عن التهميش : أين بدأ وأين كان ولايزال .. أحكي لكم .. بقلم / عمر الحويج
تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT
القطار الثاني : قصة قصيرة 1964م
نشرت بواسطة الأستاذة أمال عباس في مجلة صوت المرأة فيما بعد .
من مجموعتي القصصية الأولى( إليكم أعود وفي كفي القمر) .
خريف.. بلا مطر دائماً هكذا، منذ أن أصبح نبت الصغار هذا، يجري، ويلعب.. لم تستجب السماء لأغنيتهم -يا مطيرا.. صُبِّي لينا- قال أحد عواجيز القرية، وهو من القلائل الذين رأوا ذلك العالم المجهول خلف ثنية الجبل، التي يظهر منها، ويختفي فيها، القطار، قال ذلك العجوز.
***
لا غيوم تحجب أشعة الشمس، فانعكست متوهجة حمراء، على الأرض الحجر، من بعيد يلمع شريط السكة حديد، لا أحد يستطيع الاقتراب منه، حتماً ستملأ خياشيمه، رائحة شواء منبعثة، من أطرافه المحترقة، احتمى الصغار بشجرة حراز -بعد الليالي العاصفة، تجمع فتيات القرية وقودها المتكسر- أطفال هذه القرية، خطف الفقر والجوع، براءة الطفولة من على وجوههم. على أجسادهم الهزيلة، ربما أسمال بالية، أو لاأسمال البتة، أقدامهم عارية شققتها صخور الجبل الحادة .
هذا النهار، يشعرون أن انتظارهم قد طال أمَّده.. رغم أن -جاد الرب- قال لهم أنه متأكد، أن هذا موعده.
***
أهوووو.. جا..جا: يصرخ بها جاد الرب “مُش قلت ليكم؟”، يتوقف الصغار عن الحركة، يصيخون السمع.. هم لا يثقون في الصدى كثيراً.. ولكن تأكدوا، إنه هو.. القطار، حين انطلقت صافرته، الثانية.. طويلة، مدوية. قفز كل منهم قفزتين في الهواء.. صرخ بعضهم طرباً.. ورقص البعض الآخر، كل على طريقته. جروا، وجهتهم، شريط السكة حديد. أصغرهم طفل عارٍ، يتعثر في حفرة، يقع.. يصرخ باكياً، يتوقف الآخرون.. يرفعونه، يمازحونه.. يحاولون إضحاكه، ينسى.. يضحك معهم.. يواصلون ركضهم، طفل آخر.. تشوى قدميه الرمضاء الحارقة.. يصرخ مستغيثاً، يتوقف أكبرهم، يحمله على ظهره.. وإن بدا ساخطاً، فهو أبداً لم يحوج الكبار، لأن يحملوه يوماً ما. أولاد الزمن!!، رددها هكذا، وهو يواصل الركض.. القطار يقترب.. قطار بلا دخان. أكبرهم عاصر عهدين: قاطرات الدخان، ثم هذه الملونة!! .. وبلا دخان . هكذا يردد أمامهم، وهو يدق صدره.. مقلداً الكبار.. اعتزازاً .
***
عجلات القطار، تلتهم الشريط التهاماً في سرعة.. بل في قسوة.. الأيدي.. الصغيرة، تمتد.. تتعالى صيحاتهم، يخنقها ضجيج عجلات القطار، وهدير عرباته، وأيدٍ خشنة.. وأيدٍ ناعمة، تخرج من نوافذ القطار.. يتساقط الخبز وبعض بقايا أكل.. و.. والقطار يبتعد، يتوارى خلف الجبل.. والأيدي الصغيرة ما زالت تلتقط نصيبها من على الأرض القذرة بفعل بصاق الركاب.. ونفاياتهم .
***
شجرة الحراز.. وعيدان القمح اليابس التي تهتز تبعاً لاتجاه الريح.. الصغار: يحمل كل منهم نصيبه في يده.. الأفواه الجائعة تمضغ، بلهفة. أصغرهم.. تبحلق عيناه في شيء.. أحمر، لزج، يسيل بين يديه، ينظر إليه، في خوف. وفي رغبة جارفة، يشمه!! .. ولكن لم يجد له رائحة يعرفها من قبل، وإن تكن هنالك رائحة.. ببطء، وبطرف متردد من لسانه.. يتذوقه.. تتملكه النشوة، والدهشة، معاً.. يتقافز فرحاً.. طعمه حلو، طعمه لذيذ.. يخفيه بكلتا يديه.. يجري، وجهته بيوت القرية المندسة في حياء، وربما في وجل، تحت سفح الجبل. من بعيد جاءتهم صيحاته الجذلى.. عاوز أوَرِّيها أمي!!، ضحكات الآخرين.. تلاحقه.. إنها تجربته الأولى، وإن.. لن تكون الأخيرة. قبل أن يتوارى عن أنظارهم. تتوقف ضحكاتهم.. ترتسم علامات الدهشة، يتبادلون نظرات الشك والارتياب، وقبل أن تنطق شفاههم.. ومن خلف ثنية الجبل البعيدة، يظهر لهم القطار.. الثاني، لم ينتظروا، ليفكروا كثيراً. حينما رأوا بأم أعينهم، بياض العربات التي تركت الجبل خلفها.. بعضهم أخذ يلتهم بسرعة ما بقي معه، وآخرون دسوا ما في أياديهم داخل فجوة في قلب شجرة الحراز المجاورة، صنعوها خصيصاً لمثل هذه الطوارئ.. وأسرعوا وجهتهم شريط السكة حديد .
***
من خلف زجاج النافذة بحجرة الخدمات، الملحقة بعربة الصالون الفاخرة، توقف.. تبحلق عيناه في الصغار انتابته قشعريرة.. أحس بألم مر في الحلق.. توجع منه القلب، دمعت منه العين.. كانوا أيضاً صغاراً.. شفتاه ترددان، وبدون إرادته.. وكأنه رجع الصدى، لتلك الأيام البعيدة.. حينما كانوا هم أيضا صغار.. أعطونا نأكل، أعطونا نأكل، ولكن لا أحد يسمعهم.. الجرس يرن.. الجرس يرن ثانية، يعيده إلى الحجرة الصغيرة، الملحقة بعربة الصالون.. ورحلة الصيف.. وذلك الكبير. والجرس يرن، يقف أمامهم، ولا أحد يلتفت إليه. و.. ذلك الكبير يلوح بكلتا يديه للصغار.. تطول وقفته.. ولا أحد يلتفت إليه.. والكبير لا يزال يلوح بيديه، للصغار، والقطار يبتعد.. القطار الثاني، يبتعد…حينها يلتفت إليه أحدهم “أحضر كوب ليمون مثلج بسرعة”.. وبعدها لا أحد يلتفت إليه.. وقبل أن يتقهقر راجعاً إلى حجرة الخدمات، الملحقة بعربة الصالون الفاخر، سمع الكبير يسأل أحدهم.. ماذا ستكتب عنهم؟؟.. رد الآخر.. "حتى الصغار يخرجون لاستقبالنا!!"، وبسمة على شفاه الآخرين.. وعلى القلب أحسّ ثقل، ذلك الجبل.. دخل حجرة الخدمات، الملحقة بعربة الصالون الفاخر ومن خلف النافذة، رأى أشباح الصغار تختفي رويداً، رويداً.. والقطار الثاني، يزيد من سرعته.. وصوت الصغار يأتيه من عميق ماضيه السحيق.. أعطونا نأكل.. أعطونا نأكل.. ولا أحد يسمعهم، فقد ابتعدوا.. كثيراً .
omeralhiwaig441@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لا أحد
إقرأ أيضاً:
قصة حُلم معطّل 3
حمد الناصري
كانت الغرفة التي مُنحت لـ سعيد، تُطلّ على واجهتين، أمامية وخلفية.. فمن الأمام البُحيرة وبُستان صغير من الأشجار، ومن الخلف باحة الفندق الفخم وأشجار عالية وورود جميلة ونخيل لها صِنوان واحد ومَنبت واحد، وفي بعض الأحيان تظهر تراكيب على النخلة الواحدة، ويكون صِنوانها مُتفرّع وفي بعض الحالات بلا صِنوان مُتفرّع.. وفي واجهة الغرفة، إطلالة بحرية بهيّة، على نسقٍ فارهٍ، تبدو واجهة الفندق الفخم كأنّه تصميم خارجي ضخم جدًا، مُستقلّ عن التصميم الداخلي الأكثر فخامة، وربما اسم الفندق أُخِذ من إطلالة البستان اسمًا اشتهر به.
تخايل سعيد وهو في غرفته، يُشاهد الإطلالات الضخمة الرائعة، وطاف عليه طائف من خيال واسع، تفتّحت مداركه المحسوسة، وبانت قريته القصيّة الواقعة بين جبلين كبيرين ومجرى وادٍ عظيم، كما لو كان هذين الجبلين نُقلا من قريته إلى هذا الفندق، الذي يُعرف باسم " فندق قصر البحر " لكن وكما عَرف سعيد في قائمة المعلومات عن الفندق أنّ مجتمع الساحل الصغير والناس الذين يُعَمّرون أمكنة الفندق وردهاته، والعاملين فيه، وسائقي الأجرة "التاكسي" أبَوا إلا أنْ يبقى اسم الفندق على هيبة البستان، ذي الزرع والنبات والمحاصيل، فكانوا يعرّفونه بفندق البستان، ولذلك أجبرت الإدارة الفوقية والشركاء على إزالة لوحة الفندق وإعادة تسميته إلى فندق قصر البستان، نزولًا عند رغبة المجتمع والناس.
*
تحدّث سعيد وهو يتأمّل ويُقارن، ويستذكر جائحة فساد التمر، كما يسمونها الآباء، كان يوم تاريخي، يُحدّث الناس بعضهم عنه، ولا يزال سعيد يستذكر كثيرًا من أحداث جائحة فساد التمر، قال في نفسه: وأنا صغير، تعرّضت القرية إلى جائحة عُرفت بجائحة فساد التمر، وارتفعت مياه السيول فوق البيوت الساكنة على حواف الوادي، وبدا التمر لزجًا، عفنًا، تنبعث منه روائح كريهة ولم يستطع الناس تخزينه، وكان اعتماد أهل القرية الواقعة بين جبلين وبينهما وادٍ قوي، جارف لكل شيء، استحسن البعض أن يطلق عليه وادي جَرْفة.. لكن أهالي القرية، حسّنوا الاسم إلى اسم أجمل وهو "وادي نزوة". ذلك لأنّ الجائحة لم تحدث من قبل، فاعتبروها الأهالي نزوة عابرة، والنزوة عند الأولين أمرٌ ممنوع، وشيء ثقيل على النفس، فكلّ إثارة مُدهشة، يتعجّب منها الناس ويخافون على حياتهم منها، مثل الجوع والعطش والموت، كعجز مُعطّل لا يقلّ ضرره عن حاجة الإنسان إشباعًا لرغبته، فإن تعطّلت الحاجة أصبحت الحالة النفسية مُعطلة. وكذلك أعدّوا الجائحة ثقيلة ممنوعة، لا يعترفون بانتهائها، حتى لو كانت لـ عِلّة فهي جائحة ثقيلة على النفس.. ويقول أهل البلدة؛ بلدة وادي نزوة "أقتل حَبّك ولا تقتل قلبك" وكما هو معروف الحَبّ هو بذور النبات التي تستخدم في الزراعة كمحصول غذائي للإنسان ليعيش ويبقى. فالمثل؛ سيرورته تفضيل قتل البذور التي يُعاش عليها، وقد يصبر عليها، ولكنّه لا يستطيع بحال أن يصبر على موت عجزهُ، ذلك دليل على مكانة الرجولة وقوّتها.
وفي البلدة وأنحائها يتداولون كثيرًا حكاية شابة حسناء في الثلاثين من عمرها، تُدعى "نزوة " جرفتها السيول على إثر جائحة كبرى، حَلّت بالقرية، وحاولت الفتاة الحسناء التشبّث بصخور الجبل، فوق مجرى الوادي مباشرة، وقد صعدت على الصخرة لتحتمي إليها، فوق وادي جَرْفة. لكن الصخرة خانتها رغم تشبّثها بالحياة، ولم تنفعها ما تمسّكت من مقاومة مُستميتة لتبقى على قيد الحياة، حيّة لا يجرفها ماء الوادي الجارف.. وظلّت مُتمسّكة بقوّة ولم يُسعفها أحد ولا منقذ يُدبر أمرها، خارت قواها وتفلّتت قبضة يديها، فسقطت في مياه الوادي العميقة الشديدة الجريان كالموج فوق بعضها، تصطدم بالصخور فترتد عليها وتعصف بها وتتلقّفها موجة أخرى، وكأنّها غاضبة على ذلك الحُسن والجمال، وأطلق الناس على اسم جائحة وادي جَرْفة، تيمّنًا باسم الفتاة الحسناء " وادي نزوة "، ذلك الاسم خفّف من حزن عائلة الفتاة الحسناء واطمأنّت قلوبهم على ذكراها فإسم ابنتهم قد خَلّده التاريخ، ومن ذلك اليوم الشهير اسْتُبدل اسم وادي جَرْفة إلى وادي نزوة.. إنّه يوم تاريخي للقرية العميقة بتراثها الخالد.
