تسليح المدنيين في السودان : فوضى الحرب تغذي انتشار السلاح وتعمق الانقسام
تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT
كشفت الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 عن نقص حاد في تأهيل الجيشين المتحاربين، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما دفعهما إلى الاستعانة بالمدنيين في صراعهما. ونتيجة لذلك، انتشر السلاح بشكل كبير، وتفاقمت تجارته، وانتُهكت حقوق المدنيين على نطاق واسع، على أيدي أفراد غير مؤهلين لحمل السلاح.
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
الخرطوم: 11 فبراير 2025 - كشفت الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 عن نقص حاد في تأهيل الجيشين المتحاربين، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما دفعهما إلى الاستعانة بالمدنيين في صراعهما. ونتيجة لذلك، انتشر السلاح بشكل كبير، وتفاقمت تجارته، وانتُهكت حقوق المدنيين على نطاق واسع، على أيدي أفراد غير مؤهلين لحمل السلاح.
يروي (م.أ)، 29 عاماً، من بلدة "أم دم" تجربته المريرة قائلاً: "لقد خلّفت الحرب فوضى عارمة في بلدتنا. كانت مؤسسات الدولة، كالمحلية والمحكمة وقسم الشرطة، هي أبرز معالمها. لكنها تبخرت في منتصف يونيو 2023. المحكمة أوقفت جلساتها لغياب القاضي الذي آثر السلامة واختفى. المعتمد غادر البلدة متمنياً لنا الأمن. أفراد الشرطة، وهم من أبناء البلدة، قاموا بهدوء بإفراغ مركز الشرطة من الملفات المهمة والأدوات المكتبية والسلاح الخفيف الذي بحوزتهم، وهو عدة بنادق كلاشنيكوف وصناديق ذخيرة لا تتجاوز 150 طلقة، كما أفادني (ع.أ)، وهو شرطي من أهل البلدة."
ويضيف: "وسط هذه الفوضى، كان علينا أن نتحمل مسؤولية حماية أنفسنا وأهلنا وممتلكاتنا. بمعنى آخر، كان علينا شراء السلاح وتحمل مسؤولية استخدامه."
السياسة وراء ضعف الجيشين
ضباط في الجيش السوداني، حاليين ومتقاعدين، تحدثوا بحماس عن ضعف تأهيل الجيشين، وأجمعوا على أنه كان وراء العديد من انتهاكات الحرب، خاصة بعد استعانة الجيش بالمدنيين غير المؤهلين، وتسليحهم في مناطق سكنية، مما ساهم في انتشار السلاح.
اللواء المتقاعد كمال إسماعيل يرى أن "استعانة الجيش السوداني بالمدنيين في القتال، في حد ذاتها، علامة ضعف كبيرة." ويشير إلى أن "تأسيس قوات الدعم السريع كجيش موازٍ هو نتيجة منطقية للإضعاف الذي تسبب فيه الإسلاميون للجيش."
ضباط آخرون عاصروا انقلاب 1989 بقيادة عمر البشير، أشاروا إلى أن تسييس قطاع الأمن كان مدخلاً أساسياً للضعف والفساد داخل الأجهزة الأمنية، وفي مقدمتها الجيش. المقدم وليد عزالدين، الذي أُبعد عن الجيش لأسباب سياسية، يرى أنه بعد انقلاب 1989 "عملوا على أسلمة الجيش، وأرادوا أن يحولوه إلى جيش رسالي جهادي إسلامي، وأجروا تغييراً في العقيدة القتالية، وبدلاً من أن يحمي الجيش الدستور والوطن أصبح يحمي نظام الإسلاميين." ونتيجة لذلك، أُهمل الجيش من حيث التدريب والمنهج والعقيدة القتالية.
ويشير الضباط إلى أن أول دفعة تم استيعابها في الكلية الحربية بعد انقلاب الإسلاميين، وهي الدفعة "40" المعروفة بـ"حماة الدين"، تم قبولها عن طريق التنظيم الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت، تولى التنظيم الإسلامي زمام الجيش عبر هيئة الاستخبارات، كما يقول اللواء كمال إسماعيل.
ويتفق العديد من الخبراء العسكريين على أن تسييس الجيش من قبل الإسلاميين كان له تأثيرات سلبية على مهنية الجيش واستعداده العسكري. تجلت هذه الآثار في حرب 15 أبريل، التي يقودها عدد من الضباط الإسلاميين.
الفساد ينخر في الجيش والدعم السريع
على الرغم من أن 80% من ميزانية الدولة كانت مخصصة للأمن والدفاع خلال فترة حكم عمر البشير، فقد دخل الجيش في استثمارات عديدة، من بينها صادرات اللحوم والمنتجات الزراعية، فضلاً عن شركات تجارية تنافس في القطاعين الزراعي والصناعي. وأسس "هيئة التصنيع الحربي" في 1993م، والتي عُرفت لاحقاً بـ"منظومة الصناعات الدفاعية". كان الهدف من هذه الاستثمارات تحسين وضع الجيش وزيادة موارده وتأهيله وإمداده بالسلاح المتطور، إلا أن ذلك لم يحدث، ولم تنعكس هذه الاستثمارات على الجيش، وتحكم في المنظومة ومواردها كبار القادة. ثم انتقلت استثمارات الجيش إلى قطاع التعدين.
ضابط في الجيش السوداني، له علاقة بملفات اقتصادية، أفاد بأن "الجيش يستثمر في كل شيء.. في بعض الأحيان استثمارات مع دول بغرض العلاقات، ومرات عديدة لأغراض ربحية." وأشار إلى أن أكبر الاستثمارات في قطاع التعدين عن الذهب مع شركات روسية وإماراتية ومغربية. وحول توظيف هذه الموارد في تأهيل الجيش، قال إن "الاستفادة منها محدودة والسبب الرئيسي هو الفساد." وكثيراً ما يتم تداول قضايا الفساد في الجيش، ولكن يصعب التحقق منها بسبب القبضة الأمنية، كما أن استثمارات الجيش لا تخضع للمراجعة من قبل المراجع القومي.
تسببت استثمارات الجيش وشركاته في خلاف كبير خلال الفترة الانتقالية، عندما طالب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بخضوعها للمراقبة، وقال "إن ما يدخل الخزينة 18% فقط من الإيرادات." وتمسك الجيش باستثماراته وشركاته رافضاً تدخل المدنيين.
وقال ضابط برتبة مقدم في الجيش السوداني إن "أحوال الجنود السودانيين ليست بخير؛ رواتبهم ضعيفة ولا تصل إليهم بانتظام." وأشار إلى أن "مهمات" الجنود من ملابس عسكرية ومُعينات تم إهمالها بعد اتفاق "سلام جوبا" في أكتوبر 2020م. فمنذ العهد السابق للثورة، دخلت إمدادات الجيش من الملابس في فساد كبير بعد أن عُهد بها إلى مصنع "سور"، وهو مصنع يملكه رجل الأعمال التركي "أوكتاي شعبان حسني"، والذي يتمتع بشراكات مع قادة نظام عمر البشير.
وبحسب مصدر في الجيش، فإن الفساد طال حتى شراء الأسلحة. وأضاف: "هناك صفقة مشهورة قام بها وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين عندما اشترى دبابات مستعملة على أنها جديدة من بيلاروسيا ولم يستطع الجيش استخدامها." كما انتشرت في أوساط الجيش ظاهرة "القوائم الوهمية"، وهي كشوفات مرتبات بأسماء جنود غير موجودين في الخدمة، وبعضهم من الموتى.
وقال المصدر إن "ضعف المرتبات وسوء التدريب تسببا في تسرب أعداد كبيرة من الجنود، كما أديا إلى نفور الشباب السودانيين من التجنيد والانخراط في الجيش." وواصل: "متوسط أعمار الجنود في الجيش يزيد عن 35 سنة، وهي أعمار غير قتالية."
كما أن الحكومة استغنت عن أعداد كبيرة من الجنود بعد انفصال جنوب السودان في 2011، مما جعلها تعتمد مؤخراً على قوات الدعم السريع في مهامها القتالية.
