مجلة السُّودان في رسائل ومدونات (1918-2003)
تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
نظَّم نادي الكتاب (81) جلسة مدارسة رائعة، قدَّمها الدُّكتور صديق عمر الصَّديق عن "السُّودان في رسائل ومدوَّنات (Sudan Notes and Records): ويكيبيديا سودان ما قبل الاستقلال"، وذلك في يوم السَّبت الموافق 8 فبراير 2025، وأدار الجلسة الدُّكتور عبد الباقي أحمد، وحضرها جمع من العلماء والباحثين في مجال الدِّراسات السُّودانيَّة والمهتمِّين بمجلَّة السُّودان في رسائل ومدوَّنات.
(2)
مجلة السُّودان في رسائل ومدونات (1918-2003)
كتب الجنرال ونجت باشا، الحاكم العام الثاني للسودان الإنجليزي-المصري (1899-1916)، تصديرًا (Foreword) للعدد الأول من مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات"، والذي نُشر في يناير 1918. واستند ونجت في تصديره إلى رؤية مزدوجة، تقرُّ في طرفها الأول بأن "المعرفة قوة" سواء كانت في أفريقيا أو أي مكانٍ آخر، وتؤكد في طرفها الثاني بأن المجلة الناشئة "ستكون وسيلة لتسجيل المعلومات ونشرها، الأمر الذي سيفضي إلى رؤية واضحة عن البلد، وفهم أفضل لمواطنيه وتاريخهم وظروفهم الاجتماعية وتطورهم المستقبلي، كما أنها ستقدم فائدة دائمة للمسؤولين في الحكومة والمجتمع بصورة عامة"( ). يبدو أنَّ هذه الرؤية الحكومية قد أسهمت أيضًا في وضع لبنات دار الوثائق القومية عام 1916، عندما شرعت إدارة الحكم الثنائي (1898-1956م) في جمع الأوراق المالية والقضائية، وأرشفتها في مكتب صغير بمباني السكرتير الإداري (وزارة المالية بعد الاستقلال)، وبعد أن توسَّعت أعمال المكتب الأرشيفية، أُطلق عليه اسم "مكتب محفوظات السُّودان" عام 1948، ثم دار الوثائق المركزية عام 1965، وأخيرًا دار الوثائق القومية عام 1982( ). أما فكرة إنشاء مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات" فقد طرحها ميلو تالبوت (Milo Talbot)( )، مدير قسم المساحة آنذاك، على إدغار بونهام كارتر (Edgar Bonham-Carter)، السكرتير القضائي (1899-1919)، أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، مسوغًا اقتراحه بأن هناك معلومات كثيرة وقيمة متناثرة في الملفات الحكومة؛ لكن يتعذر الوصول إليها لعدم وجود وعاء معرفيٍ ناقلٍ، يُسهم في استثمارها ونشرها بطريقة علمية. عرض كارتر هذا الاقتراح على كروفوت (J. W. Crowfoot)، مدير مصلحة المعارف (1914-1927)، الذي أوعز للسير لي استاك (Lee Stack)، حاكم عام السُّودان (1916-1924)، بعقد اجتماعٍ لمناقشة الاقتراح. وأخيرًا تبلورت مداولات الاجتماع في التصديق بإصدار مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات"، وتدشين عددها الأول في يناير 1918م( ). وظهر على صفحة هيئة تحرير العدد الأول اسم السير لي استاك راعيًا للمجلة، وكروفوت رئيسًا لهيئة تحريرها، وستيري (W. Sterry) نائبًا له، و ر. ويرد (R. Wrdd)، سكرتيرًا وأمينًا للخزينة، كما شملت عضوية هيئة التحرير بيم (W. Beam)، وجليمر (A. G. Galemer)، وكاربن (A. N. Carbyn)، وكارول (F. F. Caroll)، وكنغ (H. H. King) وغراهام (G. Graham)، وهيللسون (S. Hillelson)، وماكمايكل (H. A. MacMichael)، وبيرسون (H. D. Pearson)، وويلس (C. A. Willis) ( ). وواضح من هذه الهيئة التحريرية أنَّ المجلة كانت ذات طابع حكومي، وتُشبه في أهدافها ونشأتها وتصميمها مجلات أخرى، أُسست في بعض المستعمرات البريطانية، ونذكر منها على سبيل "مجلة فرع المضائق للجمعية الملكية الآسيوية" (The Journal of the Straits Branch of the Royal Asiatic Society)، التي أُسست في سنغافورة عام 1878( ).