وظلّ سعيد يُقارن بين مدخل الفندق الضخم من واجهتيه الخلفية والأمامية، أيّ مقدمة الفندق ووجه الشبهَ بينهما، وما قد تطابق بينهما، الفندق يبدو غائص في أعماق هوّة صلبة، وإذا ما نظرت إلى هيبة واجهتيه الأمامية والخلفية ترى فخامة النقوش وضخامة الشكل وروعة الموقع.. إنّ ما يُميز هذا القصر العظيم مساحة واسعة ونقوشات فريدة وإطلالة بحرية آسرة، كلا الواجهتين؛ لكل منهما إطلالة فريدة، تتميّز عن الأخرى.. أجواء الأمكنة بديعة في الصباح، خلابة لا مثيل لها، أشعّة الشمس تنعكس على الواجهتين، وفي الليل نور القمر يتلألأ على الأمكنة، فتستلذّ من أماسيها كثيرًا من متع الحياة.
وكذا الحال في قرية سعيد، سمّاها رجالها بـ "وادي نزوة" نزوة في عراقة أصالتها وفي إرثها التاريخي، ورّث الآباء تاريخًا خالدًا من رجال عظام سبقوهم، كانوا أفئدة ناصعة وقلوبًا طاهرة وأنفسًا نقيّة، عِزّة الآباء طاهرة ومقام الأجداد نقية، تلك هي عِزّة أصلاب، وذريّة تتفاخر بأمجادها ، تجذّرت ضمائرهم بالعزّة والشرف، فأنجبت الشرفاء، وانفردت بقيمها فآلت إليها مكارم، تفرّدت بصفائها ونقائها، أجدادها وآبائها وأبنائها رجال عظام، دفعوا ثمن عزّهم بدمائهم الفاخرة وبعقولهم الراشدة وبضمائرهم التي لا تبيع قيم ارتباطها بالمكان بحفنة قذرة.
رجالٌ يفخرون إذا ذُكر اسمها، رجال كرام إذا أتَوا إليها، ورجال فضائلهم كبسطة الأمكنة العظيمة، أصواتهم صامتة لا ترتفع، هيبة اسمها يتصدّر ذِكْر نواحيها، وإنْ كنت في قعر الوادي، تنتشي أفكارك إلى ما سَطّرهُ الرجال من أمجاد.
يحرس الوادي جبلان عظيمان وقمّتان شامختان عُرفتا بإسم قمة الجبل الغربي الرصين، وتمتدّ سلسلته إلى رؤوس الجبال أقصى بحر الممرّ العميق.. والقمّة الأخرى تُعرف برأس الجبل الشرقي المكين.. لكأنّهما حِبال سُرية توثّقت ببعض، حبل مودّة موثوقة الالتزام، حبل يمتدّ إلى بحرها الشرقي الكبير، قيل: إنّ ذلك البحر بوابة مفتوحة إلى السماء، صيد بحرها من أجود أسماك البحار قاطبة، في بطن البحر الشرقي كنوز وخزائن لا يعلمها أحد.
تمتدّ سلسلة الجبل الشرقي من وادي نزوة إلى رأس البحر الشرقي والقرى المُحيطة به ، قِيْل عنهاـ قرية وادي نزوة ـ بأنّها عُمق دائرة جذور الجبلين الغربي والشرقي، والجبلين امْتدا في العُمق، وترى الجبال تحسبها مُنفصلة أو مُتقطّعة ولكنّها مرتبطة بحبل سُري من أعماق الدائرة " وادي نزوة " نهاية الامتداد، وكأنّهما يدين منبسطتين، ثمّ لا يلبثا أن يكونا أقرب حنينًا للأم الرؤوم، وشبّهها آخرون كما لو كان الجبلان توأم، فتحا ذراعيهما حين يستقبلان حلَمة الرضاعة.. ذلك صُنع مُحكم، دقيق مُنضبط لا يقدر عليه بشر.
