«الشارقة التراثية» تفتح صندوق العجائب وتروي عوالم السرد وخيال الظل
تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT
الشارقة (الاتحاد)
تسعون فعالية منوعة، أعدت بعناية كي تقدم تراث الوطن لأجيال اليوم بأسلوب متفرد، يجمع بين سحر الحكايات، وخيال الظل، وتقاليد الأجداد، كأن ما ترويه في ركنها المخصص بفعاليات أيام الشارقة التراثية يخرج من صندوق العجائب ليكتشف صفحات التراث فيحاكي موروثه، ويستنطق كنوز قيمه وتقاليده وعاداته.
أول ما يطالعك في ركن المدرسة الدولية للحكاية مكتبتها التراثية التي يعلوها شعار «ألف حكاية وحكاية بانتظار من يرويها»، سواء من المتخصصين من الشعراء والأدباء والمهتمين بالتراث، أو الأطفال أنفسهم، أو من فريق المدرسة الدولية للحكاية وهم: ريم السويدي، خديجة المازمي، زينب العلياني، ونجمة بن بو علي، اللاتي يجمعن الأطفال بحب على قصص الماضي، ويبنين فيهم قيم الآباء والجداد.
رفوف كتب المدرسة الدولية للحكاية ضمت الكثير من القصص، أبرزها: أم الصبيان، في الاتحاد قوة، بابا زايد، حكاية العاصمة العالمية للكتاب، بابا سلطان، حليب أمي، نواف الجلاف، وسأصطاد فطوري، إضافة إلى مجموعات قصصية أخرى تمزج بين الفنون الشعبية، والأمثال، والحكايات، والحلي، ووسائل الزينة، وغيرها.
من فعاليات المدرسة الدولية للحكاية كانت مع قارئتنا المتميزة فاطمة علي الزرعوني، وهي أيضاً إحدى الكاتبات الواعدات اللاتي صدرت لهن مطبوعات عدة، منها: كوكب بلا أفكار، وعالم السلام ولكن! وفهيم الفهمان ولكن!
وقد أصبحت الزرعوني جزءاً من رواة ألف حكاية وحكاية، حيث تغمرك البهجة وأنت تستمع إلى قصصها بأسلوبها المتميز وهي تروي للأطفال قصة «قائدان بطلان الشيخ زايد والشيخ راشد»، و«حمدان والنخلة» صاحب الدراجة الذي يصبح لاحقاً عاشقاً للنخيل.
فقرات المدرسة الدولية للحكاية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تواصل استقبال زائري أيام الشارقة التراثية لتبهجهم بالمزيد عن حكايات العرائس والدمى، وتعرفهم على سحر الأصوات وتأثيرها في سرد الحكايات الشعبية، وتقديم الحكاية الشعبية بطريقة الهولوغرام، والجلسات التفاعلية، وتحويل الحكايات الشعبية إلى صور فنية ولوحات معبرة في ورش متخصصة، والكثير من الفقرات المبهجة المتنوعة. أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: أيام الشارقة التراثية التراث الإماراتي حكايات من التراث الشارقة التراثیة
إقرأ أيضاً:
عصام كاظم جري… اللغة الناعمة بعطرها الممسوس بتقانات الاثراء وتجويف الاساطير التراثية الميسانية عمقا ودلالة ومعنى
قراءة أدبية / سمير السعد ..
في زمنٍ باتت فيه الأصوات العالية تُغطّي على خرير الشعر، ينهضُ عصام كاظم جري بصوته الهادئ كقنديلٍ في عتمة الجنوب، لا يطلب الضوء لنفسه، بل يهبه للآخرين. شاعرٌ ومربٍّ وإنسان، ترك ومازال ، بصمة لا تُمحى في ذاكرة ميسان الثقافية، وفي وجدان من عرفوه، سواء في الحقل التعليمي أو في المنتديات الأدبية أو في طيب المجالس. أنيق في حضوره، رصين في كلمته، خفيف الظل على من حوله، محبوب في الأوساط الثقافية، ابتسامته لا تفارقه، وحديثه شيّق لا يُملّ، وكأن القصيدة تسكن حديثه كما تسكن قصيدته.
ولد في مدينة العمارة، وتشرّب من بيئتها الجنوبية الحسّ المرهف واللغة الصافية، فدرس اللغة العربية في كلية الآداب، وحصل على البكالوريوس، ليختار بعدها طريق التعليم، فيجمع بين الأدب والتربية، وبين الجمال والمسؤولية. لم يكن مجرد معلم للغة، بل مربٍّ للذوق والروح، فأثر في أجيال كثيرة، ترك فيهم بذور الحرف والوعي، وكان مثالًا للمدرّس الذي يجمع بين الخلق والعلم، وبين التواضع والهيبة.
انتماؤه للكلمة كان صادقًا وحقيقيًا، ولهذا انضمّ إلى اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، وكذلك إلى
اتحاد الأدباء العرب، وشارك في تأسيس ملتقى ميسان الثقافي، وشغل منصب رئيس نادي الشعر في اتحاد أدباء ميسان بين عامي 2016 و2019، في فترةٍ شهدت نشاطًا ملحوظًا في المشهد الأدبي المحلي، وكان من بين أبرز الأصوات التي حافظت على اتزان الشعر في مواجهة الاضطراب الثقافي العام.
تُعدّ تجربته الشعرية من التجارب المهمة في جنوب العراق، وقد انعكست في دواوينه “خارجًا ومكتفيًا بالسواد” الذي صدر عام 2001 عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد، و”خارطة الريح” الذي صدر عن اتحاد الأدباء والكتاب في ميسان عام 2011. هذان العملان رسّخا حضوره كشاعرٍ يمتلك نبرة خاصة، ويتعامل مع القصيدة بوصفها شغفًا ذاتيًّا ورسالة وجودية. كما شارك في مجاميع شعرية جماعية مهمة مثل “أعالي السنديان”، و”أحزان عراقية”، و”وردة الضحايا”، مما جعله حاضرًا في المشهد الأدبي على المستوى المحلي والعربي.
في قصيدته “لقاء أوّل”، تتجلى رؤيته الشعرية التي تمزج بين الذات والواقع، وتنهل من الحزن العراقي، ولكن دون أن تستسلم له. يفتتح النص بلحظة العودة، العودة إلى الذات، وإلى الوطن، وإلى المواجهة:
عند أوّلِ عودةٍ لي
عند أوّل التفاتةٍ إلى حارسِ الحدود
عند أوّل نقطةٍ لتفشي السّر
تذكرتُ الحياةُ
شظايا
وأريكةُ ليل
هذا المقطع ينهض على مفارقة الشعور بين اللحظة الآنية وذاكرة الألم. كلّ “أول” في النص يشير إلى كشف داخلي. العودة ليست مجرد عبور مكاني، بل عبور وجودي نحو الذات المنهكة. حين يلتفت الشاعر لحارس الحدود، لا يراه بعين الجغرافيا، بل كرمز لحدودٍ أوسع ، حدود الوجع، الغربة، والانفصال. تتذكر الحياة لا كأمل، بل كشظايا، وكسطح هشّ ، ” أريكة ليل”، حيث الراحة مؤقتة، والوحدة أبدية.
ثم يمضي في توصيفٍ يزداد كثافة وتصعيدًا:
الحياة
سلّمٌ من رصاص
ساحةٌ ووقوفٌ من بارودٍ
وتلف
هذا السطر يعبّر عن سوداوية لا يخلو منها وعي الشاعر. الحياة هنا ليست ارتقاءً ناعمًا، بل “سلّم من رصاص”، كلّ درجة فيه موت مؤجل. “وقوف من بارود” إشارة إلى الثبات القسري وسط أخطار الحرب، وتتحوّل الحياة إلى تلف، إلى حالة من التآكل والصمت.
ويكمل الشاعر لوحته:
عند أوّلِ شهقةٍ من الآس
عند أوّلِ عبّارةٍ للغرق
الأرصفةُ مشاهدُ من جماجمَ
وأنفاق
الآس، رمز العطر والموت، يأتي ممزوجًا بـ”شهقة”، ما يوحي بجنازة، أو بوداع. “العبّارة للغرق” ليست فقط عبورًا مائيًّا بل رمزٌ للمرور من الحياة إلى الفقد. أما الأرصفة، فليست للانتظار أو اللقاء، بل “مشاهد من جماجم”، كأن الموت يمشي معنا على أرصفة المدن.