ركزت الأعداد الأولى لمجلة "السُّودان في رسائل ومدونات" على القضايا الأنثروبولوجية-الاجتماعية والإثنوغرافية، وبعض الموضوعات الثقافية والدينية والتاريخية والجغرافية واللغوية والطبية. وظلت المجلة محافظةً على رسالة تأسيسها، ووحيدة في ميدانها إلى أن ظهر العدد الأول لمجلة كوش المتخصصة في أبحاث الآثار السُّودانية (KUSH: Journal of the Sudan Antiquities Service) عام 1953. وكانت المجلة تُصدر أربعة أعداد سنويًّا في سنواتها الأولى (1918-1922)؛ ثم أصبحت نصف سنوية في الفترة (1923- 1955)، وذلك باستثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها (1941-1947)، إذ صدرت مرة واحدة في كل سنة. وبعد استقلال السُّودان أصبحت تصدر في شكل عدد منفردٍ أو عددين مدمجين سنويًّا وبانتظام حتى عام 1979م. وتقلصت إصدارتها إلى ثلاثة أعداد في عقد الثمانينيات (1980، 1981، 1983)؛ ثم صدرت في نسخة جديدة في عقد التسعينيات، وتحمل رقمًا مسلسلًا جديدًا (المجلد الأول)؛ بهدف تجاوز مشكلة عدم صدورها غير المنتظم في الثمانينيات. وبالفعل صدر العدد الأول في العام 1997، والثاني في العام 1998، والعدد الثالث في العام 1999م تحت إشراف الدكتور إسماعيل حسين عبد الله، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، بصفته محررًا ضيفًا. وبعد ذلك صدر العدد الرابع في العام 2000، والعدد الخامس في العام 2001، ثم توقفت المجلة عن الصدور. ويصف البروفيسور أحمد عبد الرحيم نصر تكليف الدكتور إسماعيل بالإشراف على العدد الثالث بأنها محاولة تحريرية فريدة في تاريخ المجلة؛ لأنها أراحت يُوسُف، رئيس التحرير (1974-2001)، من "عبء كبير كان يقوم به طيلة السنوات الماضية"، كما أنها "أتاحت للضيف فرصةً اكتسب فيها مهارةً جديدة رغم إشارته إلى أنه لم يكن له يد في اختيار المقالات"، علمًا بأن العرف الأكاديمي المتبع في مثل هذه الحالات، يقضي بأن "يختار المحرر الضيف موضوعًا (theme)، ويستكتب من يراهم من المتخصصين ذوي الكفاءة والخبرة"( ). ولكن بعد هذه التجربة اليتيمة لم يصدر عدد رابع لمجلة السُّودان في رسائل ومدونات، بل احتجبت المجلة عن الصدور، محدثةً بذلك "خسارة كبيرة"؛ لأنها كان تقوم بدور مشهودٍ "في الحياة الثقافية في السُّودان"، وقدمت معلومات وافية، لما أسماه ساندرسون بعلم السُّودان (Sudanology)، فضلًا عن أن بعض مقالاتها في التاريخ والعلوم الاجتماعية تُعَدُّ "حجة"، وكذلك توثيقها لأجناسٍ فولكلورية "اندثرت أو كادت" أن تندثر، يجعلها مرجعًا مهمًّا "لا يمكن الاستغناء عنه"( ).
