الإنصات جوهر القيادة وروح الإبداع
تاريخ النشر: 26th, January 2025 GMT
د. سعيد الدرمكي
في عالم القيادة والأعمال، ينشغل القادة والإداريون بإتقان فنون الحديث والتعبير، ساعين للتأثير وإلهام من حولهم. ومع ذلك، نادرًا ما يدركون أنَّ سر القيادة الحقيقية يكمن في مهارة أكثر عمقًا وتأثيرًا: فن الإنصات. هذه المهارة ليست مجرد أداة للتواصل؛ بل هي الركيزة الأساسية لبناء الثقة وتعزيز التفاهم العميق، مما يمنح القائد رؤية أشمل لاتخاذ قرارات فاعلة وملهمة.
الإنصات ليس مجرد سماع للمعلومات، بل هو ركيزة جوهرية في القيادة والإبداع، وأداة فعّالة لبناء الفرق وتحفيز الابتكار. وكما أشار كوفي (2004) في كتابه "العادات السبع للناس الأكثر فاعلية"، فإنَّ الإنصات الفعّال يتجاوز الكلمات ليصل إلى أعماق المشاعر والدلالات الضمنية، مما يعزز التفاهم ويُثري جودة التواصل بشكل ملحوظ.
يُعد الإنصات روح القيادة وجوهرها؛ حيث يسهم في بناء ثقافة ابتكار نابضة داخل المؤسسات من خلال خلق بيئة عمل تفاعلية تُشجع على التفكير الإبداعي وتعزز التعاون بين الأفراد. إنه أكثر من مجرد مهارة، بل هو أداة لتحفيز الفريق، تمنح أفراده شعورًا بالتقدير والانتماء، مما يرفع الإنتاجية ويُرسخ التماسك المؤسسي.
علاوة على ذلك، فالقائد المنصت يتخذ قرارات دقيقة وشاملة بفضل فهمه العميق لوجهات النظر المتنوعة، مما يُلبي احتياجات الفريق ويحقق الأهداف المؤسسية بتميّز. فهو كالمعلم الحكيم، يعزز النقاش ويصقل الأفكار عبر التركيز الكامل على المتحدث، وتجنب التشتيت، واستخدام لغة الجسد لإظهار الاهتمام. فالإنصات أداة عميقة تُثري التواصل وتُحفز الإبداع والابتكار.
تتعدد تحديات الإنصات في القيادة، أبرزها الانشغال وضيق الوقت؛ حيث يرى بعض القادة أنَّ الإنصات يستهلك وقتًا كبيرًا في خضم الأعمال المتراكمة. إضافةً إلى ذلك، يشكل التحيز الشخصي عقبة أخرى، عندما يميل القائد إلى استنتاجات سريعة دون مراعاة تفاصيل قد تكون حاسمة لفهم أعمق. كما أن إدارة فرق متنوعة بثقافات وخلفيات متعددة يمثل تحديًا معقدًا، إذ يتطلب وعيًا ومرونة لفهم احتياجاتها المختلفة وتحقيق انسجام يدعم التعاون والإبداع. التغلب على هذه التحديات يحتاج إلى قيادة واعية تولي الإنصات اهتمامًا يعزز الثقة ويثري التواصل.
الإنصات الفعّال يظل سمة جوهرية للقادة المؤثرين، سواء على الصعيد المحلي أو العالمي. محليًا، يُعد السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- نموذجًا للقائد الذي جسّد فن الإنصات من خلال جولاته السلطانية، حيث استمع بعمق لمواطنيه، مما أسهم في بناء عُمان الحديثة على أسس من الترابط والثقة. وعلى خطاه، يواصل السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - تعزيز هذا النهج ضمن رؤية "عُمان 2040"، التي جعلت من الإنصات محورًا لإشراك المواطنين وتحقيق نهضة متجددة قائمة على الابتكار والشراكة المجتمعية.
على الصعيد العالمي، يبرز قادة مثل ساتيا ناديلا، الذي أعاد تشكيل مايكروسوفت بالإنصات لتعزيز الابتكار، وهوارد شولتز، الذي أنقذ ستاربكس بالإصغاء لموظفيه وعملائه، وإندرا نويي، التي قادت بيبسيكو لتطوير منتجات مبتكرة بفهم تطلعات السوق. هؤلاء القادة أثبتوا أن الإنصات ليس مجرد مهارة شخصية، بل استراتيجية قيادية تُحدث فرقًا حقيقيًا. فهي تعزز الثقة، تشجع الابتكار، وتُمهد الطريق لتحولات إيجابية داخل المؤسسات، مما يحقق النجاح المستدام ويؤكد على أهمية الإنصات كعنصر لا غنى عنه في القيادة.
ولتطوير مهارة الإنصات، يمكن اعتماد استراتيجيات فعّالة مثل جلسات العصف الذهني لتعزيز حرية التعبير وتبادل الأفكار، واعتماد التغذية الراجعة كوسيلة لبناء الثقة وتعميق التواصل. بالإضافة إلى ذلك، يُعد تخصيص وقت للاستماع الواعي، مع توظيف لغة الجسد والتواصل البصري لإظهار الاهتمام، خطوة عملية تسهم في ترسيخ هذه المهارة بشكل يومي.
