ربّما رأى البعض أن عنوان مقالي اليوم غريباً إلى حدٍّ ما، غير أنني أجده معبراً بحق عن الحالة الاستثنائية التي أود الحديث عنها، أجل، أرى طحيناً وفيراً فريداً، شهياً لذيذاً مغذياً، طحيناً يطعم الجائعين، ويؤمن الخائفين، ويحقّق السلام، وينشر الخير في كل مكان.
لقد اعتادت معظم الشعوب في العالم العربي، لاسيَّما في تلك البلدان التي يحكمها القومجيون الاستبداديون بالحديد والنار، والكذب والنفاق، والعمالة والارتزاق، اعتادت سماع أولئك الزعماء، أو قل الذين كان ينبغي أن يكونوا زعماء، لا طغاة مستبدون، اعتادت شعوبهم، كما اعتاد الجميع في الوقت نفسه، سماعهم دوماً وهم يرغون ويزبدون، واعدين شعوبهم بالسندس والإستبرق، وحياة مترعة بالسعادة والرفاهية، في ما يتوعدون أعداءهم بالويل والثبور، وتمريغ أنفهم في التراب، وإذلال الدول (العظمى) من أمريكا إلى بريطانيا وروسيا وغيرها، أقول اعتدنا على أولئك الزعماء الطغاة، و هم يوعدون هؤلاء ويتوعدون أولئك، ضاربين الطاولة بكل ما أوتوا من قوة تعبِّر عمَّا يسكن أعماقهم من خوف ورعب، أكثر مما تعبِّر عن شجاعة مصطنعة.
وبالمقابل، تقابل الشعوب المغلوبة على أمرها، تلك الجعجعة الفارغة صباح مساء، بمناسبة وبدون مناسبة، بتصفيق مدوىٍّ؛ ربَّما بعد كل كلمة، أو قل بعد كل كذبة يطلقها في الفضاء هذا (القائد الملهم) أو ذاك، وهكذا يتعالى صوت الجعجعة الذي يصك الآذان، وتمضي السنوات بأولئك الزعماء الافتراضيين وبشعوبهم، سنة بعد أخرى، ثم عقد بعد آخر، ثم فجأة في لحظة فارقة، غير منتظرة: يتهاوى النظام، أو قل إن شئت اللانظام، كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علٍ.
ثم بالدرجة نفسها من المفاجأة التي حدث بها ذلك الانهيار المريع للنظام، تصحو الشعوب على حقيقة ذلك الخواء الذي كانت تعيشه، نتيجة تلك الجعجعة الصاخبة الهادرة المفرغة من كل معنىً، التي جعلتهم يعيشون في عالم ملئ بالأوهام، فتصدمهم الحقيقة اللاذعة: لا صحة، لا تعليم، لا تنمية، لا تطوير، لا طريق يسيرون عليه بأمان، بل حتى لا كسرة خبز تسكت جوع صغارهم، ناهيك عن استعداء العالم كله من حولهم عليهم بسبب جعجعة زعمائهم.
فيغلي الحقد في النفوس، وكلٌّ يرى نفسه أنه كان هو الضحية، في ما كان الآخر سبب تعاسته، فيغلي المجتمع الذي كان غارقاً في الهتافات والشعارات الزائفة لزعمائه العملاء، كعقد انفرط وتبعثرت حباته في كل اتجاه؛ فهذا يلوم ذاك ويتهمه ويغلظ له القول، وهكذا تشتعل حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، تذهب بالبلاد والعباد إلى هاوية سحيقة، تنعدم فيها المروءة والأخلاق فيختلط الحابل بالنابل، وتطفح القنوات الفضائية بسيل من الجرائم تقشعر لها الأبدان، وتضيع معها الأوطان. وأحسب أنني لست في حاجة لكي أسوق لك أيها القارئ الكريم، أمثلة تؤكد صدق ما أقول؛ فبمجرد التفاتة صغيرة منك، ربَّما تقع عينك على أكثر مما ذهبت إليه في حديثي هذا.
أجل، تلك هي نتيجة حتمية لما كنَّا نسمعه من جعجعة صاخبة فارغة عبر عقود في تلك البلدان التي تسلط عليها القومجيون الاستبداديون. ومع هذا للأسف الشديد: ما زالت الرحى تدور، فيتعالى صوت الجعجعة الصاخبة في كثير منها، دون أن نرى أي طحين؛ بل قل مؤكدٌ جداً: لن نرى أي طحين مهما تعالى صوت الرحى وتعاقبت السنون.