ونصل بهذا العرض الموجز لرسالة المجلة وموضوعاتها إلى نتيجة مفادها أن الهدف الرئيس من هذا المبحث ليس تقديم عرض شامل لمحتويات مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات"، وتحليل سياستها التحريرية والموضوعات التي نُشرت فيها؛ لأن هناك أربع دراسات طرقت هذا الباب بكثافة وقدمت تحليلات مفيدة، أولها دراسة ج. ن. ساندرسون( )، وثانيها دراسة بشرى حمد( )، وثالثها دراسة يُوسُف عيسى عبد الله( )، ورابعها دراسة أحمد عبد الرحيم نصر( ). لكن المبحث يهدف إلى إلقاء إضاءات كاشفة على إسهامات يُوسُف، الذي شغل منصب رئيس تحرير المجلة منذ عام 1974، وطبيعة النهج الذي تبناه في تطوير سياستها التحريرية، واختيار موضوعاتها للنشر، ونوع الجهد الذي بذله في سبيل استمراريتها قبل أن توصد أبوابها في الألفية الثالثة. سجل يُوسُف اسمه تحت الرقم (17) في قائمة الذين تولوا رئاسة تحرير المجلة، بدءًا بكروفوت، مدير مصلحة المعارف، (1918-1927) وانتهاءً بالإداري السُّوداني الطيب عبد الله (1969-1974). وكانت رئاسة تحرير المجلة قبل عام 1974 تُوكل إلى السكرتير الإداري، بدءًا بالسير هارولد ماكمايكل (1927-1934)، وانتهاء بالسير غوين بل (G. W. Bell)، الذي شغل منصب الوكيل الدائم لوزارة الداخلية (1954-1955)، بعد إلغاء منصب السكرتير الإداري وتحويل مهامه الوظيفية إلى وزارة الداخلية الناشئة آنذاك. وبعد إعلان استقلال السُّودان في يناير 1956 شغل منصب رئيس هيئة تحرير المجلة نخبة من الإداريين السُّودانيين في وزارة الداخلية، وهم حسب الترتيب الآتي: محمد محمود الشايقي (1955-1959)، ومكاوي سليمان أكرت (1959-1962)، ومحمد عباس فضل (1962-1964)، وأمير الصاوي (1964-1965)، وحسين محمد أحمد شرفي (1965-1967)، والتجاني سعد (1967-1969)، والطيب عبد الله (1969-1974).
انضم الدكتور يُوسُف إلى هيئة تحرير مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات" بعد عام من ثورة أكتوبر 1964، ووقتها كان حسين محمد أحمد شرفي رئيسًا لهيئة التحرير، وإيان كُنيسون (Ian Cunnison) محررًا، وميرغني عبد النور سكرتيرًا، وشملت عضوية هيئة التحرير: مكي الطيب شبيكة، وإبراهيم نور، ومحمد عمر بشير، وج. ن. ساندرسون. ولم يكن يُوسُف أول سوداني ينضم إلى هيئة تحرير المجلة آنذاك، بل سبقه مكي شبيكة (1946)، وعوض ساتي (1948)، ومكي المنا (1951)، وسعد الدين فوزي (1952)، وعبد القادر إبراهيم تلودي (1954)، وأمين عبد الله الكارب (1954)، وحمزة ميرغني (1956)، وأبو بكر بشير (1962)، ومحمد عمر بشير (1962)، وإبراهيم نور (1962)، وميرغني عبد النور (1964).
يعكس هذا العرض من زاوية أخرى كيف انتقلت مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات" بخطوات منظمة من كونها مجلة حكومية-"استعمارية" إلى مجلة أكاديمية، ومعظم أعضاء هيئة تحريرها من الأكاديميين. في ضوء هذه التطورات، انتقل يُوسُف من مقعد محرر المجلة الأول (Editor)، الذي شغله منذ عام 1967، إلى مقعد رئيس تحريرها (Chairman) عام 1974، وخلال هذه الفترة استطاع أن يحقق العديد من المنجزات المهمة، التي نلخصها في النقاط الآتية.