وفي المقطع الثاني من القصيدة، يرتقي الشاعر نحو صورة أكثر كثافة، وأكثر حزنًا:
من بياناتِ اختباء
عند أوّلِ لوحةٍ درامية من الرمل
عند أوّلِ ثريا تبثّ النجوم
عند أوّلِ ستارِ عَتمة
الخنادقُ أسلاكٌ
معطوبة
يبدأ من “بيانات اختباء” ليشير إلى هروب الإنسان من ذاته، من ذاكرته، من وطنه حتى، لكنه لا يهرب من القصيدة. “اللوحة الدرامية من الرمل” تشير إلى مشهد مؤقت، هشّ، قابل للانهيار. “الثريا” تبث النجوم، لكنها في مشهدٍ معتم، لا تنير ما حولها، فالضوء لا يبلغ الأرض. “الخنادق أسلاك معطوبة”، صورة تستدعي الحرب، العطب، فشل الحماية، وانهيار الدفاعات النفسية والواقعية.
ثم يختتم القصيدة بهذا التساؤل الموجع:
لكِ وحدَك أكثرُ من ليل
والطفولةُ علامةٌ تشبهُ أقواسَ الفرح
من يُنقذُ وجهَ الليل من هذا السواد؟
والشمسُ تخلعُ عباءةَ الإتقاذ
وتلوّحُ بخيوطِها للراحلين
الذين لا يملكونَ بقايا
الحروف؟
هذا المقطع يصل بالقصيدة إلى ذروة الدراما الشعرية. “لكِ وحدك أكثر من ليل” هو خطاب إلى ذات أنثوية مجهولة، ربما الوطن، أو الحب، أو الذاكرة. الطفولة، رغم رمزيتها، لا تأتي إلا كـ”علامة تشبه أقواس الفرح” – الفرح مجرّد تشبيه لا تحقق. في سؤاله: “من يُنقذ وجه الليل من هذا السواد؟” يتجلّى اليأس النبيل، واليأس الواعي. الليل مظلم حتى في وجهه، فكيف ننجو؟ حتى الشمس، التي يفترض أن تُنقذ، “تخلع عباءة الإنقاذ”، وتنأى، تلوّح للراحلين الذين “لا يملكون بقايا الحروف” – هم أولئك الذين صمتوا، ماتوا، ولم تُكتب لهم قصة أو قصيدة.
ولا يقتصر أثره على النص الشعري فقط، بل تعدّاه إلى النقد، حيث كتب مقالات رصينة عن تجارب شعرية عربية وعراقية، مثل “خيول مشاكسة” لماجد الحسن، و”الغياب العالي” لعلي سعدون، و”دفء الثلج” لجابر محمد، و”صيدلية البقاء” لمحمد قاسم الياسري، وغيرها. كانت كتاباته النقدية نابعة من حسّ معرفي وثقافي، ومن إحساس صادق بالشعر بوصفه ضرورة روحية وجمالية.
أما حضوره الأكاديمي، فقد تجاوز حدود النشر إلى فضاء الجامعات، حيث دُرست تجربته الشعرية في أطروحات دكتوراه ورسائل ماجستير في جامعات عربية وعراقية عدة، منها جامعة القاهرة، جامعة بابل، جامعة كربلاء، الجامعة المستنصرية، وجامعة ميسان. وهو ما يؤكّد أن أثره لم يكن لحظيًّا، بل عميقًا ومستمرًا، ويستحق مزيدًا من التوثيق.
من المدهش أن لا نجد حتى اليوم كتابًا نقديًا منفردًا يُعنى بتجربته الشخصية والأدبية، رغم غناها وتنوعها وتأثيرها. نحتاج إلى كتاب يحمل عنوانًا مثل “عصام كاظم جري: شاعر العمارة وضمير الجنوب”، أو “في ظلال قصيدة ميسانية ، دراسة في شعر عصام كاظم جري”، يضمّ قراءات نقدية وشهادات وأوراقًا أكاديمية، لتكون وثيقة وفاء لهذا الاسم الذي أعطى الكثير، وظل وفيًّا للقصيدة والإنسان والمكان.
عصام كاظم جري لم يكن شاعرًا فحسب، بل إنسانًا نبيلًا ومربيًا مخلصًا وصوتًا شعريًا مغايرًا، عرف كيف يجعل من الألم منبعًا للجمال، ومن الغربة نداءً للانتماء، ومن الكلمة سلاحًا للمحبّة والحقيقة. وفي كل مرة نقرأ نصًا من نصوصه، كأننا نسمع صوته وهو يهمس لنا بما لم نقله، ويضع أمامنا مرآةً من حروفٍ نقيّة، تقول لنا: “من يُنقذ وجه الليل من هذا السواد؟” وكأنه يعلّمنا من جديد أن الشعر، وحده، يستطيع أن يوقظ فينا ما نسيناه من إنسانيتنا.
سمير السعد