قال أحد كتّاب وموثقي أخبار القُرى الرصينة الثابتة بتراثها وأمكنتها وآثارها، كانت قرية " وادي نزوة " وسطية القيم والتقاليد، لا تُشبهها قرية مِثْلها ولا شبيه لها في المكان، وحنين الجبلين إليها تسخير لمقامها، يكاد إرثها مُلازم للاعتدال، في طيّاته مبادئ لا شرقية فيها ولا غربية، ولا قيم مُستوردة لا من بعيد ولا من قريب، سَمْت يُعرف به أهل قرية وادي نزوة وقيم أصيلة، سَمْت ساروا عليه كمنهج سلفهم الأفذاذ، سمْتٌ خاص لا يُرى مِثْله في البلاد وكأنّه وقفٌ لأهل هذه القرية العظيمة، اتزان ملحوظ في سَيماء الوجوه، تطبيق لشريعة اختطّها سلفهم من الأولين واللاحقين، كل شيء لديهم بِقَدر، توازن مألوف في علاقات بعضهم وبغيرهم .. إنجازاتهم تكوين قوة نفسية في أبنائهم، فينقلوها إلى من يأتي بعدهم.. أثرهم طيب، ومجلسهم حميد، لا تجد فيهم عاطل، ولا شخص فاسد، جميعهم كالحبال يربط بعضه ويمدّ بعضه البعض، مَتانة وقوةً وصلابة.
قرية ـ وادي نزوة ـ جمعت تراث الأولين ومزجته في إنجازات اللاحقين، بلا إفراط ولا تفريط. قرية جمعت القريب والبعيد، براعة أهلها في سفوح جبلها العظيم؛ جبل يصل إلى هامات السحاب، وحين تمطر السماء وتعصف بحبات مائها الثقيل على جبالها الشرقية والغربية تزدهر الأحجار وتنبت بينها الأشجار، وترى الورد جميلًا، تشمّ عطره، وتبقى نسائمه إلى موسم القطف والحصاد.
تنحني الأمهات والبنات العفيفات إلى سرّ لم يعلمه غيرهن، لكأنّ انحناءاتهن لا يملكها سواهنّ، فالورد رمز الجبل العظيم، والصخر قوة، والصلابة عِفّة، لا تجد بين نسوة الجبل العظيم وقرية وادي نزوة ألفاظًا بذيئة بل جزالة في القول ورصانة في المَشية، نساء الجبل والقرية بنينَ مجتمع صالح لا يعرف التأفّف ولا الكسل ولا عجز، حتى كبار السنّ يكدحون ويعملون لا فحش في بيعهم ولا في شرائهم، مجتمع كادح، صبور ومكافح.. نسوة القرية رمز القوة والصلابة والنشاط، ونسوة الجبل العظيم مثل الصخر قوة وإرادة وعزم.
قعر وادي نزوة استراتيجي، منه خرجت قرية عِزّ الخير، وقرية " مَنع " وقيل "مَناع " فالأولين كانوا لا يكتبون المَد الواقع بين حرفين ويكتفون بنطقه، وفي الجبل العظيم وادٍ عجيب، لم يصل إليه أحد ولم يكتشف عالمه أحد، وادٍ يحمل غموض، في الليالي المُظلمة تسمع حطيم أشباح، لا تراهم ولكن تحسّ بوجودهم ، وتسمع أحيانًا أصوات وإزعاج ومزمار لكنّها أصوات غير مفهومة أبدًا، يقشعّر بدنك، وتهتزّ جوارحك، ظلام لا حسّ فيه غير تلك الأصوات المزعجة، ويطيش عقلك إذا ما سمعت أطيط يُفزعك، فتضطرب، ويعجز لسانك عن التعبير عنه أو حتّى الإفصاح عن شكله ومضمونه، لحظات الليل البهيم في الوادي العجيب في أعلى منحدر الجبل العظيم، لحظات تسودها أزيز وهدير أصوات صمّاء لا واقع لها، تتردّد بقوة في الجبال وكأنّها تُجاوب بعضها، وتُشعرك بأنّك على أبواب الجحيم.