وبحسب شهادة جندي أوكراني شارك في المعارك إلى جانب الجيش، نقلتها عنه صحيفة "وول ستريت جورنال"، "لم يحصل الكثير من أفراد الجيش السوداني على رواتبهم منذ بدء القتال قبل أشهر، مما أدى إلى تراجع معنوياتهم، فيما لم يكن المقاتلون يرتدون علامات لإظهار الجانب الذي ينتمون إليه، وكانت النيران الصديقة تشكل تهديداً منتظماً."
ووفقاً لجولة صحفية قام بها أحد المشاركين في هذا التحقيق، قال عدد من الجنود إنهم لم يحصلوا على رواتبهم بانتظام منذ اندلاع الحرب، وإن هناك إجراءات مُقيدة لا تمكِّن أسرهم من الحصول عليها بسهولة. وقال أحد الجنود: "كانت المرتبات متوقفة في الشهور الأولى للحرب، وفي أغسطس بدأنا نستلم رواتبنا، ثم توقفت مرة أخرى وقبل أشهر صرفنا." ويرتدي معظم الجنود ملابس عسكرية جديدة قالوا إنها وُزعت عليهم بعد الحرب.
الدعم السريع: مؤسسة مالية خارجة عن القانون
لا تستند قوات الدعم السريع على مؤسسات بالمعنى المتعارف عليه، فهي تُدار من قبل قائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي" وأخيه غير الشقيق عبد الرحيم دقلو وعدد من أفراد عائلتهم. وعلى الرغم من أنها تتحصل على رواتب الجنود من خزينة حكومة السودان منذ تأسيسها إلى ما قبل الحرب، فإن أمر التصرف فيها متروك لقيادة الدعم السريع.
بحة برتبة عميد انتسب إلى الدعم السريع في وقت سابق: "هناك إدارات في الدعم السريع، من بينها إدارة مالية خاضعة بالكامل للقيادة وهي تحدد الصرف والأولويات." وأشار العميد إلى أن الإدارة المالية تستعين بعسكريين من الجيش مُعاشيين وفي الخدمة، غير أن تمدد الدعم السريع اقتصادياً جاء عقب مشاركته في حرب اليمن المعروفة بـ"عاصفة الحزم"، والتي كان يتلقى فيها ملايين الدولارات مقابل إشراك جنوده في القتال، وكان يتصرف في الأموال بعيداً عن رقابة الدولة ومُحاسبتها، إضافة إلى انفراده بتعدين الذهب في إقليم دارفور، خاصةً منطقة جبل عامر، حتى أصبح حميدتي يتحكم بأكبر "ميزانية سياسية" للسودان، وهي أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مُساءلة، وأصبحت شركة الجنيد، التي يُديرها أقاربه، مجموعة ضخمة تُغطي الاستثمار والتعدين والإنشاءات والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، وكل هذه الإمبراطورية المالية خارج دائرة تدقيق ومُراقبة الدولة.
وأشار عدد من الخبراء إلى أن قوات الدعم السريع كانت عند بداية الحرب أفضل تجهيزاً من الجيش من حيث العتاد ومُعينات الجنود والمركبات والسلاح الخفيف والمتوسط والثقيل. وقال اللواء "مُعاش" كمال إسماعيل: "قوات الدعم السريع قوات حديثة عمرها لا يتعدى عشر سنوات، لذلك كان وضع الجندي فيها أفضل." وتم دعم قوات الدعم السريع من الإمارات والسعودية قبل الحرب بموافقة من الدولة.
جنود فقراء وتدريب مُتَدنٍ
بحسب ضابط في الجيش، تأثر التدريب في الكلية الحربية السودانية في سنوات الإنقاذ، وخاصةً بعد اتفاق السلام في 2005م. وقال اللواء "مُعاش" عوض الكريم غرباوي: "تغيير العقيدة القتالية أثَّر على تدريب الضباط وتأهيلهم. في السابق كان الضابط يتلقى دورة في بريطانيا أو روسيا، اليوم لا يذهب إلى أكثر من مصر أو الأردن." وأشار إلى أن انخفاض الجرعة التدريبية في الكلية الحربية، إلى جانب طبيعة الطلاب الحربيين المقبولين بالولاء السياسي، انعكس على كفاءة الضباط وانضباطهم العسكري، وقال: "ضابط برتبة مُلازم من تنظيم الإسلاميين يمكن أن يأمر ضابطاً برتبة رائد ليس من التنظيم." وقد انعكس كل ذلك على تدريب الجنود.
كشف استطلاعنا عدداً من الجنود في مدينة القضارف أن أكثر من 85% منهم لم يتعدَّ تحصيلهم الدراسي التعليم الابتدائي، وقال معظمهم إنهم تجندوا في الجيش لأن خيارات العمل أمامهم كانت معدومة، وأغلبهم من طبقات فقيرة أو شديدة الفقر.
وأفاد جندي في الواحدة والثلاثين من العمر أنه تدرب في معسكر جبيت بشرق السودان، وأن فترة التدريب كانت 3 أشهر مُتواصلة، بعدها تم إرساله إلى القضارف. انحصر التدريب في البيادة واستخدام البندقية كلاشنيكوف (Kaláshnikova) وجيم 3 (G3) وقورينوف (Goryunov). وفيما يتعلق بتلقيهم مواد تدريسية مُتعلقة بمفاهيم حقوق الإنسان، نفى ذلك.
وتُقاتل إلى جانب الجيش قوات الحركات المسلحة، وهي قوات تمردت على نظام البشير، وأغلبها من حركات دارفور، وأبرزها حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، جناح مالك عقار في النيل الأزرق. تعود تكوينات هذه القوات إلى أكثر من عشرين عاماً، وهي في الأساس نشأت على أساس قبلي وإثني، ولا يتم تدريبهم إلا على استخدام السلاح، ولا يوجد منهج مُحدد للرتب والترقيات والتأهيل على أخلاقيات ومبادئ القتال.
جنود مُدربون وغير مُدربين
قال جندي سابق في قوات الدعم السريع: "القوات التي تُقاتل في المعركة الدائرة الآن بعضها تلقت تدريباً عسكرياً، وأخرى لم تتلقَّ تدريباً." وأشار إلى أن قوات الدعم السريع حصلت على تدريب مُكثف كقوات مُشاة وتدخُّل سريع في معسكرات في الخرطوم منذ 2007 في حطَّاب بشرق النيل (30 كيلومتراً شمال شرق مدينة الخرطوم بحري)، وفي الصالحة (17 كيلومتراً جنوبي أم درمان)، وفي مدينة بحري.
أوضح الجندي الذي نحتفظ باسمه لوجوده في مناطق الخطر أنهم تدربوا على يد ضباط من الجيش السوداني، وعند مُشاركتهم في حرب اليمن تلقوا تدريباً في معسكرات في دارفور، من بينها معسكر في منطقة الزُرُق (87 كيلومتراً شمال الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور)، وقال: "كان التدريب صعباً، وحتى بعد التدريب يبقى الجندي بالمعسكر ولا يُغادره إلا إلى اليمن، أو يُوزع على الحراسات." إلا أنه عاد وقال: "اليوم بعد اندلاع الحرب هناك جنود غير مُدربين في صفوف قوات الدعم السريع يُقاتلون بالحماس القبلي."
وفي ذات الاتجاه، كشف ضابط من الدعم السريع عن أن جنود الدعم السريع حصلوا على جرعات تدريبية مُكثفة في معسكرات في اليمن وفي الإمارات وفي الأراضي الإريترية خلال مُشاركتهم في عاصفة الحزم. وحسب مصدرين، فإن أبوظبي أنشأت معسكرات حشد وتجنيد السودانيين ضمن قوات "الدعم السريع" في الأراضي الإماراتية وفي جزيرة عصب الإريترية، ورجَّح أن يكون هذا التدريب بدعم من الإمارات، وأشار إلى أن الجنود الذين تدربوا وشاركوا في حرب اليمن بعضهم ترك الدعم السريع، لكن معظمهم عاد مع هذه الحرب للقتال.