أما عندنا هنا، في بلاد الحرمين الشريفين، أرض الرسالات، ورسول الخير للناس أجمعين، لا أقول تكاد لا تسمع جعجعة، بل مؤكدٌ أنك لم تسمعها ولن تسمعها أبداً. فالوقت هنا للعمل والانجاز والإبداع في صمت؛ بل أكثر من ذلك: مقابل صوت الجعجعة الصاخبة هنالك، تسمع هنا صوت الماكينات الهادرة التي حوَّلت مدننا كلها إلى ورش ضخمة للإنتاج والتنمية. بل كل مرة نسمع عن مشروع كبير يتم افتتاحه هنا أو هنالك في سائر ربوع بلادنا دون أن نسمع وعوداً جوفاء أو هتافات كاذبة وشعارات زائفة.
وعندما تأتي أصوات استغاثة من تلك البلدان التي أنهكتها جعجعة (زعمائها)، تنطلق طائراتنا كالريح، محملة بكل ما يلزم لمواساة المنكوبين المغلوبين على أمرهم، وتقديم أكبر قدر من الدعم لهم لتخفيف معاناتهم، دون أن تسمع شيئاً من جعجعة غير أصوات طائراتنا وهي تشق الفضاء.
وثمَّة نماذج تفوق الوصف والحصر، تؤكد أن بلادنا تعمل في صمت مطبق، بل تكره مضيعة الوقت في الحديث، وتوظف كل دقيقة للعمل والانجاز والإبداع. ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل على الصعيدين الإقليمي والعالمي على حدٍّ سواء. فكم فاجأتنا وسائل الإعلام بنجاح بلادنا في التوسط لحل مشكلة بين هذه البلاد وتلك. وكلنا نذكر نجاح وساطة ولي عهدنا القوي بالله الأمين، أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، في فك أسر السجناء بين أمريكا وروسيا من جهة، وبين روسيا وأوكرانيا من جهة أخرى؛ وجهوده الدءوبة لوضع حدٍّ للحرب الروسية – الأوكرانية التي راح ضحيتها مئات آلاف القتلى، فضلاً عن تدمير البنية التحتية؛ إضافة إلى جهوده الحثيثة المشهودة حتى اليوم لإحلال السلام في السودان.
والحقيقة الأمثلة كثيرة على إنجازات بلادنا المدهشة وقادتنا في صمت، وكراهيتهم للخطب الرنانة الجوفاء، ويبقى أصدق مثال على هذا: الاتفاق الذي توصلت إليه قيادتنا الرشيدة مع إيران، وفاجأت به العالم كله، حتى الدول (العظمى)، لم يسمع به أحد إلا بعد أن تم كل شيء على أحسن مما يرام، وسُحِبَ البساط تماماً من أي متطفل؛ الأمر الذي عزَّز ثقة العالم في قيادتنا الرشيدة، وجعل الجميع يشد الرحال صوبها، طلباً للدعم والمساندة والرأي السديد، لصدق قادتها، وإخلاص نيتهم، وصراحتهم وحيادهم، وقول الحقيقة مهما كانت مرة، وتقديم حلول عبقرية عملية مقبولة للأطراف المتنازعة كلها. مما أكسبها ثقة العالم واحترامه، فعوَّل الجميع عليها.
أجل، ليس هذا كلام مرسل، بل شهد به كثيرون في الغرب نفسه، فها هي الإكسبريس الفرنسية تصدِّر غلاف عددها الأخير بصورة بارزة لولي عهدنا القوي بالله الأمين أخي العزيز صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، تبرزها أكثر مما تبرز صورة ترامب نفسه، إلى جانب ثلاثة صور أخرى؛ كاتبة عنواناً بالبنط العريض: (محمد بن سلمان، ولي عهد السعودية، الرجل الذي يمتلك مفتاح الشرق الأوسط). وفي هذا دليل واضح على الاعتراف بدوره الكبير، فالذين يعملون في مجال الصحافة والإعلام، يدركون جيداً معنى الصورة الكبيرة والبنط العريض.
والحقيقة تجاوز تأثير ولي عهدنا القوي بالله الأمين المحلية والإقليمية ليبلغ العالمية، كما أكد غابريال صوما، العضو السابق لمجلس ترامب الاستشاري إذ يقول: (للسعودية اليوم نفوذ قوي، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل في دول العالم كله. وهي تبذل جهوداً كثيرة كبيرة مقدرة في إيجاد حلول لأزمات العالم).
