د. فيصل عوض حسن


أعلنت وزارة الخارجيَّةِ الأمريكيَّة عن اعتزامهم فَرْضْ عقوبات جديدة على السُّودان، تتمثَّل في تقييد الصادرات ووضع حدود للاقتراض المالي اعتباراً من السادس من يونيو/حزيران القادم، وذلك بعدما تثَبَّتوا من استخدام الجيش السُّودانِي للأسلحة الكيميائِيَّة في حربه ضد (مليشيا) الجنجويد، ولم تُوضِّح الخارجِيَّة الأمريكيَّة مكان وزمان استخدام تلك الأسلحة أو نوعيتها.

.!


يبدو أنَّنا موعودون بسلسلةٍ جديدةٍ من الابتزازات الأمريكيَّة، التي دَرَجوا عليها باستخدام فَخ العقوبات طيلة العقود الثلاثة الماضية. وقبل الخوض في مضامين الموضوع من المُفيد استحضار نشأة العقوبات الأمريكيَّة المفروضة على السُّودان، و(المُتَسَبِّبين) فيها ومَدى تأثُّرهم بها! وفي هذا الخصوص، فإنَّ الوقائع التاريخيَّة المُعاشة فعلاً، تقول بأنَّ المُتأسلمين منذ سَطْوِهِم على السُلطة سنة 1989، استعدوا الغرب عموماً والأمريكان خصوصاً بخطاباتٍ عَدائِيَّةٍ مُتواصلة، وازداد الاستعداء أكثر بتأييد (المُتأسلمين) لغزو الكُويت من قِبَل العراق، ثُم تطوَّر باحتضانهم للجماعات الإسْلَامَوِيَّة في الخرطوم ورعاية أنشطتها، كحالة أُسامة بن لادن وغيره، مما أدخل السُّودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب سنة 1993. ثُمَّ شَدَّدَت أمريكا حصارها الاقتصادي على السُّودان سنة 1997، و(قَصَفت) مصنع الشفاء سنة 1998، و(خَفَّضَت) التمثيل الديبلوماسي وصَنَّفَت السُّودان ضمن الدول التي يُمكن مُحاصرتها اقتصادياً عقب أحداث 11 سبتمبر 2001.


تَسَلْسُل الأحداث المُختصر أعلاه، يُوضِّح أنَّ المُتأسلمين هم الذين (تَسَبَّبوا) في العقوبات المفروضة على السُّودان، بل صنعوها من العدم، لكنهم لم يـتأثَّروا بتلك العقوبات، سواء كجماعة أو أفراد. فقد (تَعَزَّزت) علاقاتهم مع الأمريكان في جميع المجالات، خاصَّةً الأمنيَّة، طِبقاً لإقرارات الطرفين، كتصريحات القائم بالأعمال الأمريكي في يوليو 2016 بشأن إشراف الاستخبارات الأمريكيَّة على تدريب عناصر جهاز الأمن الإسْلَامَوِي السُّوداني، وتصريحات غندور وسفير المُتأسلمين لصحيفة واشنطن تايمز في مايو 2016، وقبلها إقرار مُدير أمن المُتأسلمين (قوش) المُوثَّق في يناير 2014، بشأن تعاوُنهم (الوثيق) مع أمريكا وبإشراف البشير شخصياً. هذا بخلاف مُوافقة المُتأسلمين على بناء أكبر سفارة لأمريكا، بأفريقيا والشرق الأوسط في الخرطوم، واستحواذ رؤوس الفجور الإسْلَامَوِي وأُسرهم على جوازاتٍ أمريكيَّة، وأسفارهم المُتلاحقة واستقرار العديدين منهم هناك وغيرها من مظاهر التعاوُن والتنسيق و(الانسجام)!


للأسف الشديد فإنَّ العقوبات الأمريكيَّة طَالَت فقط السُّودان (الكيان والشعب)، على نحو ما جرى لمُؤسَّساتنا الرئيسيَّة، كالخطوط الجَوِّيَّة والبحريَّة والسِكَك الحديديَّة والنقل النهري، ومشروع الجزيرة وقطاع الخدمات كالسياحة والاتصالات، التي بِيْعَتْ بأبخس الأثمان رغم نجاحها (قبل وبعد بيعها)، وتَرَاجَعَت الزراعة وارتفعت تكاليفها، وتَعَثَّرَتْ البعثات والمِنَحْ الدراسية، وتَعَطَّلَ استيراد أدوات المعامل والمُختبرات ومُتطلَّبات العمليَّة التعليميَّة، وضَعُفَ العمل المصرفي تبعاً لسيطرة أمريكا على مُؤسَّسات المال العالميَّة، كصندوق النقد والبنك الدوليين وغيرهما، من مُؤسَّسات التمويل والتنمية التي تَضَاءَلَت برامجها في السُّودان. غير أنَّ الأخطر في الأمر، هو ارتباطُ العقوبات الأمريكيَّة بتمزيق البلاد، كاتفاقِيَّة نيفاشا التي تَمَّت برعاية وضغط الأمريكان، واستخدموا (جَزَرَة) رفع العُقوبات للتوقيع عليها مما أسفر عن (فَصْلِ) الجنوب، وفقاً لإقرار المُتأسلمين والأمريكان! وبنحوٍ عام، يُمكن القول، بأنَّ المُتأسلمين والأمريكان صنعوا هذه العُقوبات لنهب وتفكيك السُّودان، مُستخدمين أُسلوب الإدارة بالأزمات Management by Crisis، واستراتيجيات تشومسكي بدءاً بالإلهاء وخلق المُشكلة وإيجاد الحل، والتَدَرُّج والتأجيل، مروراً بمُخاطبة العَامَّة كالأطفال، واستخدام العاطفة دون التأمُّل، وإضعاف جودة التعليم والتعايُش مع الجهل، وانتهاءً بتوسعة الفجوة المعرفيَّة بين العامَّة والحاكمين وتعميق الشعور الذاتي بالذنب.