من بين المُقاتلين في صفوف قوات الدعم السريع جنود لم يحصلوا على تدريب عسكري بالمعنى المعروف، وإنما يُجيدون استخدام الأسلحة الخفيفة فقط. وقال جندي: "من بين جنود الدعم السريع من لم يدخل معسكر تدريب أصلاً، فقط لهم معرفة باستخدام السلاح." وأشار إلى أن معظم المجموعات التي يُطلقون عليها "أم باقة" لم يحصلوا على تدريب، وبعض الجنود الذين يحضرون ضمن "الفزع" – الفزع استنفار قبلي- إلى جانب ميليشيات قبلية تأسست لحماية القبائل والمناطق.
تدريب "18" يوماً
من بين المجموعات المُشاركة في الحرب الدائرة الكتائب الجهادية الإسلامية، مثل كتيبة "البراء بن مالك"، وكتيبة "البنيان المرصوص"، وكتيبة "الفرقان"، وهؤلاء يتم تدريبهم على يد الجماعات الإسلامية منذ وقت طويل في السودان، ودائماً ما يكون التدريب على درجة من السرية، إلى جانب قوات هيئة العمليات التي كانت تتبع لجهاز الأمن والمخابرات وتم حلها إثر تمرد القوة خلال الفترة الانتقالية، إلا أن أفرادها عادوا للعمل تحت إمرة الجيش، فيما يُعرف بـ"قوات العمل الخاص"، وهؤلاء حصلوا على تدريب قتالي عالٍ، ومعظمهم ينتمي إلى الإسلاميين ومؤيدون لحكم عمر البشير.
ويُقاتل إلى جانب الجيش مجموعة من المدنيين يعرفون بـ"المستنفرين" أو "المقاومة الشعبية المسلحة". وهؤلاء انخرطوا في القتال بعد نداء القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان في الشهر الثالث للحرب. وقال أحد المستنفرين إنه تلقى تدريباً محدوداً قبل أن يُدفع به للمعركة في منطقة الفاو (95 كيلومتراً شرقي ود مدني)، وقال: "تدربت 18 يوماً بعدها انتقلت إلى منطقة الفاو." وأشار إلى أنه تدرب في معسكر مع مجموعة سبقته بعشرة أيام، مُبيِّناً أن هناك مواطنين من نهر النيل انخرط أبناؤهم في المقاومة الشعبية تلقوا تدريبات سريعة لا تتعدى الشهر، شاركوا في القتال وفي حماية الارتكازات، الأمر الذي تسبب لهم في مخاطر كبيرة عند استخدام السلاح، وكثيراً ما تقع بينهم إصابات.
تسليح المدنيين.. الجيش يُعمِّق الأزمة
درج الجيش على تسليح المدنيين والاستعانة بهم ضد الحركات المسلحة المُتمردة على السلطة المركزية في الخرطوم، لكنه توسع بشكل كبير في تسليح المدنيين بعد الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023م بينه وقوات الدعم السريع. وتزامن لجوء الجيش إلى هذه الاستراتيجية هذه المرة مع اتهامات للإسلاميين بإشعال الحرب لتعطيل التحول المدني، أدت إلى فوضى وانتشار واسع للسلاح، وتعميق الانقسام في المجتمع السوداني.
وكشفت مصادر أن كتائب الإسلاميين شاركت في الحرب منذ شهورها الأولى، وكان أول ظهور لهم في معسكر الاحتياطي المركزي بالخرطوم، ثم في معارك منطقة الشجرة العسكرية. ونعت الحركة الإسلامية رسمياً بعض شبابها الذين شاركوا في المعركة. وقال المصدر إن تنظيم الإسلاميين داخل جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية والأمن الشعبي تولى التعبئة للاستنفار والمقاومة الشعبية.
وانخرط عدد من المدنيين، غالبيتهم من الشباب، في صفوف الجيش، حيث تم تسليحهم لحماية مناطقهم، لكنهم شاركوا أيضاً في القتال. ويتولى المتابعة والتسليح قادة سابقون في تنظيم الحركة الإسلامية والدولة قبل سقوط النظام في 11 أبريل 2019م، من بينهم مسؤولون في قوات الدفاع الشعبي، وهي قوات شعبية أسسها النظام السابق لمساندة الجيش في الحرب الأهلية في جنوب السودان، ولاحقاً في حروب الريف ضد الحركات المتمردة.
وبحسب مصادر من الجيش، فإن فكرة الاستنفار والمقاومة الشعبية هي من أفكار الإسلاميين. وفي خطابات جماهيرية، دعا رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، المواطنين لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم أو مساندة الجيش في حربه ضد الدعم السريع.
وأسس أنصار نظام البشير ما يعرف بهيئة الإسناد الشعبي للقوات المسلحة، والتي تهتم بجمع التبرعات للمستنفرين والمقاومة الشعبية ودعم الجنود في الميدان. وصرح الداعية المقرب من تنظيم الحركة الإسلامية، عبد الحي يوسف، في مقطع فيديو تم تداوله على نطاق واسع قبل أن يتم حذفه، بأن المقاومة الشعبية هي اسم بديل لـ"الجهاد". وقال إن المجاهدين الإسلاميين القدامى الذين شاركوا في حرب جنوب السودان هم من يتولون تدريب المدنيين المستنفرين وفي المقاومة الشعبية. وقال مصدر قريب من الإسلاميين إن المقاومة الشعبية لديها بعد سياسي يهدف إلى إبعاد الخصوم السياسيين وتجييش الشعب وإظهاره بمظهر المؤيد للجيش.
معسكرات الجيش: حاضنة للمدنيين المسلحين
في العاصمة الخرطوم، حصل المستنفرون في الأسابيع الأولى للحرب على الأسلحة من مخازن الجيش. وقال ضابط في القوات المسلحة، انتقل إلى عاصمة بلد مجاور بعد الحرب، إن الجيش قام بتسليح المواطنين في منطقة أم درمان ومناطق طرفية في مدينة بحري بالأسلحة الخفيفة. وأشار إلى أن جهاز المخابرات العامة والاستخبارات العسكرية قاما بمهمة تسليح المواطنين في العاصمة لحماية مناطقهم، وتولت قيادات إسلامية استنفار المواطنين في الأحياء السكنية.
وانضم عدد من الشباب الإسلاميين المدنيين إلى معسكرات الجيش في وادي سيدنا بأم درمان وسلاح المهندسين وسلاح المدرعات. وتولى عدد منهم تشغيل المسيَّرات القتالية بعد أن حصلوا على تدريب من خبراء أوكرانيين، وأعادوا تشكيل كتائب جهادية من بينها كتيبتا "البراء بن مالك" و"البنيان المرصوص"، وبقوا في معسكرات الجيش ويتم تسليحهم ضمن الوحدات العسكرية.
بيع السلاح في الأسواق: فوضى التسليح
وقال مواطنون من الولاية الشمالية إن قادة المقاومة الشعبية قاموا بتسليح المواطنين عن طريق بيعهم السلاح. وروى شاهد عيان أن قائد المقاومة الشعبية، أزهري المبارك، أحضر ثلاث شاحنات مُحمَّلة بالأسلحة يحرسها جنود من الجيش ومستنفرون، وتوقفت في وسط سوق مدينة الدبة، وتم بيع بندقية الكلاشنيكوف صينية الصنع للمواطنين بمبلغ 700 ألف جنيه سوداني (حوالي 350 دولاراً أمريكياً). ويُمنح المشتري مستنداً يوضح الشراء ورقم السلاح، ويلتزم بتقنينه بعد انتهاء الحرب.
تبرع أزهري المبارك، أحد أشهر تجار الذهب والعاملين في التعدين الأهلي، بـ 5 ملايين دولار لدعم المجهود الحربي. وقال أحد المواطنين إن "عدد المواطنين الذين اشتروا السلاح في الدبة يزيد عن 1600 مواطن." وكان القائد العام للجيش قد سمح للمواطنين بالحصول على السلاح بكافة الطرق للدفاع عن أنفسهم.
