ذكر عباس محمود العقاد قصةً عن لجنة حكومية انتظمت في مصر لاختيار نشيدٍ وطني، وعرضوا عليهم بضعة نصوص غفلاً من الأسماء ليختاروا واحداً منها يرونه الأقوى في تمثيل مجد مصر، وظهر على رئيس الجلسة أنه يجر الحديث باتجاه نصٍ محدد، ولكن العقاد كان مع نص آخر أقوى في شعريته وفي تمثله للقيم الوطنية المصرية، وراح العقاد يبين عوار ذلك النص المفضل لرئيس اللجنة، وكان الأعضاء يميلون لموقف العقاد، وحين اشتد النقاش وتوتر، صرخ رئيس اللجنة وقال: هذا النص لأحمد شوقي، مما جعل الأعضاء كلهم يغيرون رأيهم لمصلحة نص شوقي، وتم لهم ذلك رغم غضب العقاد واعتراضه.

 
وهذه القصة تبين مدى تأثير الذاكرة البشرية على قرارات الناس، وكل شخصيةٍ تحتل الذاكرة فإنها تتحول لقيمةٍ مركزية تتغلب على كل القيم الأخرى، حتى قيم الحق وقيم العلمية وقيم الواقعية، وللاسم قوته في فرض قيمته على الاستقبال وعلى القرارات إذا ما كان اسماً مترسخاً في الذاكرة العامة.
وحول ذلك كنت في نقاش مع ناشر مصري في مطلع حياتي الثقافية، وسألته عن فن اختيار أغلفة الكتب فقال لي هناك ثلاثة خيارات:
‏إن كان المؤلف اسماً مهماً جعلنا اسمه بحرف كبير ويتصدر وجه الغلاف، وإن لم يكن اسماً ضارباً نظرنا في الموضوع، فإن كان لافتاً ومغرياً ركزنا عليه وكبرنا حجمه، فإن لا هذا ولاذاك.. فزي بعضه. 
وفي زمن التدوين المبكر في الثقافة العربية كان سوق المربد في البصرة، وكانت تتصدره الأسماء الكبرى في ذاكرة الثقافة من الجاهليين الذين أصبحوا فحول الثقافة، لدرجة أن الانتحال لا ينجح إلا إذا استخدم اسم شاعرٍ فحل أو شعرٍ عن قبيلة لها ذاكرةٌ مترسخة مثل قبيلة بني عذرة، حيث يروج أي شعر في الحب إذا ما انتسب لعذري، بل أصبحت عبارة الشعر العذري مصطلحاً شعرياً ونقدياً.
وفي زمننا هذا احتلت العلامات التجارية صدارة الانتشار في غلاء الثمن وهيمنة السوق. 
وفكرياً كان الجاحظ يضع أسماء مشاهير على كتبه المبكرة كي تحظى بالقبول بما أن اسمه في البدء لم يكن ذا بال. وهذه صورة لقوة الحرف في توجيه المسارات، والاسم ليس سوى حرف (حروف) منطوق أو مكتوب، ولكنه يتحول لسلطةٍ معنوية وقيمية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة  الملك سعود - الرياض

أخبار ذات صلة د. عبدالله الغذامي يكتب: لسان الثقافة د. عبدالله الغذامي يكتب: الوعي والتجييش

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي

إقرأ أيضاً:

«إرث الخوارج في الفكر الديني المعاصر».. كتاب جديد للدكتور مصطفى الأفقهصي

أصدرت دار كنوز للنشر التوزيع، كتابا بعنوان «أبناءُ ذي الخُويصرة.. إرث الخوارج في الفكر الديني المعاصر»، للدكتور مصطفى الأفقهصي، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.

كتاب «أبناءُ ذي الخُويصرة.. إرث الخوارج في الفكر الديني المعاصر»

ويتضمن كتاب الدكتور مصطفى الأفقهصي، أفكار الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي تنادي بأقوال منحرفة ومذاهب ضالة، باسم الدين وتحت راية الشرع الشريف، وقد حملت في بواطنها منهج أسلافهم من الخوارج، بل فاقوهم وزادوا عليهم، وذلك من خلال توليد فروع باتت أصولاً في هذا العصر، حيث انطلقوا من أصولهم القديمة، ثم انتشروا بأدوات وأفكار أشد خطرًا وأعظم ضررًا.

وربط المؤلف في كتابه، بين فكر تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة وبين فكر الخوارج الأول، مع الإفاضة في بيان السمات المشتركة والأدوات المفترقة، بين خوارج العصر والخوارج الأول.

وتناول أيضًا، أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور الخوارج في هذا العصر، ليميز الخبيث من الطيب عملاً بحديث: يحمل هذا العلم من كل خَلْفٍ عُدُولُهُ يُنفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين».

اقرأ أيضاً«جنون العالم السري للتجسس».. كتاب جديد لـ حنان أبو الضياء عن دار كنوز

قصور الثقافة تحتفل باليوبيل الذهبي لنقابة اتحاد كتاب مصر

فوز الكاتبة والروائية «سلوى بكر» بجائزة البريكس الأدبية في دورتها الأولى لعام 2025

مقالات مشابهة

  • «إرث الخوارج في الفكر الديني المعاصر».. كتاب جديد للدكتور مصطفى الأفقهصي
  • وجبة خفيفة يوميا.. تؤدي إلى قوة الذاكرة لاحقا
  • د.حماد عبدالله يكتب: " ينقصنا إدارة المواهب " !!
  • اختتام فعاليات المنتدى الدولي للحرف اليدوية بسكاكا
  • «فرجان دبي» تحيي التراث بعروض فنية و25 ورشة
  • مصورون عُمانيون يوثقون الذاكرة السياحية والثقافية للوطن
  • انطلاق تصوير فيلم «حين يكتب الحب» بطولة أحمد الفيشاوي وجميلة عوض
  • شجرة الزيتون ووحدة المصير في رسالة البابا ليون الرابع عشر.. تعليق خاص من إمام الجامع الكبير بروما
  • أسما إبراهيم تخطف الأنظار بإطلالة مبهرة
  • وصفي التل رجل بحجم وطن .. ورمز لا يزول من الذاكرة