أولًا: إنَّه قد تمكَّن من الجمع بين رئاسة تحرير المجلة وإدارة تحريرها، ملغيًا بذلك ازدواجية العمل التحريري، وممهدًا الطريق لانتقال المجلة من حاضنتها الإدارية (وزارة الداخلية) إلى وضعها تحت إدارة أكاديمية مستقلة. وفي سبيل إنجاز هذه الخطوة الإدارية اختار معظم أعضاء هيئة تحرير المجلة من الأكاديميين المنتسبين لجامعة الخرطوم أو المؤسسات البحثية الأخرى (مثل دار الوثائق المركزية). وبدأت هذه الخطوة منذ أن كان يُوسُف محررًا رئيسًا للمجلة عام 1967، إذ شملت عضوية هيئة تحريرها: إيان كنيسون (شعبة الأنثروبولوجيا الاجتماعية)، وف. رفش (شعبة الأنثروبولوجيا الاجتماعية) ومكي الطيب شبيكة (شعبة التاريخ)، وج. ن. ساندرسون (شعبة التاريخ)، ومحمد عمر بشير (جامعة الخرطوم)، وإبراهيم نور (معهد المعلمين العالي)، وعبد الله عمر عبد الرحمن سكرتير المجلة (وزارة الداخلية).
ثانيًا: من حيث الشكل، حافظ يُوسُف على تبويب المجلة في أربعة أبواب رئيسة، شملت: (1) المقالات، و(2) الرسائل القصيرة، و(3) مراجعات الكتب، و(4) التقرير السنوي للجمعية الفلسفية.
ثالثًا: من الناحية الموضوعية، أضحى معظم المقالات التي تُنشر في المجلة ذات طابع أكاديمي؛ لأن معظم مؤلفيها أعضاء هيئة تدريس في جامعة الخرطوم، وجامعات عالمية وإقليمية أخرى. ونذكر على سبيل المثال، أن عدد أعضاء هيئة التدريس الذين ينتسبون إلى جامعة الخرطوم وساهموا في محتويات المجلد 56 لسنة 1975 قد بلغ 53%، ومن الجامعات الأخرى 23%، ومن المصالح الحكومية في السُّودان وخارجها 24%( ). وتأكيدًا لهذه النقلة النوعية كتب يُوسُف في احتفال المجلة بعيدها الفضي (1968)، قائلًا: "ولكن في السنوات الأخيرة، تكاثر العلماء المحترفون من السُّودانيين بشكل خاص، وانعكس ذلك في المقالات الأخيرة"( ).
رابعًا: إلى جانب الاهتمام بالمقالات الأكاديمية، حافظت هيئة تحرير المجلة على الطرف الثاني من رسالتها التأسيسية، الذي يقضي بضرورة حث الباحثين الهواة على جمع الروايات أو الممارسات التراثية وتوثيقها ونشرها لتكون متاحة للبحث العلمي المتعمق. وفي هذا السياق يقول يُوسُف: "لا يزال هناك مجال واسع لمساهمات موظفي الحكومة المحلية والهواة المهتمين والقادرين على إلقاء الضوء على أسماء الأماكن، والموروثات الشعبية، واللغات غير العربية، واللهجات القبلية العربية، والعادات الاجتماعية أو المتغيرات العرفية"( ). وبموجب ذلك أضحى الباب الخاص بالرسائل القصيرة مفتوحًا لاستقبال مثل هذه المشاركات ونشرها، دون التزام حرفي بمعايير النشر الأكاديمية.
خامسًا: حافظ رئيس تحرير المجلة على نشر وقائع اجتماعات وحوارات الجمعية الفلسفية التي أُسست عام 1945م، وكذلك بعض الأوراق التي كانت تُقدم في اجتماعاتها ومؤتمراتها بعد تحكيمها وتحريرها. وقد بدأ هذا التقليد منذ عام 1950، عندما عُدل اسم المجلة إلى مجلة "السُّودان في رسائل ومدونات المدمجة فيها وقائع الجمعية الفلسفية بالسُّودان".
سادسًا: استطاع رئيس هيئة التحرير وأعضاؤها أن يواصلوا مسيرة المجلة بصورة منتظمة كمًّا ونوعًا، لفترة امتدت لما يربو على عقد من الزمان (1967-1979)، وكانت عضوية هيئة تحريرها متجددة بصفة شبه دورية لتراكم الخبرات وضمان استمرارية العطاء( )، ولكن رئاسة تحريرها ظلت دائمة في يد يُوسُف (1974-2003)، الذي عزا ذلك إلى عدم تبعية المجلة إلى أي جهة حكومية أو أكاديمية، وأن دعمها المالي واستمراريتها كانا مرتبطين إلى حد كبير بجهده الشخصي واتصالاته الأكاديمية والفردية مع الجهات الممولة.