ونشطت في الولاية الشمالية حملات جمع تبرعات للمقاومة الشعبية وتأسيس ما يعرف بـ "الغرفة التجارية لدعم المقاومة الشعبية"، والتي يديرها أعضاء نظام الرئيس السابق عمر البشير، بحسب مواطنين في الدبة يتهمونها بالفساد.
شرق السودان: سلاح إريتري
يسيطر الجيش على ولايات شرق السودان، ونشط في تسليح المدنيين للدفاع عن المدن. وتبنى القيادي الإسلامي أحمد هارون، المطلوب للمحكمة الجنائية، الاستنفار في شرق السودان، وأجرى لقاءات مع قيادات في ولايات شرق السودان من أجل تسليح المدنيين للانخراط في القتال.
وقال خبير عسكري إن تسليح المدنيين في شرق السودان تم على أساس قبلي. وأفاد عدد من أبناء المنطقة بأن قبائلهم تملك سلاحاً بشكل محدود قبل الحرب، لكنه توسع بشكل كبير بعد الحرب، مؤكدين أن أعضاء النظام السابق في الأجهزة الأمنية يشرفون على عملية التسليح بالتعاون مع الإدارات الأهلية وزعماء القبائل.
وبالتعاون مع إريتريا، تم تدريب وتسليح أبناء قبائل شرق السودان. وقال اللواء عمر نمر، القيادي بالمؤتمر الوطني، في خطاب جماهيري في كسلا إن إريتريا فتحت أرضها لمعسكرات تدريب أبناء شرق السودان.
وقال خبير في شؤون شرق السودان، طلب حجب اسمه، إنه تم تسليح أربع مجموعات قبلية بعد الحرب، وتدرب عدد كبير من منسوبيهم في معسكرات داخل الأراضي الإريترية.
تداعيات تسليح المدنيين:
• تفاقم العنف: أدى انتشار السلاح إلى تفاقم أعمال العنف والنزاعات القبلية، وتهديد الأمن والاستقرار في جميع أنحاء السودان.
• زيادة الانقسام: عمّق تسليح المدنيين الانقسام الاجتماعي والقبلي، وأوجد بؤراً مسلحة يصعب السيطرة عليها في المستقبل.
• انتهاكات حقوق الإنسان: ساهم انتشار السلاح في زيادة انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والنهب والاغتصاب والنزوح القسري.
• صعوبة نزع السلاح: يُعتبر نزع سلاح المدنيين في مرحلة ما بعد الحرب تحدياً كبيراً، ويتطلب جهوداً مكثفة وتوافقاً وطنياً.
كشف تسليح المدنيين في السودان عن أزمة عميقة في إدارة الصراع، وأدى إلى تداعيات خطيرة على الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية. يتطلب التعامل مع هذه القضية مقاربة شاملة تتضمن وقف القتال، ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع، وإطلاق حوار وطني شامل، وتطبيق برنامج فعال لنزع السلاح وإعادة الإدماج.
SilenceKills #الصمتيقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضعفيالسودانلايحتملالتأجيل #StandWithSudan #ساندواالسودان #SudanMediaForum
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع المقاومة الشعبیة الجیش السودانی تسلیح المدنیین انتشار السلاح وأشار إلى أن شرق السودان المدنیین فی تأهیل الجیش فی معسکرات عمر البشیر من الجنود شارکوا فی على تدریب فی القتال بعد الحرب بشکل کبیر الجیش فی من بینها إلى جانب فی معسکر من الجیش الجیش من فی الجیش الجیش م فی حرب جنود م عدد من التی ی
إقرأ أيضاً:
هل هي “حمى الذهب والمعادن الثمينة” التي تحرك النزاع في السودان.. أم محاربة التطرف الإسلامي؟
بقلم : ديكلان والش
أعادت صحيفة نيويورك تايمز، قبل فترة، نشر تحقيق استقصائي مطول أجراه الصحفي “ديكلان والش”، وأدخل عليه بعض التحديثات، وركز التحقيق الاستقصائي على زاوية “الذهب والمعادن الثمينة” باعتبار التنافس عليها ، بين القوى الخارجية، وأطراف داخلية، هو المحرك الحقيقي للحرب التي دمرت السودان.
وكشف التحقيق الاستقصائي عن مصالح متبادلة بين أطراف متناقضة، لا تلتقي إلا على رعاية المصلحة المرتجاة من عوائد المعدن النفيس، وقد رأينا في موقع “المحقق” الإخباري، أن نستعرض ما جاء في ذلك التحقيق، واخترنا له عنواناً غير الذي اختارته الصحيفة الأمريكية.
ترجمة واستعراض:
محمد عثمان آدم
تحقيق هو من الفرائد عن الذهب السوداني، وكيف أشعل الحرب وفاقم من أوارها ودفع إليها الطامعين من الأقربين في الخليج والجيران والأهل في أفريقيا، والأبعدين في أوروبا، أجراه الصحفي ديكلان والش ونشره في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 11 ديسمبر 2024، وجرى تجديده إثر التطورات التي وقعت في السودان، في 7 فبراير 2025 تحت عنوان “حمى الذهب محرك رئيس لحرب السودان الأهلية” وبعنوان جانبي موح هو: تتلاحق عليه المجاعات والتطهير العرقي ومع ذلك، تزدهر تجارة الذهب، بما يُثري الجنرالات ويزيد من أوار الاقتتال بالسودان”.
وإذا كان السائد والجاري على الألسن هو تورط الكثير من الدول الجارة والبعيدة في الصراع وحرب الوكالة الفاضحة في السودان لأسباب الكيد السياسي ومحاربة الإرهاب والتموضع السياسي الجغرافي فان التحقيق يحاجج بصورة مفصلة أن وراء كل هذا معادن السودان المنبثة في أرجائه جميعاً والتي يتقدمها الذهب آنيا، فالذهب هو المهماز الأول في تحريك هذه الدول – وخاصة الإمارات – ودفعها للتورط في الحرب، وربما أتى بعد ذلك الزراعة ومحاربة الاسلام (سمه ما شئت .. السياسي أو الإخواني أو العنيف)، لكن يظل بريق الذهب وكمياته المهولة التي تتبعها الكاتب هي الأساس.
ويسوق التحقيق الذي أتى على صيغة “المقال القصصي والسردي التحليلي” أحداثاً فردية ثم يربطها جميعاً بتجارة الذهب وتهريبه من السودان، وتظهر من بعد الصورة الجلية للمنغمسين في تجارة الذهب، ويكشف كيف عمل جيران السودان دونما استثناء، إلا القليل منهم – مثل إريتريا – في تجريد لحم السودان وتمزيق نسيج أهله، ما همهم من بعد أي شيء، لكن المقال يؤكد تأكيداً قوياً أن ما يجري في السودان يفوق الدعاوى الشاطحة بأنه حرب بين جنرالين يتصارعان على السلطة في الخرطوم التي أصبحت الآن أثرا بعد عين.
و من يقرأ المقال ربما يفكر مرتين في مسالة محاربة الإماراتيين للتطرف و ربما يصل إلى قناعة بأن وراء كل ذلك الذهب واليورانيوم و ربما معادن أخرى!!
يبدأ المقال القصصي بهذه الصورة:
“هبطت الطائرة الفاخرة في جوبا، عاصمة جنوب السودان، في مهمة لجمع مئات الكيلوجرامات من الذهب الذي جُلب عبر طريقة غير شرعية. وأظهر بيان الرحلة أنه قد كان على متنها ممثلٌ للجماعة شبه العسكرية الفظة و المتهمة بالتطهير العرقي في الحرب الأهلية السودانية البلد مترامي الأطراف. وقد تم تهريب الذهب نفسه من دارفور، وهي منطقة في السودان تجثم على صدرها المجاعة والخوف وتخضع إلى حد كبير لسيطرة تلك الجماعة الوحشية ..