وتتجلى أهمية الإنصات في كونه عنصرًا محوريًا لا غنى عنه في القيادة والإبداع، فهو ليس مجرد وسيلة للتواصل، بل أداة مؤثرة لإحداث تحولات إيجابية في أداء القيادة، وتعزيز تماسك الفرق، ورفع كفاءة المؤسسات. الإنصات يفتح آفاقًا للتفاهم العميق، ويخلق بيئة عمل ملهمة تدعم الابتكار والتعاون. لذا، ندعو القادة والإداريين إلى تبني مهارات الإنصات كنهج أساسي في قيادتهم، والاستثمار في تطويرها لتصبح جزءًا لا يتجزأ من مسيرتهم نحو تحقيق النجاح والتميّز المستدام.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
“ضريبة الثقة”… حكومة تسوقنا للمجهول!
#سواليف
” #ضريبة_الثقة “… #حكومة تسوقنا للمجهول!
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
في مشهد لا يُحسد عليه أحد، أصدرت #الحكومة_الأردنية قرارًا برفع #الضريبة على بعض #المركبات وتخفيضها على أخرى، وكأنها تقوم بعملية تجميل فاشلة لوجه اقتصادي متهالك. القرار جاء مثل هدية مفخخة: عنوانه «تنظيم سوق السيارات» ومضمونه «هز الجيوب ومضاعفة الحيرة».
مقالات ذات صلة الأردن يدين اعتداءات المستوطنين الإرهابية ضد الفلسطينيين 2025/06/26من الوهلة الأولى، لم يفهم الناس ما الذي تريده الحكومة بالضبط. هل هو رفع؟ أم تخفيض؟ أم مناورة ضريبية جديدة تصيب الجميع بالدوار؟ المواطن الأردني، الذي يملك قدرة خارقة على قراءة ما بين السطور – نتيجة تراكم خبراته في فكّ شيفرات القرارات الرسمية – انقسم بين من يرى أن القرار مجرد وسيلة لزيادة الجباية، ومن صدّق أنه “تنظيم سوقي”، رغم أن السوق نفسه يئن منذ سنوات تحت وطأة التخبط وغياب السياسات الواضحة.
في الحقيقة، لم تكن المشكلة في القرار ذاته، بل في ما هو أعمق وأخطر: انعدام الثقة بين المواطن والحكومة.
نعم، هذه الثقة التي اندثرت كما اندثر الدينار في محفظة الموظف، وذابت كما تذوب وعود “الإصلاح الاقتصادي” في حرارة الواقع اليومي.
فحين تصدر الحكومة قرارًا، لا يُستقبل بالتحليل أو النقاش بقدر ما يُستقبل بالتهكّم والريبة. المواطن لم يعد يسأل “ما الهدف من القرار؟”، بل يسأل مباشرة: “مين بدهم يضربونا هالمرة؟”. هو لا يبحث عن المنفعة، بل يتحسس الضرر. هذه ليست “مبالغة شعبوية” بل واقع مأساوي، سببه تاريخ طويل من القرارات غير المفهومة، والشفافية الغائبة، والتنفيذ الانتقائي للسياسات.
كيف تريد الحكومة من الشعب أن يثق بها وهي تُغيّر سياساتها كما يُغيّر الناس محطات الراديو؟ يومًا تُخفض الضريبة لتشجيع المركبات، ويومًا آخر ترفعها بحجة “حماية البيئة” (ونحن ما زلنا نتنفس هواء عمان المصفّى بعوادم الباصات). يومًا تدعو إلى دعم الطبقة الوسطى، ويومًا تفرض ضريبة على “تنفس الهواء إن زاد عن الحد المسموح”.
السخرية بلغت ذروتها عندما حاول البعض تفسير القرار على أنه مناورة ذكية لضرب تجارة السيارات الهجينة، فيما فسره آخرون بأنه طريقة ملتوية لإنعاش خزينة الدولة على حساب المواطن الغلبان. وفي ظل انعدام الثقة، كل تفسير يصبح ممكنًا، حتى تلك التي تحمل طابع المؤامرة والتنجيم.
لكن السؤال الأخطر: ما الذي يحدث عندما تختفي الثقة بين الحاكم والمحكوم؟
ببساطة، تتحول القرارات – مهما كانت مفيدة في ظاهرها – إلى عبء سياسي واجتماعي. الأمن يتحول إلى إجراءات شكلية، والاستقرار يصبح عرضة للاهتزاز كلما ارتفعت فاتورة الكهرباء أو تم تسعير البنزين حسب الأبراج.
الثقة يا سادة، لا تُبنى بالتصريحات ولا بالابتسامات أمام الكاميرات، بل تُبنى بالفعل الشفاف، والنية الواضحة، والسياسات العادلة. لكن عندما يشعر المواطن أن كل قرار جديد هو مصيدة، وكل تعديل قانوني هو عبث بالعدالة، فكيف له أن يطمئن؟ وكيف لدولة أن تستقر دون رضا شعبها؟!
ربما ترى الحكومة في هذا الكلام تشاؤمًا، لكن الحقيقة أن المواطن الأردني لم يعد متشائمًا… لقد تجاوز هذه المرحلة إلى ما يمكن تسميته بـ“اللامبالاة الساخرة”، حيث يستقبل القرارات الجديدة بكوب شاي ونكتة، ويقول: “شو جابوا اليوم؟ نكمل مسلسل الضريبة؟”.
وفي النهاية، لا نملك إلا أن نقول للحكومة: الثقة تُبنى بصعوبة وتُهدم بسهولة. وإن كنتم جادين في بناء بلد آمن ومستقر، فابدؤوا بإعادة ترميم الجسر المحطم بينكم وبين الناس. أما اللعب بالضرائب والسياسات المرتجفة، فلن يقود إلا إلى مزيد من الانفجار الصامت… الذي حين ينطق، لا ينفع الندم.