(3)
أعضاء هيئة التحرير في عهد رئاسة يُوسُف فضل حسن للمجلة (1974-2003)، وفترات عضويتهم، وبعضهم بدأت عضويته في المجلس قبل تولي يُوسُف رئاسة تحريرها: ج. ن. ساندرسون (1954-1965) ومحمد عمر بشير (1962-1983)، وإيان كنيسون (1962-1999)، ومكي شبيكة (1943-1946، 1969)، ومحمد إبراهيم أبو سليم (1971-1999) والسماني عبد الله يعقوب (1971-1975)، وعبد القادر أبو القاسم (1971-1974)، وأرب يورك أييك (1971)، وطه حسن النور (1972-1974)، والفاتح محجوب (1974-1975)، وأمير الصاوي (1974-1975)، وعبد القادر حسن خطَّاب (1974-1980)، وسيد البشرى (1975-1976)، وتوحيدة عثمان حضرة (1976-2001)، وقلوباوي محمد صالح (1976-1980)، والحاج بلال عمر (1976)، وعلي عبد القادر (1977-1999) وموم نهيال أرو (1980-1981)، وسيد حامد حريز (1981-1999)، وعمر حسن جحا (1981-1983)، وحسن مكي (1997-2001)، وأكولدا مانتير (1997-2001)، وحسن محمد صالح (1997-1999)، ومحمد جلال هاشم (1997-2001)، ويُوسُف أبو جديري (1997-2001)، وبدر الدين عمر البيتي (1997-2001).
ahmedabushouk62@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هیئة تحریر المجلة وزارة الداخلیة هیئة التحریر دار الوثائق رئاسة تحریر أعضاء هیئة عبد القادر عضویة هیئة فی العام عبد الله رئیس ا محرر ا
إقرأ أيضاً:
الحرب النفسية: اليمن يُعيد تعريف معادلة الصراع
في قلب الحروب الحديثة، قد تصبح الكلمة أكثر فتكاً من القذيفة. الحرب النفسية، التي كانت تاريخياً أحد أذرع القوى الكبرى، باتت اليوم في متناول الفاعلين غير التقليديين، ليس فقط كوسيلة ردع، بل كأداة لبناء توازنات معنوية وميدانية جديدة.
في هذا السياق، برز اليمن، خلال الأشهر الأخيرة من معركة الإسناد لغزة، كحالة لافتة في تطوير وتوظيف أدوات الحرب النفسية، ليس فقط عبر استنساخ أساليب العدو، بل عبر تنويعها وإعادة تشكيلها ضمن منظومة ردع متكاملة.
من أولى المؤشرات التي لفتت الأنظار في الأداء الإعلامي والعسكري للقوات المسلحة اليمنية كان استخدام أسلوب التحذير المسبق، بطريقة تعكس ما اعتادت إسرائيل فعله مع خصومها.
فبينما كانت تل أبيب ترسل رسائل تحذيرية عبر الناطقين باسم جيشها موجهة إلى سكان مناطق مثل غزة أو جنوب لبنان واليمن، بدأ الأخير بتوجيه تحذيرات مشابهة -شكلاً لا مضموناً- إلى مطارات ومواقع استراتيجية إسرائيلية، مثل مطار بن غوريون.
هذه الصيغة لم تكن مجرد محاكاة بل تمثل نقلة في الخطاب النفسي: تحويل التحذير من أداة تحييد إلى أداة تهديد. بذلك، لا يكون التحذير اليمني عملاً أخلاقياً بقدر ما يكون رسالة صلبة: نحن نملك القدرة على الإيذاء، ونمنحكم وقتاً للتفكير في العواقب.
من أدوات الحرب النفسية الأكثر بروزاً، اللجوء إلى تسمية العمليات العسكرية بأسماء ذات رمزية، كالإصرار اليمني على تسمية المدن والبلدات الفلسطينية بأسمائها الأصلية، لا تلك اليهودية، وهي خطوة تعكس رسالة محمّلة بدلالات دينية وتاريخية وسياسية.