حمدوك وقحتيُّوه استكملوا (خيانات) المُتأسلمين لصالح الأمريكان، قياساً بجُملة من المُمارسات والتصريحات ومُحصِّلتها النِهائيَّة. إذ تَمَاهى حمدوك وقحتيُّوه مع البرهان ورُفقائه في عمليات التطبيع، رغم مُحاولات الإنكار والتضليل المفضوحة، ومن ذلك إشراف حمدوك على توقيع اتفاقيات أبراهام عبر مُسْتَوْزِر عَدله (نصر الدين عبد الباري)، وقيادته لحملات ترويج منافعها الاقتصادِيَّة الخُرافِيَّة بعلم ودعم البرهان ورُفقائه، وكانت حِجِّتهم (رفع العقوبات) التي لم تُرْفَع، وفق ما فَصَّلته في مقالتي (لماذا التضليل والتعتيم على تفاصيل التطبيع؟!) بتاريخ 31 يناير 2021! كما التزم حمدوك (دون تفويضٍ شعبي) بدفع تعويضات لا قِبَلَ لنا بها، وفي جرائمٍ لم نرتكبها من أساسه، وذلك خلال زيارته غير المُنسَّقة لأمريكا وفي غياب كبار مسئوليها وقت تلك الزيارة، وثَمَّة تفاصيل أكثر في مقالتي (حِصَارُ السُّودان: تَضليلٌ مُستمر وخِيانةٌ مُتجدِّدة) بتاريخ 8 ديسمبر 2019. وهناك أكاذيب وتضليلات حمدوك ورُفقائه القحتيين، وربطهم الخبيث بين (إعفاء) الديون وجَلبْ المُساعدات والدعومات الدَولِيَّة والإقليميَّة، وبين (رفع العقوبات)، وهي أمورٌ تناولتها تفصيلاً أيضاً في مقالاتٍ عِدَّة كـ(تعقيباً على مقالة التداعيات الاقتصادية للاحتراب السوداني) بتاريخ 1 نوفمبر 2023 وغيرها.


الراجحُ عندي، أنَّ هذه العقوبات (الإضافِيَّة) المُشار إليها أعلاه، تأتي كتمهيد لابتزازاتٍ آتية تستهدف نهب وتمزيق ما تبقَّى من البلاد، وتحديداً استكمال بـ(مُثلَّث حمدي) الذي حَصَرَ السُّودان في محور (دنقلا، سنَّار، الأُبيض) واستبعد المناطق الواقعة خارج هذا المحور، حيث قَطَعَ المُتأسلمون، ومن بعدهم البُرهان/حِمِيْدْتي ورُفقائهما من القحتيين وحركات اتفاقيات جوبا، أشواطاً كبيرة في تحقيقه، دون سقوفٍ أخلاقِيَّة أو إنسانِيَّة، ومن ذلك (صناعة) الحرب الماثلة التي نجحوا من خلالها في توسيع الهُوَّة الاجتماعِيَّة والوجدانِيَّة بين السُّودانيين، مُستعينين بالمُرتزقة والمُجنَّسين وسَقَطَ المَتَاع، وهي أمورٌ فَصَّلتها وحَذَّرتُ منها منذ بدايات الحرب في مقالتي (هَلْ سيُدرِك السُّودانِيُّون حقيقة ومآلات الاشتباكاتُ الماثلة)، بتاريخ 1 مايو 2023 وغيرها. وبعبارةٍ أخرى، تمَّ إكمال كافَّة حلقات مُثلث حمدي، حيث تمَّ (الفَصْل الوجداني) شبه الكامل بين دارفور والمنطقتين وبين بَقِيَّة السُّودان، ودفعوا الشعب دفعاً لخيارات الانفصال.


أما الشرق وأقصى الشمال كمناطق استبعدها المُثلَّث من السُّودان، وبخلاف الأراضي والموانئ المُخصَّصة للسعودِيَّة وروسيا وتركيا والإمارات (رغم أكذوبة العداء الشكلي)، فقد تَعزَّزت سيطرة المصريين على ما تَبَقَّى من الشمالِيَّة، عقب ابتلاعهم لحلايب والأراضي النُوبِيَّة. وواصلَ الإثيوبيُّون تَوَغُّلاتهم في أراضينا، بعدما ابتلعوا الفَشَقَة وأقاموا قُرىً كاملةً في الدِنْدِر منذ 2018. والجديد في الأمر، هو دخول إريتريا (علناً) لتأخذ نصيبها من أراضي الشرق، بعلم ودَعَمَ البُرهان الذي استغلَّ الحرب المصنوعة الماثلة، وساعد في تدريب وتسليح المُجنَّسين الإريتريين بـ(مُسمَّى بني عامر)، بالتنسيق مع النظام الإريتري، ثُمَّ سَمَحَ بدخولهم إلى السُّودان بحجَّة دعم الجيش في حربه ضد الجنجويد، مُتناسياً ولائهم المُعلَن لإريتريا وانتسابهم لمليشيا الجنجويد، سواء قبل أو أثناء هذه الحرب، بخلاف أحقادهم وكراهيتهم الكبيرة لكل ما هو سُّوداني، وتهديداتهم المُتواصلة بقتل وسحق وطرد جميع السُّودانيين من أرضهم، ومُناداتهم بفصل الشرق من أساسه. وهذه جميعها مُعطيات تُنبئ بتكرار الغدر والخيانة، بدءاً بإشاعة الفوضى والقتل ثُمَّ (التَظاهُر) بالقتال والمُقاومة والسَمَاح بالتَدَخُّلات الخارجِيَّة (العلنِيَّة)، انتهاءً بـ(التفاوُض) ثُمَّ الفصل استناداً لـ(جَزَرَة/عصا) العقوبات!


المُحصِّلة، أنَّنا في مرحلةٍ مفصليَّةٍ حَرِجَة جداً، وأعداؤنا يمضون في مُخطَّطاتهم بسرعةٍ مُرعبة، مدعومين بخونةٍ وعُملاء نحسبهم مِنَّنا، ونحنُ غارقون في استعداء بعضنا البعض، ونستميتُ دفاعاً عَمَّن أوردونا موارد الهلاك، سواء البرهان/حِمِيْدْتي أو القحتيين أو الحركات القادمة عبر اتفاقات جوبا. ليتنا نُدرك بأنَّنا الضحايا الحصريُّون لكل هذا العبث، ونحن المسئولين عن إنقاذ أنفسنا وبلادنا، وعلينا الإسراع بالاتحاد والتضامُن الحقيقي وحماية بعضنا البعض، قبل انفراط واستفحال الأمور واستحالة مُعالجتها.


إنَّ جميع السُّودانيين مُسْتَهْدَفون بلا استثناء، والتسويف والانصرافِيَّة والصراعات الجِهَوِيَّة/القَبَلِيَّة تزيدنا ضعفاً وهواناً، وسبيلنا الوحيد للنجاة (بعد لطف الله) يكون باتِّحادنا الكامل والصادق، والعمل سَوِيَّةً لاقتلاع المُتأسلمين وأدواتهم التنفيذيَّة، بدءاً بالبُرهان/حِمِيْدْتي وانتهاءً بالقحتيين وحركات اتفاقيات جوبا، ومُحاسبتهم ومُعاقبتهم على جرائمهم المُتراكمة، ثُمَّ التَفَرُّغ لإعادة بناء السُّودان على أُسُسٍ أخلاقِيَّة وإنسانِيَّةٍ وقانونِيَّةٍ وعلميَّةٍ سليمة.. وللحديثِ بَقِيَّة.


awadf28@gmail.com

 

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: على الس

إقرأ أيضاً:

خبراء لغة الجسد يفنّدون رواية ماكرون عن الصفعة التي تلقاها من زوجته

خبراء لغة الجسد يفنّدون رواية ماكرون عن الصفعة التي تلقاها من زوجته

مقالات مشابهة

  • سوريا تؤكد إغلاق المقرات التي كان يشغلها انفصاليو البوليساريو
  • بلدية زلة: صيانة ثلاثة أبراج كهرباء بطريق زلة ودان
  • مدريد/ الأناضول تباينت مواقف وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس ونظيره الألماني يوهان ديفيد فادفول، بشأن غزة، خلال لقائهما في مدريد. وفي المؤتمر الصحفي المشترك، الاثنين، بدا أن القاسم المشترك الوحيد بين ألباريس وفادفول هو تعريف حماس على أنها R
  • خبراء لغة الجسد يفنّدون رواية ماكرون عن الصفعة التي تلقاها من زوجته
  • نساء سودانيات يناقشن معاناة اللاجئين في لقاء حمدوك بكمبالا
  • يا أمريكا نحن شغلتنا جاطت من ناس حمدوك جاءو وقالوا دايرين يصلحوا علاقتنا معاكم
  • المبعوث الأمريكي: سوريا توافق على المساعدة في البحث عن الأمريكيين المفقودين
  • المبعوث الأمريكي إلى سوريا: رفع العقوبات عن سوريا يتيح لشعبها فتح باب السلام والنهضة
  • عضو في الحزب الجمهوري الأمريكي: رفع العقوبات عن سوريا خطوة مهمة للغاية لتقدم البلاد