فلاغرو إذاً إن لم يجد زعيما العالم، ترامب وبوتين، بُدَّاً من شد الرحال إلى عاصمة الخير، عاصمة القرارات الحاسمة المؤثرة، التي مثلما ليس لديها جريمة ضد مجهول، بالمقابل ليس في قاموسها مشكلة إلا ولها حل. طلباً لوضع حدٍّ لتلك المشاكل المستعصية التي جعلت العالم كله اليوم يغلي على صفيح ساخن.
وهكذا سيظل طحيننا إن شاء الله إلى الأبد، يشبع جوع العالم، ويحل فيه السلام، ويوفر الأمن والأمان، دونما ضجة أو جعجعة فارغة.
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: العالم کله
إقرأ أيضاً:
مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
في بعض الوجوه تسكن أوطان، وفي بعض الأصوات تنام ذاكرة شعب بأكمله.. هناك وجوه لا تُنسى، لا لأنها لامست الشاشات، بل لأنها لامست القلوب دون استئذان.. أشرف محمود… ليس مجرد اسم لمعلق رياضي، بل حكاية مصرية تمشي على قدمين، رجل حين يتحدث، تسمع في صوته رائحة الشاي على مصطبة الجد في آخر النهار، تسمع أنين أبو الهول وصبر الفلاح، ودفء السلام عليكم من جارٍ لا يغلق بابه.
مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون مؤمن الجندي يكتب: عندما ينطق الوجه مؤمن الجندي يكتب: أزرار السوشيالجية مؤمن الجندي يكتب: بين العرق والذهب وصمت الكادحينهو لا يعلّق على المباراة فحسب، بل يُمسك بالميكروفون كمن يُمسك بفرشاة ألوان، يرسم بها مشهدًا حيًّا تنقلك من الملعب إلى الحارة، من الهدف إلى الضحكة المصرية الخجولة، ومن تمريرة سحرية إلى حكمة قالها الأب زمان: "اللي ملوش كبير يشتري له كبير".
تراه فلا تتساءل عن معدنه، هو معدن "ابن البلد" النقي، صادق كالنيل، بسيط كالرغيف، نظيف كضحكة طفل في عز المولد.
أشرف محمود لم يجمّل نفسه، لم يصطنع شخصية، بل اختار أن يكون هو... فقط هو، وفي زمن يتصارع فيه الناس على الأضواء، كان هو الضوء ذاته، ضوءٌ يُشبه عيون أمك حين تدعو لك، ويُشبه نبرة أبيك حين يقول لك: "راجل يا ابني".
هو لا يركض خلف "الترند"، بل يمشي على خطى الكبار، لا يلهث خلف اللقطة، بل يصنعها بهدوء، كالفلاح حين يحرث الأرض.. يعلم أن الخير سيأتي.
أشرف محمود ليس ظاهرة صوتية، بل ظاهرة هوية وطنية.. هو مصر حين تتحدث بعقلها وقلبها ولسانها السمح، أثناء التعليق على المباريات.
في هذا الرجل تتجلى الهوية المصرية بكل ما فيها: بشهامتها، بكرامتها، بخفة ظلها، بجدعنتها، بحكمتها، بلغتها العربية، وبإيمانها العميق أن الأصل هو الأصل.. مهما تبدّلت الأزمان.
قبل النهاية، نحن في زمن امتلأت فيه الشاشات بالتصنع، والمنصات بالتصيد، لكن خرج هذا الصوت المصري الدافئ في بطولة مونديال الأندية، من الميكروفون لا يشبه إلا نفسه.. لا يستعير لهجة، ولا يبالغ في تعبير، ولا يتكلّف حماسة رغم خروجه عن شعوره.. لكنه فجأة! أصبح "تريند"، ولم يكن ذلك لأنه يملك خطة تسويق، أو فريق سوشيال ميديا محترف، أو يسعى خلف "اللايك والشير"، بل لأنه فقط قرر أن يكون كما هو: مصريًا جدًا.. بصوته، بكلماته، بنُكاته، بحماسه، وبهدوئه حين يجب أن يهدأ.
أشرف محمود لم يعلّق على المباريات فحسب، بل منحها طعمًا ولونًا ورائحة.. جعل المتابع يشعر أن المباراة تُلعب في ساحة بيتنا، وأن الهدف ليس مجرد كرة في الشباك، بل حكاية تُروى على القهوة، وضحكة تنطلق من القلب، وعصبية ابن بلد يعرف قيمة اللحظة.
لقد أصبح تريند.. لا لأنه أراد، بل لأن الناس اشتاقت لما يُشبهها.. وأشرف يشبهنا جدًا.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا