بعد مضي سنوات طويلة في هذه الحياة، تأصلت في ذهني الكثير من القناعات وانكشف أمام عيني كم هائل من الحقائق التي لا نصل إليها إلا بأمرين الأول نحصل عليه من الخبرة النظرية من خلال السمع والرؤيا، والثاني من خلال الخوض في غمار التجارب الذاتية.
لذا وجدت بعد عمر طويل أن ثمة طفرة كبيرة حدثت على مدى سنوات متتالية أوجدت لدي رؤيا وقناعة تامة بأن بعض البشر من بعيد أجمل من الواقع! قد تسأل: لماذا يتغير الشكل عن المضمون خاصة عندما تقترب من نقطة الواقع ؟، والجواب: إن الأجسام التي نراها في مرآة سياراتنا ليست كما تبدو في الواقع، هم كذلك البشر، فهناك شخصيات كثيرة تبهرك بالهالة التي تصنعها حول نفسها، بعضها يتقمص دور «العفة والكرامة والأخلاق»، ولكن ما أن تقترب منها خلال التعامل معها، حتى تصعق بأن كل انطباعاتك السابقة تسقط فجأة، وينكشف الغطاء عن وجه قبيح لا تتوقعه أو تتمنى أن تراه منها!.
ليس كل من تراه في طريقك عندما تتوه في دهاليز الحياة وطرقاتها المعبدة يوصل إلى الهدف، تماما مثل الشخص الذي يغمرك بالتحية والسلام والثناء لكنه في واقعه شخصا يحمل الكثير من الصفات الذميمة والأخطاء التي لا تود رؤيتها، فقضية التحول من شخصية إلى أخرى في غضون دقائق معدودة أصبحت صفة سائدة لدى الكثير من الناس، ومهمة توزيع الابتسامات والضحكات والتحيات ما هي إلا قناع يسقط مع أول تعامل مباشر معهم. لذا تجنب مثل هؤلاء الأشخاص، فعدم الاقتراب منهم، هو الصواب بعينه، فهناك حكمة قديمة تقول: «أفضل انتصارات الحياة هي الانسحاب من كل شيء مؤذٍ ومزيف..هم سيجدون من يشبههم، وأنت ستجد نفسك».
علمتنا الحياة الكثير من العبر والحكم، لكننا نحن الذين نرفض أن نتعلم من أخطائنا الإملائية والبلاغية السابقة، أحيانا نحن ساذجون بما يكفي لصنع شخصية سلبية تواجه الأقدار، حالمون كثيرا في العيش بمدن الأحلام، لكن الواقع ليس كل البشر ملائكة، فهناك شياطين يلبسون ويتلبسون ويترصدون بمن حولهم من الضعفاء، وربما مرت بك الكثير من الشخصيات التي أصابتك في مقتل، وصدمتك بشكل لم تتوقعه منها، ففي قفص الاتهام يقف أحيانا شخص لا تبدو عليه ملامح الجرم أو الخطيئة، يتحدث وكأنه لم يقترف ذنبا، بينما الشواهد والدلائل تدينه من كل جانب.
الظالم لا يتحدث أبد عن ظلمه للناس، وربما يقدم نفسه على أنه المصلح للمجتمع والشخص العادل الذي يريد أن يطبق القسط بين الناس، لكنه يرتكب ما حرمه الله سرا وعلانية، العبرة هي أن الوحوش البشرية لا تدرك حقيقة أفعالها أبدا حتى وإن بدت أعمالها مخالفة لطبيعة البشرية، وعندما تسقط مرة واحدة وتتم محاسبتها فإنها لا تعترف بما اقترفت من ذنوب وخطايا بل تكابر وتصرخ بأن أعمالها المحرمة لم تكن أفسادا في الأرض!
لماذا يقع البعض فريسة لبعض شياطين الأنس؟ الحقيقة أنهم لم يكونوا يرون الحقيقة كاملة، ولم يصدقوا ما قيل لهم بأن الابتسامة في الوجوه ليست هي الحقيقة التي تخفيها، تظن أحيانا بأن من تلتقيه شخص ملائكي، حديثه عن الفضيلة والأخلاق النبيلة وغيرها هي التي تمنحك إحساسا بأنه شخص مختلف عما كنت تسمع من الآخرين الذين نكل بهم وكتم أنفاسهم، تنساق بطبيعتك نحو الطريق نفسه والمؤدي إلى المصير ذاته، لا تكتشف الخطأ الذي ترتكبه في حق نفسك إلا عندما يذيقك جزءا من العذاب الذي أطعمه غيرك من الناس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من
إقرأ أيضاً:
مع قرب انطلاق الحوار المهيكل في ليبيا.. ما التوقعات؟
كان المتوقع أن ينطلق الحوار المهيكل هذه الأيام، بحسب ترتيبات البعثة الأممية، وبالنظر إلى الأطر الزمنية التي تضمنتها خارطة الطريق التي أعلنت عنها المبعوثة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، هانا تيتيه، لذا فإنه يمكن أن يكون التئامه على الأبواب.
الحوار المهيكل هو منتدى تشاوري، بحسب البعثة، يناقش عدد من الملفات الحيوية التي تتعلق بالأزمة الليبية والمختنقات التي تواجهها البلاد في الوقت الراهن، مثل الحوكمة والأمن وحقوق الإنسان والاقتصاد والمصالحة، وهو بالتالي ليس جهة معنية بتقديم توصيات ملزمة، وأهميته كما تراها البعثة أنه يشرك عددا كبيرا من مكونات المجتمع ويزيد من جرعة الحل الليبي أمام حجم التدخل الخارجي في صناعة الأحداث وتوجيهها.
الدعاية الرسمية المعتمدة اليوم في الجبهة الشرقية تدور حول رفض التدخل الخارجي والمبادرات الخارجية لحل النزاع الليبي، أيضا تركز الحراك الواسع الذي استهدف مكونات اجتماعية ومجتمعية على تجاوز البعثة وخارطتها والعمل على فرض مسار أحادي.وتقييما لما صدر عن البعثة الأممية بخصوص الحوار المهيكل، لم يظهر إلى هذه اللحظة ما يجعله حوارا مختلفا عن سابقيه، وألية استثنائية عما تم العمل به، وبالتالي يمكن أن تعقد عليه الآمال، وتكون مخرجاته بمثابة نقلة وتطورا مهما في المسار السياسي شبه الميت.
البعثة ستقوم باختيار من يشاركون في الحوار المهيكل، وأثارت معايير اختيار المشاركين جدلا، ومن المتوقع أن يحدث هذا، فالمعايير تتعلق بتوجهات وسياسات دولية معلوم قصورها بل وتحيزها، هذا فضلا عن طريقة مسايرة الواقع الليبي المجزئ والمفتت والذي تتجاذبه نزوعات الكثير منها ليست صحية، بل هي من علل المجتمع وأدواء البلاد التي صنعت أزمته.
فالقول بأن المرشحين ينبغي أن لا يكونوا قد تورطوا في أعمال توصف بالإرهاب هو لغم بحد ذاته، ذلك أن كل طرف يعتقد أن خصمه تورط في أعمال إرهابية، وأن من قاموا بهذه الاعمال في نظر كل طرف هم أبطال ورجال وطن، فما السند الذي ستعتمد عليه البعثة في تحديد المتورطين في الإرهاب أو الحكم بأن بعض من تلبست أعمالهم بعنف قد قاموا بعمل وطني بطولي؟!
الحوار المهيكل على وشك الإنطلاق والجبهة الشرقية، التي يتزعمها واقعيا خليفة حفتر، تتجه اتجاها مناقضا لتوجهات البعثة وألياتها لتفكيك النزاع.
الدعاية الرسمية المعتمدة اليوم في الجبهة الشرقية تدور حول رفض التدخل الخارجي والمبادرات الخارجية لحل النزاع الليبي، أيضا تركز الحراك الواسع الذي استهدف مكونات اجتماعية ومجتمعية على تجاوز البعثة وخارطتها والعمل على فرض مسار أحادي.
العقبة الجديدة أمام خطط البعثة والتي محركها جبهة الشرق هي امتداد لإخفاقات سبقت الحوار المهيكل الذي ينطلق قريبا في ظل أجواء غير مبشرة، ذلك أن ملفات أسياسية من خارطة البعثة كان من المفترض أن تشهد إنجازا قبل إنطلاق الحوار المهيكل، لكنها تعثرتالعقبة الجديدة أمام خطط البعثة والتي محركها جبهة الشرق هي امتداد لإخفاقات سبقت الحوار المهيكل الذي ينطلق قريبا في ظل أجواء غير مبشرة، ذلك أن ملفات أسياسية من خارطة البعثة كان من المفترض أن تشهد إنجازا قبل إنطلاق الحوار المهيكل، لكنها تعثرت، والبعض حكم عليها بالفشل، ومن ذلك التوافق على إعادة تشكيل مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات، وكذلك مراجعة قوانين الانتخابات وتحقيق توافق حولها، والأخير من الملفات العصية على الحل التوافقي، والمواقف الراهنة للجهات المعنية به ما تزال هي المواقف القديمة التي حالت دون التفاهم حولها.
الواقع إذا عصي على التفكيك واللغة السائدة هي لغة المغالبة والاستفراد وفرض أمر واقع بأدوات سياسية واقتصادية وشعبية، وربما عسكرية، وأمام هذا الواقع شديد التعقيد والتأزيم، ما تزال البعثة ما أسيرة نهج ردود الفعل، وواقعة في شرك إدارة الأزمة، وليس تفكيكها، كما أشر بصراحة تقرير الأمين العام للأمم المتحدة عن ليبيا الذي وجهه مؤخرا إلى مجلس الأمن، وبرغم أن الحالة الليبية التي تركبت أزمتها وتعقدت كثيرا تفرض بواقعها البائس تعاملا تقليديا، إلا إن الخلل الذي تعاني منه الأمم المتحدة ذاتها، والطريقة التي تعمل بها بعثاتها باتت قاصرة وتحولت إلى وسيلة للتأزيم بدل أن تكون أداة لمعالجته.
أمام هذا المشهد المعتم ينطلق الحوار المهيكل، ولأنه أداة بلا أسنان، ولأن الغاية منه تقديم مشورة واقتراح حلول، فإنه ليس من المتوقع أن يغير من الواقع شيئا، وسيكون حوارا ممتدا، يمدد معه عمل البعثة الأممية لا أكثر.