وقال ثلاثة أشخاص على صلة بالصفقة ومُطلعون عليها إن الحمالين الذين قاموا بتعتيل ومناولة الشحنة كانوا يتذمرون وهم يحملون صناديق مليئة بالذهب، بقيمة حوالي 25 مليون دولار، إلى الطائرة. و قد حافظ مسؤولو المطار و في سرية تامة على محيط آمن حول الطائرة، التي نزلت فجأة في المطار الرئيسي لواحدة من أفقر دول العالم. وبعد 90 دقيقة، أقلعت تلك الطائرة مرة أخرى، وهبطت قبل فجر يوم 6 مارس في مطار خاص في الإمارات العربية المتحدة، وفقاً لبيانات ذات الرحلة. وهنا سرعان ما اختفت الحمولة الثمينة للمعدن اللامع في سوق الذهب العالمية.”
و يقول الصحفي الذى عاونه في جمع المادة فريق من الصحفيين و المحللين و الخبراء من داخل و خارج السودان و داخل و خارج القارة الأفريقية أنه كلما زاذ احتراق السودان و جاع أهله، اشتعلت في المقابل حمى كنز الذهب من أرجائه المختلفة.
و يذهب الكاتب في شرح معاناة و احتراق أهل السودان مجازاً و حقيقة إذ يقول “لقد حطمت الحرب اقتصاد السودان، وأدت إلى انهيار نظامه الصحي، وحولت جزءًا كبيرًا من العاصمة التي كانت ذات يوم مصدر فخر إلى أكوام من الأنقاض. كما تسبب القتال في واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود، حيث يواجه 26 مليون شخص الجوع الشديد أو الموت جوعاً …
لكنه رغم ذلك فإن تجارة الذهب تزدهر، فقد تجاوز إنتاج وتجارة الذهب، الموجود في رواسب غنية في جميع أنحاء الدولة الشاسعة، مستويات ما قبل الحرب – وهذا مجرد الرقم الرسمي في بلد يسود فيه التهريب. في الواقع، تتدفق مليارات الدولارات من الذهب من السودان في كل اتجاه تقريباً، مما يُسهم في تحويل منطقة الساحل الأفريقي إلى واحدة من أكبر مُنتجي الذهب في العالم، في وقتٍ تُسجل فيه الأسعار مستوياتٍ قياسية.
ولكن عوضاً عن استخدام هذه الثروات الطائلة لمساعدة جيوش الجوعى والمشردين، تُوظّف الأطراف المتحاربة في السودان الذهب لتمويل حربها، مستخدمةً ما يُطلق عليه خبراء الأمم المتحدة “أساليب التجويع” ضد عشرات الملايين من الناس.
و يشير الصحفي إلى أن هذا الذهب يُساعد في تمويل الطائرات المُسيّرة و المدافع و الأسلحة والصواريخ التي قتلت عشرات الآلاف من المدنيين وأجبرت 11 مليونًا على النزوح من ديارهم.
و يقول هذه الحرب هي “جائزة المقاتلين والمرتزقة المتوحشين الذين نهبوا العديد من البنوك والمنازل حتى أصبحت العاصمة الآن أشبه بمسرح جريمة ضخم، حيث يتباهى المقاتلون باستعراض أكوام من المجوهرات وسبائك الذهب المسروقة على وسائل التواصل الاجتماعي.”
وكان الشعب السوداني يأمل في أن يرفع الذهب من الوضع الاقتصادي للبلد. لكن بدلاً من ذلك، اتضح أنه سبب تدهوره. بل إن يوفر تعليلا وتسبيبا ويفسر ما وراء اندلاع الحرب – ولماذا يصعب إيقافها. واستشهد الكاتب بما قاله الدكتور سليمان علي بلدو خريج الجامعات الفرنسية والخبير السوداني في موارد البلاد: “الذهب يدمر السودان، ويدمر السودانيين” معاً.
و يقول الكاتب الافرنجي عن دقلو : قائد المليشيا “الفريق محمد حمدان، هو تاجر إبل تحول إلى أمير حرب، وقد ازدادت قوة قواته بشكل خاص بعد استيلائه على أحد أكثر مناجم الذهب ربحية في السودان عام 2017، وقال لصحيفة نيويورك تايمز في مقابلة عام 2019، محاولًا التقليل من أهميته: “إنه لا شيء، مجرد منطقة في دارفور تابعة لنا”.
وقد أصبح المنجم حجر الزاوية لإمبراطورية بمليارات الدولارات حوّلت جماعته المسلحة، قوات الدعم السريع، إلى قوة هائلة. باع الجنرال حمدان المنجم لاحقًا للحكومة مقابل 200 مليون دولار، مما ساعده على شراء المزيد من الأسلحة والنفوذ السياسي. لكن هذه الثروة والطموح أديا إلى مواجهة مع الجيش السوداني، مما مهد الطريق للحرب الأهلية التي دمرت البلاد تقريبًا.
اشتدت المعركة على الذهب مع اندلاع الحرب عام 2023. في إحدى هجماته الافتتاحية، “استولى الجنرال حمدان على المنجم الذي باعه للحكومة”. بعد أسابيع، هاجم مقاتلوه مصفاة الذهب الوطنية في العاصمة أيضًا، ونهبوا سبائك ذهب بقيمة 150 مليون دولار، وفقًا للحكومة.
يُحرك الذهب الحرب في الجيش السوداني أيضًا. فقد قصف مناجم قوات الدعم السريع، بينما زاد إنتاج الذهب في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة، غالبًا من خلال دعوة قوى أجنبية للقيام بالتعدين. يتفاوض المسؤولون السودانيون على صفقات أسلحة وذهب مع روسيا، ويسعون إلى استمالة مسؤولي التعدين الصينيين. حتى أنهم يتشاركون منجم ذهب مع قادة خليجيين متهمين بتسليح أعدائهم.
ووفقا للكاتب فان ” الرعاة الأجانب للحرب يلعبون على كلا الجانبين أيضًا.” و لطالما أشاد الرئيس فلاديمير بوتين بتعدين الذهب بواسطة الروس في السودان، وعملت مجموعة فاغنر التابعة لبلاده مع الجيش ومنافسيه حتى قبل خوضهم الحرب.
والآن، وبعد وفاة رئيس فاغنر في حادث تحطم طائرة بعد تمرده القصير ضد القادة العسكريين الروس، استولى الكرملين على أعمال المجموعة، ويبدو أنه يسعى وراء الذهب على جانبي خط المواجهة، بالشراكة مع قوات الدعم السريع في الغرب والجيش الوطني في الشرق.
ويؤكد المقال بأن الإمارات العربية المتحدة تسعر من أوار الحرب مع كلا الجانبين”ففي ساحة المعركة، تدعم قوات الدعم السريع، وتُرسل إليهم طائرات مُسيّرة وصواريخ قوية في عملية سرية تحت ستار مهمة إنسانية. ولكن عندما يتعلق الأمر بالذهب، يُساهم الإماراتيون أيضًا في تمويل الطرف الآخر” !!
ويشير الكاتب إلى أن شركة إماراتية، والتي تربطها صلات بالعائلة المالكة، تمتلك أكبر منجم صناعي في السودان. يقع في منطقة تسيطر عليها الحكومة ويسلم جزءًا كبيرًا من المال لآلة الحرب التابعة للجيش الذي تعاني من ضائقة مالية – وهو مثال آخر على المجموعة المذهلة من التحالفات والتحالفات المضادة التي تغذي الحرب.
و تقول الصحيفة إن دراجات نارية وشاحنات وطائرات تحمل بالذهب من السودان من مختلف الأقاليم و من كل منعطف، لتنقله عبر الحدود التي يسهل اختراقها مع الدول السبع المجاورة للسودان، وفي النهاية، ينتهي الأمر بمعظمه في الإمارات العربية المتحدة، الوجهة الرئيسة للذهب المهرب من السودان، وفقًا لوزارة الخارجية.
على طول الطريق، يأخذ كل واحد من سلسلة متباينة من المستفيدين نصيبه – منهم مجرمون ومن بينهم أمراء حرب ورؤساء جواسيس وجنرالات ومسؤولون فاسدون، وهم تروس اقتصاد حرب متسعة ليوفر لهم حافزًا ماليًا قويًا لاستمرار الصراع، كما يقول الخبراء.