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن اليمن بما يمتلك من قدرات، إلا أنها ليست كافية -كقدرة نارية واسعة نتيجة البعد الجغرافي- للتأثير الفعلي الكبير على المرافق الحيوية في الكيان، ولذلك، كان استهداف البنية التحتية للملاحة الجوية الاسرائيلية خياراً عمليّاً، وبصاروخ واحد. وبهذا استطاعت صنعاء أن تثبت في وعي الاحتلال ومستوطنيه أن السماء لم تعد آمنة، وأن المعركة اقتربت من العصب الحيوي للكيان. وهنا تتضح القوة النفسية للتسمية: إنها تجعل من كل إعلان عن عملية، تهديداً مركّباً يتغلغل في الإدراك الجمعي للمستوطنين.
يُعد التوقيت في الضربات اليمنية أيضاً جزءاً من تكتيك الحرب النفسية، لا مجرد قرار عسكري. فقد اختارت صنعاء توقيتات دقيقة لتنفيذ ضرباتها، غالباً ما تكون متزامنة مع أحداث إسرائيلية داخلية أو تطورات إقليمية حساسة. في بعض الأحيان، كان التوقيت يحمل رسالة مبطّنة: «نحن نراقب، ونستطيع مفاجأتكم في اللحظة التي تظنون فيها أنكم في أمان».
هذا الاستخدام الذكي للتوقيت لا يسبب فقط أذى ميدانياً، بل يبني حالة من الترقب والقلق الدائم. كل ساعة تمر، هي احتمال لصفعة نفسية جديدة.
بيانات القوات المسلحة اليمنية تطورت خلال الأشهر الأخيرة لتصبح أداة حرب نفسية قائمة بذاتها. اللغة المستخدمة في هذه البيانات واثقة، حادة، تنطوي على تهديد مباشر ومدروس. لم تعد البيانات مجرد إعلانات بل رسائل موجهة لا إلى الداخل اليمني فحسب، بل إلى الحكومة الإسرائيلية، وإلى جمهورها، وإلى محيطها الإقليمي.
يضاف إلى ذلك نشر مشاهد مصورة للعمليات أو لمرحلة ما بعد التنفيذ، كتوثيق استهداف سفن في البحر الأحمر أو لقطات لطائرات مسيّرة في الأجواء. هذه الصور لا تكتفي بالإخبار، بل تبث رسائل ميدانية ذات طابع نفسي صارم: نحن نملك اليد، والعين، والسلاح.
من أكثر التحولات اللافتة في الحرب النفسية اليمنية، الاتجاه نحو مخاطبة الجبهة الداخلية الإسرائيلية مباشرة، أحياناً باستخدام اللغة العبرية أو رموز معروفة في الخطاب الإسرائيلي. هذا النوع من الخطاب يكسر الحاجز النفسي التقليدي بين المقاتل العربي والشارع الإسرائيلي، ويضعه وجهاً لوجه مع خصم يعرفه، ويخاطبه، ويهدده بلغته.
إنها رسائل قصيرة، لكنها موجّهة بدقة: «نحن نراكم»، أو «نحن نعرف مفاتيح التأثير عليكم». وهذا النوع من التواصل يشكل ضغطاً على القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي تجد نفسها ملزمة بالرد أمام جمهور بات يشعر أن جبهته الداخلية لم تعد بمنأى عن الخطر.
في معركة الإسناد لغزة، أثبت اليمن أن الحرب النفسية ليست فقط سلاحاً تكميلياً، بل ركيزة استراتيجية في بناء معادلة ردع جديدة. لقد تجاوزت صنعاء مرحلة استنساخ أدوات العدو إلى مرحلة إعادة إنتاج أدوات نفسية متعددة الوظائف: تهدد، وتربك، وتحفّز، وتخترق.
وإذا كان ميزان القوى العسكري ما زال يميل لصالح إسرائيل، فإن المعركة النفسية باتت مفتوحة، وقابلة للتطوير، وبعيدة عن الحسم. في هذا السياق، يمثل اليمن اليوم مختبراً متقدماً في الحرب النفسية السيادية، يعيد تعريف معادلة الصراع في المنطقة.