وعلى جانبي قرية وادي نزوة، مكان فسيح، عُرفت البلدة بأنّها مكان نزول أوّل البشر، واشتقّ اسمها من اسم أوّل الهابطين على ترابها الطاهر، بلدة عزيزة الامتداد لا تنقطع عروقها عن قرية عزّ ومنّاع وينطقها الأهالي "منّاح" يُخفون العين ويُنطقون الحاء، في لهجة أهل البلدة، وفي رواية كبير موثقي تُراث البلدة وحكاياتها، أنّ منّاح رجل هيّأ الشقاق بين ولدي الرجل الأوّل.. وفي أصول لهجة ذلك البلد منذ قديم الزمان، يُخفون التاء وينطقونها دال، هكذا تسمع إذا حدّثك أحدهم، كحال أهل وادي نزوة والجبل العظيم وما جاورها، لا ينطقون العين سليمة ولا القاف، يتحوّل إلى كاف، وكذلك التاء ينطقونها دالاً، وقد يسمعها السامع بأنّ حاءً آخرها.. مثال، منّاع يُنطق منّاح لكن النطق لديه سليم، ينطقها عين، كحال القاف، لا ينطقونه قافًا بل كافٍ ولئن تسمع صوته يقول كيْد فهو ينطق قيْد.. وقبائل إلى كبائل، لكنّهم يعنون به القاف.. وأكثر الاقوال صحة، أنّ هذه اللغة، أو سيرورة الإبْدال، كظاهرة صوتية عند أهل قرية وادي نزوة وما جاورها من البلدات المُمتدة على سلسلة الجبلين ورباط حبلهما السري الغربي والشرقي، لكن بعض الامتداد الشرقي، تتراجع بعض الإسقاطات تأثراً من لهجات اكتسبتها من شرق البحر الكبير، على عكس الجبل الغربي أكثر مُتأثراً تأثراً كبيراً بلهجة أهل قرية وادي نزوة أو وادي جَرْفة.؛
وأصدق الحكايات قولاً، التي جاءت تصديقًا لأسطورة الرجل الأوّل، الذي وقع في خطأ في السماء، كان عقابه الطرد منها، ذلك الرجل اتخذ المكان تسمية مرفوعة إلى اسمه كأوّل من سكن السيح الواسع على أثر هبوطه مطرودًا من السماء.. ولذلك تجد أهل هذه السفوح الرملية، او السيح الواسع لغتها سليمة باقية ويُقال هي التي أمدّت بقية الاعراب بهذه اللغة السامية، لغة أهل السماء التي نزل بها الرجل الاول، التي تشرفت الارض التي وطأت قدم الرجل الاول عليها وعُرفت بإسمه السماوي الاول.
وفي حكاية واسعة الانتشار، أنّ السيح والسفوح الواسعة والرجل الأول، تبادلا المنافع، قَبِلت السفوح الواسعة والمُنبسطة نزول الرجل الأوّل على سيح خالٍ من الشجر لا اسم له، وحين سبر الرجل الأوّل بعينه امتداد السيح فرآهُ واسعًا والرمال لها حبيبات خفيفة، تعصف بها الريح كيف شاءت، ووجد كثبانًا هائجة كأمواج البحر.. فتأمّل وتفكّر، وقال في نفسه: لا بدّ لهذا السيح أن يكون له اسم.. فأطلق على المكان بعضًا من حروف اسمه مُكَوّنًا اسمًا جديدًا للسيح.
ونال السيح اسم أوّل رجل هبط من السماء، حين نزل إلى السيح الواسع مطرودًا، ولمّا وقعت قدماه في السيح الفسيح وتوسّعت عيناهُ فأوّل ما رأى هو امتداد السيح، من ذلك اليوم، عُرف بسيح "يدم ".
وحين حضر أبناء الرجل الأوّل قسمة ما ورّثه لهم والدهم بعد موته، شدّدوا جميعًا على نشر خبر تسمية السيح باسم "سيح يدم " تزكية لما وردَ عن أبيهم، حبّه الشديد للمكان الواسع الفسيح، والزموا أنفسهم بنشر الاسم في كل بقاع معمورة سيح "يدم " وقرية الجبل العظيم وقرية وادي نزوة، واختلف أحد أبنائه الأربعة، وكانت بنتاً، وقد اعتزلت السيح وسارت إلى وادي نزوة، وربّما هي تلك الشابة الحسناء التي جرفها الوادي وتسمّى باسمها "وادي نزوة ".
يتبع 4