يشبه البعض الآن ذهب السودان بما يسمى بالماس الدموي ومعادن الصراع الأخرى.
قال محمد إبراهيم (مو)، وهو قطب سوداني تعمل مؤسسته على تعزيز الحكم الرشيد: “لإنهاء الحرب، اتبع المال”. يُغذّي الذهب إمدادات الأسلحة، وعلينا الضغط على الأفراد الذين يقفون وراءه. ففي نهاية المطاف، هم تجار موت.
إمبراطورية من الذهب
في منطقة دارفور، التي تعادل مساحتها مساحة إسبانيا، حيث أثارت الإبادة الجماعية غضباً عالمياً قبل عقدين من الزمن، عادت الأهوال تطل برأسها من جديد.
فقد شنّ مقاتلو مليشيا قوات الدعم السريع حملة تطهير عرقي ضد المدنيين، وفرضوا حصارًا قاسيًا على مدينة الفاشر. في خضمّ الاضطرابات، بدأت أول مجاعة في العالم منذ أربع سنوات في مخيم يضمّ 450 ألف مدنيّ مرعوب.
قالت زحل الزين حسين، وهي إمرأة من دارفور تروي اغتصابها الجماعي على يد مقاتلي قوات الدعم السريع العام الماضي: “صرختُ وصرختُ. لكن دون جدوى”.
ومع ذلك، في ركن من دارفور لم تمسّه الحرب إلى حدّ كبير، دأبت قوات الدعم السريع، التي يسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، على بناء مشروع ضخم وسرّيّ لتعدين الذهب.
وتوسّع هذا المشروع، الذي تبلغ قيمته مئات الملايين سنويًا، بمساعدة مرتزقة فاغنر الروس، وأصبح الوقود المالي لحملة عسكرية اشتهرت بفظائعها.
ليس الذهب وحده بل اليورانيوم والماس
في منطقة السافانا المحيطة بسونغو، وهي بلدة تعدين اقتُطعت من محمية طبيعية، يعمل عشرات الآلاف من عمال المناجم في حُفر رملية في منطقة غنية بالذهب واليورانيوم، وربما الماس. تُوفّر هذه المناجم فرص عمل نادرة، وإن كانت غالبًا ما تكون خطرة، في وقت يشهد انهيارًا اقتصاديًا شبه كامل. لكن قوات الدعم السريع، التي يُسيطر مقاتلوها على كل جانب من جوانب تجارة الذهب، تُحقق ثروة طائلة. وتُعدّ المناجم أحدث فرع من أعمال عائلية ضخمة بدأت قبل الحرب بوقت طويل.
عندما استولى الجنرال حمدان على منجم ذهب رئيسي في دارفور عام 2017، ليصبح فعليًا أكبر تاجر ذهب في السودان بين عشية وضحاها، حوّل الأرباح إلى شبكة تضم ما يصل إلى 50 شركة دفعت ثمن الأسلحة والنفوذ والمقاتلين، وفقًا للأمم المتحدة.
وتضخم حجم قواته شبه العسكرية، وأصبح الجنرال حمدان ثريًا للغاية من الذهب ومن تزويد المرتزقة للحرب في اليمن، لدرجة أنه عرض علنًا التبرع بمبلغ مليار دولار عام 2019 لتحقيق الاستقرار في اقتصاد السودان المتعثر.
تُرسّخ شركة واحدة إمبراطوريته من الأسلحة والذهب. تُدعى هذه الشركة “الجنيد”، وقد فرضت عليها الولايات المتحدة عقوبات العام الماضي، قائلةً إن الذهب أصبح “مصدر دخل حيويًا” للجنرال حمدان ومقاتليه.
مع اجتياح العنف للسودان، ركّزت شركة “الجنيد” على مئات الأميال المربعة حول سونغو، حيث عملت قوات الدعم السريع منذ فترة طويلة بشكل وثيق مع فاغنر.
شهد الإنتاج في جميع أنحاء المنطقة ازدهارًا ملحوظًا، وفقًا لشهود عيان وصور أقمار صناعية ووثائق حصلت عليها صحيفة النيويورك تايمز. وكشف تقرير سري قُدّم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نوفمبر أن ما قيمته 860 مليون دولار من الذهب قد استُخرج من مناجم تسيطر عليها جماعات شبه عسكرية في دارفور هذا العام وحده.
ولا يقوم المقاتلون بالتنقيب بأنفسهم. ففي حوالي 13 موقعًا في أنحاء المنطقة، يعمل عمال مناجم صغار مقابل أجر زهيد. وتسيطر قوات الدعم السريع على كل شيء في هذه المناجم.
رأس بندقية
زار صحفيون سودانيون من موقع “عاين ميديا”، وهو موقع استقصائي، المنطقة هذا العام، وتحدثوا عن مقاتلي قوات الدعم السريع وهم يقومون بدوريات في مصنع للذهب التابع لشركة الجنيد، مع موظفين روس متمركزين خلف أسوار عالية.
كانت مناجم السودان مصدر جذب كبير لشركة فاغنر، كما ذكرت صحيفة التايمز قبل عامين. ومنذ ذلك الحين، تُفصّل وثائق جديدة حصلت عليها التايمز شراكة فاغنر مع قوات الدعم السريع، بما في ذلك خطة للتنقيب عن الماس بالقرب من سونغو.
في رسالة من عام 2021، استشهد مدير شركة الجنيد باسم قائد قوات الدعم السريع، الفريق حمدان، وأشاد بـ”العمل الرائع بيننا وبين الشركة الروسية”، وهو اختصار شائع لشركة فاغنر في السودان.
يتعلق التحالف بالأسلحة والمال على حد سواء. وقد وثّق محققو الأمم المتحدة شحنات صواريخ من فاغنر إلى قوات الدعم السريع.
و يمضي المقال القصصي التحليلي ليشرح أن “سونغو” أصبحت الآن في غاية الأهمية للجنرال حمدان لدرجة أن المناجم أصبحت هدفًا عسكريًا. قصفت القوات الجوية السودانية المنطقة العام الماضي، ثم كررت ذلك في يناير، مما أسفر عن مقتل مدنيين، وفقًا لتقارير إخبارية. ويُظهر مقطع فيديو صُوّر بعد إحدى الغارات أشخاصًا يتدافعون بحثًا عن الأمان بينما تشتعل النيران في مكان قريب.
مليارات الدولارات من الذهب
تمتلك قوات الدعم السريع سوقًا جاهزة لذهبها في الإمارات، حيث تم تهريب 2500 طن من الذهب بطرق غير معلنة من قارة أفريقيا، بقيمة مذهلة تبلغ 115 مليار دولار، بين عامي 2012 و2022، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها منظمة المعونة السويسرية، وهي مجموعة تنمية.
كيف يجري نقل الذهب السوداني الى الامارات ؟
قبل الحرب، كان بإمكان الجنرال حميدتي نقل ذهبه جوًا مباشرة إلى الإمارات. لكن مطار السودان الرئيس قد دُمّر في الحرب، ومدرجه أضحى مليئاً بالحفر و الندوب، والمخرج الآخر وهو بورتسودان، قد بات في أيدي الجيش السوداني.
لذلك، اضطرت قوات الدعم السريع إلى إيجاد طرق جديدة عبر الدول المجاورة – كما فعلت في عملية التهريب في وقت سابق من هذا العام، عندما كان الحمالون يحملون صناديق مليئة بالذهب غير المشروع عبر مدرج المطار.
طائرة فاخرة محملة بالذهب
لم تكن الطائرة التي هبطت في جنوب السودان في 5 مارس لنقل ذلك الذهب من النوع المعتاد الذي يستخدمه المهربون في أفريقيا. كانت الطائرة من طراز بومباردييه جلوبال إكسبريس، وهي طائرة أعمال بعيدة المدى من النوع الذي يفضله كبار المديرين التنفيذيين للشركات، ومسجلة في الولايات المتحدة. وكان لطاقمها تاريخٌ مشبوه.
