 27 مليار متر مكعب، فيما تقلصت حدود سحب المياه الجوفية والمدية بنسب 4% و42% على التوالي منذ عام 2013.

وتُحذّر وكالة البيئة من أن الطلب العام على المياه قد يزداد بمقدار 6 مليارات لتر يوميًا بحلول عام 2055، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة. وتشير التقديرات إلى أن شركات المياه لا تزال تفقد نحو 19% من إمداداتها اليومية – أي ما يقارب 3 مليارات لتر – بسبب التسربات، ما يفاقم العجز الهيكلي.

تأخر استراتيجي واستنزاف للأنهار

يقول مصدر في قطاع المياه، طالبًا عدم الكشف عن هويته: "كان يجب علينا بناء خزانات جديدة منذ عشر سنوات. الحكومات المتعاقبة افتقرت إلى الرغبة السياسية".

بسبب نقص مرافق التخزين، تلجأ شركات المياه إلى سحب كميات إضافية من الأنهار خلال الجفاف – وهو التوقيت الأكثر حساسية بيئيًا.

ويتابع ميشام: "ما نراه هو فشل ذريع في التخطيط المسبق. كثير من الأنهار التي كانت تزخر بالحياة أصبحت بركًا آسنة لا حياة فيها".

نهر "إيتشين": تحذير مبكر من الانهيار

من بين الأمثلة الصادمة، ما يحدث في نهر إيتشين، حيث انخفض عدد أسماك السلمون العائدة للتكاثر إلى أدنى مستوياته منذ بدء التسجيل، إذ لم تُسجل سوى 133 سمكة في عام 2022 و187 فقط في 2024.

وتحذر جانينا غراي من WildFish قائلة: "الثمن تدفعه الأنهار. والأسماك هي الضحية الأولى".

يشير التحقيق إلى تفاوت كبير في كميات السحب بين الأقاليم، حيث ارتفعت في منطقة ميدلاندز بنسبة 132% خلال عقد واحد، لتصل إلى 3.6 مليارات متر مكعب، بينما تراجعت في الجنوب بنسبة 26%. وفي ويلز، استحوذت مقاطعة باويس وحدها على 42% من إجمالي التصاريح، مدفوعة بمشاريع المياه والطاقة.

الحكومة تتحرك متأخرة

نشرت الحكومة البريطانية هذا الأسبوع إطارها الوطني الجديد للمياه، في محاولة لتدارك الأزمة.

وقالت وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية (Defra): "النمو السكاني المتسارع، وتدهور البنية التحتية، وتغير المناخ، كلها تتطلب إصلاحًا جذريًا. لقد ضمنا استثمارًا خاصًا بقيمة 104 مليارات جنيه إسترليني لتشييد تسعة خزانات جديدة وشبكات توزيع حديثة، ونعمل على تحديث نظام التراخيص لحماية البيئة".

وفي المقابل، أكد متحدث باسم وكالة البيئة أن البلاد بحاجة إلى "تكنولوجيا جديدة، ومراقبة ذكية للسحب"، مضيفًا أن "صلاحياتنا الجديدة بموجب قانون التدابير الخاصة بالمياه ستُسهم في تطبيق أفضل وأكثر صرامة للتراخيص ومحاسبة المقصرين".

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • مسيرة حاشدة في لندن تطالب بوقف دعم بريطانيا لإسرائيل
  • الحكومة البريطانية: لم نتلق طلبا أمريكيا بدعم التحرك ضد إيران
  • بريطانيا: واشنطن أبلغتنا قبل ضرب ايران
  • للحانات البريطانية قواعدها الخاصة.. إليك ما تحتاج لمعرفته قبل زيارة إحداها
  • كارثة صامتة.. ازدياد تلوث الأنهار في بريطانيا وسط تحذيرات بيئية
  • مالك بن نبي بين حصار الاستعمار وصراعات النخب.. قصة تهميش عبقري النهضة
  • هيئة الغذاء البريطانية: مشروبات مثلجة تحتوي على مادة سامة للأطفال
  • الأنبا باسيليوس يتابع فعاليات مؤتمر إعداد القادة التكويني للخدمة المريمية بسمالوط
  • المرأة الفلسطينية في عهد الانتداب البريطاني بين نهوض الهوية وتحدي الاستعمار
  • محاكمة متطرفين فرنسيين خططوا لقتل أئمة وتسميم الطعام الحلال