فقبل سبعة أشهر، أُلقي القبض على قائد الطائرة ومضيفتها في زامبيا بعد هبوطهما بطائرة خاصة أخرى بفترة وجيزة. وصادر المحققون الزامبيون الذين داهموا تلك الطائرة خمسة مسدسات، و5.7 مليون دولار نقدًا، و602 سبيكة ذهب مزيفة، مما يشير إلى احتمال وجود عملية احتيال ذهب، على حد قولهم.
على النقيض من ذلك، سارت رحلة نقل ذهب قوات الدعم السريع بسلاسة، ربما لأن الصفقة شملت مجموعة من المسؤولين ذوي النفوذ من دول متعددة ساعدوا في تسهيلها، وفقًا لوثائق الرحلة وثلاثة أشخاص كانوا متورطين في الصفقة أو مطلعين عليها. بعد مغادرة أبوظبي، توقفت طائرة بومباردييه – وعلى متنها نفس الطيار والمضيفة – لفترة وجيزة في أوغندا قبل أن تهبط في جنوب السودان. ورغم أن الطائرة كانت تتسع لـ 15 راكبًا أيضًا، إلا أن اثنين فقط من الركاب مدرجون في بيان حصلت عليه صحيفة التايمز.
قال عدد من المسؤولين والخبراء المطلعين على شبكات أعمال الجماعة شبه العسكرية إن أحدهما كان قريبًا للجنرال حميدتي، وقد عمل سابقًا نيابةً عن مصالح قوات الدعم السريع.
كان الراكب الآخر في البيان ضابط استخبارات كبير في أوغندا، وهي دولة تُعتبر على نطاق واسع مركزًا رئيسيًا لتهريب الذهب الأفريقي. في عام 2022، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على مصفاة ذهب كبيرة بجوار المطار الرئيس في أوغندا، والتي قالت إنها كانت تتعامل مع مئات الملايين من الدولارات من ذهب الصراع سنويًا. وقال جيه آر مايلي، خبير الفساد في المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة، عن أوغندا: “إنها مركز غسيل الذهب في أفريقيا”.
وأكد المسؤول الأوغندي الكبير، في اتصال هاتفي، صحة تفاصيل جواز سفره المدرجة في بيان الشحنة، على الرغم من نفيه وجوده على متن الطائرة أو نقله أي ذهب من السودان. لكن الأشخاص الثلاثة المتورطين في الصفقة أو المطلعين عليها قالوا إنه شوهد واقفًا خارج طائرة بومباردييه بينما كان الحمالون يحمّلونها بصناديق من الذهب يصل وزنها الإجمالي إلى 1200 رطل.
جنوب السودان و ذهب السودان
وبدا أن مسؤولين إقليميين آخرين شاركوا في الصفقة أيضًا. وقال أثنان من الأشخاص المطلعين على عملية النقل إن الذهب وصل من دارفور عبر مدينة واو في جنوب السودان. وأضافا أنه من هناك، نُقل إلى جوبا على متن طائرة تجارية تديرها مخابرات جنوب السودان.
يُعدّ جنوب السودان ركنًا غامضًا بشكل خاص في تجارة الذهب الدولية. إذ يقول دبلوماسيون إن شخصيات بارزة من النخبة من دولة جنوب السودان تسيطر على صناعة ذهب يصل انتاجها منه إلى حوالي 40 طنًا سنويًا. ومع ذلك، رسميًا، لا يُصدّرون شيئًا تقريبًا.
أفادت التقارير أن كيلوغرامًا واحدًا فقط من الذهب خرج من البلاد عبر قنوات التصدير الرسمية هذا العام. وقال جيمس يوسف كوندو، المدير العام لوزارة التعدين في البلاد: “قد يكون الباقي خرج تهريبا”.
في 6 مارس، هبطت طائرة بومباردييه في أبوظبي، قبيل الساعة الثالثة صباحًا، في مطار البطين للطيران الخاص الذي تستخدمه طائرات رجال الأعمال والحكومة، وفقًا لبيانات الرحلات الجوية. (رفضت شركة فلاي أليانس للطيران، ومقرها فلوريدا، والتي تُشغِّل طائرة بومباردييه وتُعلن عنها على موقعها الإلكتروني، الإجابة عن أسئلة حول الرحلة، بما في ذلك هوية مُستأجرها وسبب استئجارها.
تُعدّ الإمارات مركزًا رئيسيًا لقوات الدعم السريع، التي تستخدم شركات واجهة يسيطر عليها الفريق حمدان وأقاربه لبيع الذهب وشراء الأسلحة، كما يقول المسؤولون. منذ بدء الحرب، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على 11 شركة تابعة لقوات الدعم السريع، معظمها في الإمارات، وغالبًا ما يكون ذلك بسبب صلاتها بتجارة الذهب.
على هامش جهود السلام التي رعتها الولايات المتحدة في أغسطس، والتي فشلت في وقف الحرب، صرّح القوني حمدان، الشقيق الأصغر للجنرال حمدان، لصحيفة التايمز بأنه عاش في الإمارات طوال العقد الماضي. لكنه أصرّ على أن قوات الدعم السريع لم تعد تعمل في تجارة الذهب. وادعى بأنه “منذ الحرب، لم تعد هناك أي صادرات”. و لكن بعد حديثه هذا بأقل من شهرين، فرضت الولايات المتحدة عليه عقوبات ، ووصفته بـ”مدير المشتريات” في الجماعة شبه العسكرية، والمسؤول عن الحصول على أسلحة “لتسهيل الهجمات وغيرها من الفظائع ضد مواطنيها”.
ذهب الحكومة و روسيا والإمارات تقف خلف الاسرار الغامضة
على بُعد مئات الأميال من قوات الدعم السريع، تقع مناجم ذهب حصوية، لكنها مربحة، في دارفور، يقع منجم ذهب صناعي حديث يُعين الجيش على مواصلة القتال.
يُطلق عليه اسم منجم كوش، بحفاراته العملاقة وآلاته الباهظة الثمن، الذي يُنتج الذهب ويُدرّ دخلاً ثميناً لحكومة السودان في زمن الحرب. المشكلة هي أن قادة السودان لم يكونوا على دراية دائمة بمالكه.
ظنّوا أن المنجم – الواقع في الصحراء، على بُعد 220 ميلاً من العاصمة – يُسيطر عليه بوريس إيفانوف، وهو مسؤول تنفيذي روسي في مجال التعدين، تربطه علاقات بالكرملين، وازدهرت أعماله في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
لكن عندما دققوا النظر في عام 2021، اكتشف مسؤولو الحكومة السودانية أن المنجم قد انتقل بالفعل إلى أيدي مستثمرين جدد غامضين من الإمارات العربية المتحدة، الدولة التي تدعم عدوهم اليوم.
وقال مسؤولون من الحكومة السودانية، التي كانت تمتلك حصة صغيرة في المنجم، إن أحداً لم يُكلف نفسه عناء إخبارهم بشراكتهم الجديدة المفاجئة. لذا أرسلوا وفدًا، بقيادة وزير المالية السوداني، إلى أبوظبي لتسوية الأمر.
كانت كوش جوهرة طفرة الذهب في السودان، أكبر منجم ذهب صناعي في البلاد. كما كانت لها أهمية جيوسياسية، كنقطة محورية في تعزيز علاقات السودان مع روسيا.
أشاد السيد بوتين بهذا المشروع “الرائد” في القمة الروسية الأفريقية الأولى عام 2019، ووصف الشركة الروسية الخاضعة للعقوبات الأمريكية بأنها محور هذا الجهد. كما تحدث السيد إيفانوف، المدير الإداري لتلك الشركة، في القمة، في جلسة بعنوان “استغلال المعادن في أفريقيا لصالح شعوبها”.
كان نجاح السيد إيفانوف في مجال التعدين قصة كلاسيكية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. بدأ حياته المهنية كدبلوماسي – عُيّن في ثمانينيات القرن الماضي في السفارة السوفيتية في واشنطن، حيث شملت مهامه ضبط الأسلحة – وانتهى به الأمر في قطاع النفط والغاز والتعدين. (قال زميلان سابقان إنه تفاخر بأنه كان يعمل أيضًا متخفيًا لصالح جهاز المخابرات السوفيتي (كي جي بي) خلال فترة وجوده في واشنطن. وأكد شخص مطلع على الاستخبارات الغربية ذلك، لكن متحدثًا باسم السيد إيفانوف نفى هذا الادعاء، قائلاً إن السيد إيفانوف لم تكن له أي علاقات بالمخابرات الروسية.
عندما بدأ منجم كوش في إنتاج الذهب، كانت روسيا والسودان تواجهان عقوبات دولية – روسيا لتدخلها في أوكرانيا، والسودان بسبب الإبادة الجماعية في دارفور – ولم يتوسع تعدين الذهب المشترك بينهما إلا في تلكم المنطقة.
بدا أن السيد إيفانوف قد ازدهر أيضًا. تُظهر سجلات العقارات أنه وزوجته، ناتاشا، اشتريا شقتين سكنيتين في مانهاتن، بجوار كاتدرائية القديس باتريك في الجادة الخامسة، في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وفي وقت لاحق، اشتريا منزلين متجاورين على شاطئ البحر في جونو بيتش بولاية فلوريدا، يسعيان إلى هدمهما لبناء قصر واحد بمساحة 15000 قدم بدلاً من ذلك. لكن عندما سافر المسؤولون السودانيون إلى أبوظبي عام 2021، علموا أن السيد إيفانوف لم يكن الوحيد الذي يتعاملون معه تجاريًا.
فقد أصبح المنجم في السودان الآن ملكًا لشركة “إميرال ريسورسز”، وهي شركة جديدة أسسها السيد إيفانوف. ويقف وراء هذه الشركة لاعبٌ أكبر بكثير – الشيخ طحنون بن زايد، نائب رئيس الوزراء الإماراتي السابق -، مستشار الأمن القومي الإماراتي وشقيق زعيم البلاد، الشيخ محمد بن زايد، وفقًا لثلاثة أشخاص مطلعين على المحادثات.
صرح متحدث باسم شركة “إميرال” بأن الحكومة السودانية قد أُبلغت، في الواقع، بأن المنجم تحت ملكية جديدة. لكنه رفض تحديد هوية هؤلاء الملاك الجدد بالضبط، مكتفيًا بالقول إن “إميرال” مملوكة لـ”مجموعة استثمارية رائدة في أبوظبي”، دون ذكر أسماء.
كان الاستحواذ علامةً على توجه الإماراتيين بمليارات الدولارات نحو التعدين في أفريقيا. وفي سعيها لتنويع اقتصاد البلاد المعتمد على النفط، تتسابق شركات الشيخ طحنون للاستحواذ على المناجم والمعادن الخام اللازمة للسيارات الكهربائية والتحول إلى الطاقة الخضراء.
هذا يعني أن الإماراتيين يتحوطون فعليًا في حرب السودان. خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، هرّبوا كميات هائلة من الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، غالبًا تحت ستار الهلال الأحمر، وهي جريمة حرب محتملة.
لكن منجم كوش المملوك للإماراتيين في الأراضي الخاضعة لسيطرة الحكومة يُدرّ على الأرجح عشرات الملايين من الدولارات للسلطات السودانية، التي بدورها تستخدم هذه الأموال لشراء طائرات إيرانية بدون طيار وطائرات صينية وأسلحة أخرى.
بعبارة أخرى، تُسلّح الإمارات طرف من أطراف الحرب، و تُموّل الطرف الآخر لشراء الأسلحة.
قال ثلاثة مسؤولين أمريكيين كبار إن إدارة بايدن أعربت عن مخاوفها مباشرةً للشيخ محمد والشيخ طحنون عندما زارا البيت الأبيض في سبتمبر من العام الماضي، ومع ذلك، حرص الرئيس بايدن على عدم انتقاد دولة خليجية ثرية علنًا، وهي حليفة لإيران وإسرائيل، مما أثار غضب العديد من السودانيين.
ومع ذلك، لا يزال الغموض يحيط بدور السيد إيفانوف، فقد صرّح مسؤول سوداني رفيع المستوى بأن سجلات وزارة التعدين السودانية تُدرجه كشريك في منجم كوش. لكن شركة “إميرال” نفت ذلك، قائلةً إن السيد إيفانوف ترك العمل العام الماضي، وأن “إميرال شركة إماراتية”.
يعتمدون عليه للبقاء على قيد الحياة.
بعد عشرة أيام من بدء الحرب، انطلق الفاتح هاشم مسرعًا عبر شوارع العاصمة الخرطوم الفوضوية، حابسًا أنفاسه بين نقاط التفتيش التي يحرسها مقاتلون نهبوا ممتلكاته. كانت السيارة تحمل والديه وإخوته الخائفين، وملابسهم التي حزموها على عجل، وأكياسًا من الذهب المخفي.
قال السيد هاشم إنه خبأ مجوهرات زفاف العائلة في حجرة مخفية تحت المقعد الخلفي، وحتى داخل خزان الوقود، مضيفًا: “كانت هذه بوليصة تأميننا”.
نجحت الحيلة. بعد أسابيع، وصلت العائلة إلى مصر، حيث يُموّل الذهب حياتهم الجديدة الهشة كلاجئين.
قال: “كان علينا أن نعيش من الذهب. لقد فعلت عائلات أخرى كثيرة الشيء نفسه”.
حتى قبل الصراع، كان الذهب ضروريًا للغاية لدرجة أنه ارتفع إلى 70% من صادرات البلاد، مما ساعد على تعويض عائدات النفط التي فقدها السودان بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.
لقد بدّدت الحرب تلك الثروة. نُهِبَ الذهب من المنازل، واستُولي عليه عند نقاط التفتيش، وسُرِقَ من البنوك، أحيانًا على يد مقاتلين يستخدمون أجهزة كشف المعادن للتنقيب عنه.
في السنة الأولى من الحرب وحدها، يقول المسؤولون السودانيون إن البلاد أنتجت أكثر من 50 طنًا من الذهب – أكثر مما أنتجته خلال الأشهر الاثني عشر السابقة من السلام.
قد يكون أحد الحلول هو الضغط على المشترين. قد يُلزم تصنيف الذهب السوداني على أنه “معادن صراع” والطلب من الشركات باستبعاد الذهب السوداني من منتجاتها. فقد أدت مخاوف مماثلة بشأن “الماس الدموي” من غرب إفريقيا إلى نظام شهادات مدعوم من الأمم المتحدة قبل عقدين من الزمن. لكن الذهب، الذي يُصهر ويُخلط غالبًا، قد يصعب تتبعه. ومع تحطيم أسعار الذهب للأرقام القياسية مؤخرًا، تتزايد دوافع الحرب.
“بلادنا ملعونة بالذهب”، دعاء طارق، قالت عاملة إغاثة متطوعة من منزلها في الخرطوم التي مزقتها الحرب: “الذهب ساهم في تكوين جماعات مسلحة وإثراء بعض الناس”. وتابعت السيدة طارق، البالغة من العمر 32 عامًا، وهي أمينة فنية تُقدم الآن وجبات الطعام في مطبخ خيري وتساعد ضحايا الاعتداء الجنسي: “لكن بالنسبة لمعظمنا، لم يجلب لنا سوى المتاعب والحرب”.
ملحوظة من الصحيفة:
ساهم في إعداد التقرير كل من أناتولي كورماناييف من برلين؛ ومالاكي براون من ليمريك، أيرلندا؛ وعبد الرحمن الطيب من بورتسودان، السودان؛ وجوليان إي. بارنز وإريك شميت من واشنطن؛ وجاك بيج وويليام ك. راشباوم من نيويورك؛ ومحمد الهادي من أديس أبابا، إثيوبيا.
ديكلان والش هو كبير مراسلي صحيفة التايمز لشؤون أفريقيا ومقره نيروبي، كينيا. وقد سبق له أن عمل مراسلًا من القاهرة، حيث غطى الشرق الأوسط، ومن إسلام آباد، باكستان.
المحقق
إنضم لقناة النيلين على واتساب