صحيفة التغيير السودانية:
2025-12-13@00:15:42 GMT

العقل الطفولي والعقل الراشد

تاريخ النشر: 11th, March 2025 GMT

العقل الطفولي والعقل الراشد

 

العقل الطفولي والعقل الراشد
خالد فضل

العقل الراشد، يشكّ في الوقائع والفرضيات شكّا معقولا،  لا يذعن لها كمسلمات . بينما العقل الطفولي، صِدّيق ؛ يتلقى ما يقال له أو يقرأه دون تدبّر، يصدر حكمه بالموافقة أو الرفض وفق العاطفة الوقتية، ويتبنى الفرضيات كمسلمات . إنّه يتبع غيره وليس له استقلالية تتيح له التأمل والتحليل والإستنباط .

يسود في الواقع السوداني العقلان ، ليس بمعيار العمر ولكن بمقياس النضج , فكم من فتى في مقتبل السنوات يزن رشده ويفوق شيخ في أرزل العمر . كم من شيوخ لا يسمعون لنصح الناصحين وإنْ كانوا من ذوي قرباهم فكرا وتنظيم ، فيشعلون الحريق الكبير ليقضي على الناس والبلد غير آبهين . هؤلاء لم يغادروا عقل الطفولة وإنْ وخط الشيب اللحى وأسبغ بياضه على الصدغين.
في سرديات حرب السودان ،  تتضح الهوة بين العقلين،  الراشدون نظروا للمسألة من زاوية تستند إلى الحيثيات، استدركوا التجارب الماثلة وكنز الخبرات التي عاشوها وخبروها في يوميات الحروب التي ما انطفأ لها رصاص منذ الإستقلال . فقالوا إنّ الحرب شرّ مطلق، وطريق مغلق بالضحايا والركام والأنقاض المادية منها والمعنوية . فلا فلاح إلا في وقفها فورا قبل أن تلتهب بوقود جديد كلما مرّ عليها يوم . وهي إلى إتساع مكانا وزمانا واضرارا مبنى ومعنى . أصحاب الألباب الهشّة ،والعقول الطفولية ، افترضوا الفرضيات وصدقوها كنتائج ترقى لحكم المسلمات . لن تستغرق سوى سويعات . ولن تحدث أي خسائر أو أضرار ، فقط ستقضي قضاءا مبرما على حاجة اسمها الدعم السريع ، وسيرتاح البلد من عبء الجنجويد إلى يوم الدين . أ ليس هذا مطلب الثائرين، ونحن لعهدهم من الحافظين . إنها لعبة الإستغماية التي يمارسها الأطفال بمتعة . حسنا، فقد كانوا إذن جاهزين ومعبأين وحاضرين متوشحين بلامة الحرب مشمرين لها بتنضيد السلاح وتمتين السواتر وتقوية أوتاد المواقع وحواجز المدن والبلدات , وفوق هذا تأمين المرافق والمعيات، وتهيئة المشافي و وقود الإسعافات، وغيرها من أوجه الإستعداد ؛ هذه أبجديات أي عمل يقدم عليه الشخص الرشيد، فمن يستزرع الأراضي في نواحي الصعيد البعيد أو مشاريع القضارف والمزموم، يكمل التجهيز قبل النهوض للمشوار البعيد و ذاك عين الرشد . فما بالك بمن يود الخوض في الغمرات، مستبسلا من أجل الزود عن الشعب والوطن، فتلك مهنته التي أختار ولم يك من المجبرين، يوم تدرّج فيها مبتهجا مسرورا تتبعه يوم التخرّج الزغاريد . فلماذا كانت الساعات الست التي قيل إنها كافية للحسم وتأديب المارقين قد تحولت إلى ستة ملايين نازح وهارب من مدينته الخرطوم ؟ أ ليس هذا مجال للتحري والتحقيق وكشف أسباب الغياب لكل مظهر من مؤسسات الدولة التي باسمها يحاربون . ست ساعات ولا حرب ستدوم . هكذا قيل، ولكن تمدد الشظى ليلحق بالآمنين في قراهم مابين النهرين حتى تخوم الدمازين، وليتمدد الإنتهاك الوحشي حتى ملامسة الحدود في الجنينة القصيّة وفرقان كردفان، لتبدأ مسيرة إستعادة الزمام بعد خراب مادي ومعنوي مهول، دون أنْ يسأل العقل الطفولي عن مفهوم البطولة والخيانة،  ومتقابلات الواجب والتقصير، المهنة والراتب، الحضور والغياب . لا وقت للتساؤل فيما يبدو . المهم الكشف عن حجم الإنتهاكات وفظائع الأوباش وفضح المتآمرين والكفلاء الإقليمين، ذاك أدعى لضخ الألاعيب في العقل الطفولي الساذج الذي لا يتوقف للبحث والتنقيب . يسمع ما يقال ويقرأ ما يكتبه الناطقون الرسميون والمخفيون فتمرر فيه الأجندة المكشوفة، يغلفها العقل الطفولي بوهم الخفاء في لعبته المفضلة الاستعماية، لأنّ البصر الحديد يكشف عمّا لا يريد . و رئيس دائرة الإستخبارات الإسرائيلية يستقيل متحملا وزر الفشل في قراءة نوايا حماس واستعدادها لغزوة 7أكتوبر 2023م في خاصرة بلده . ومديرة وحدة حماية المرشحين للرئاسة الأمريكية تستقيل لأنها مسؤولة عن الإخفاق في حماية المرشح ترامب في مهرجان خطابي فيصاب برصاصة . تلك هي مستويات الدولة ومهام أجهزتها،وليس تعقّب المشتبه فيهم متعاونين . أو تصنيف طيف سياسي واسع بأنهم ذراع سياسي للمتمردين، أو استصدار الفتاوى بدك قرى ومدن من يدمغون بأنهم أهالي المليشياويين،نعم إنّهم أهلهم وهل يقطعون معهم الأرحام .
وبتواتر الخراب وشمول الإنتهاكات وتعددها، وتنامي الآثام من قتل وتشريد وبطش وتنكيل وقصف جوي وتدوين وخطف وترويع وجوع ومرض وحصار وبلاء شديد، ما يزال أصحاب العقول الراشدة ينبهون وينوهون ويسعون لهدنة إنسانية ويستحلبون المساعدات ويجتهدو في سبل توصيلها للمحتاجين وعددهم عشرات الملايين، فيما العقل الطفولي العنيد ينسج على منوال غفلته الأقاويل . يفرح مع كيكل مرتين . يغفل تحشيد التنظيم، وهيمنة قادته على المقود به يسيرون إلى الوجهة التي يريدون ومحط النظر وخاتمة الخراب نعيقهم فوق التلة المحترقة أن ها نحن عائدون، والعود أحمد فقد عاد لنا البريق !!

الوسومالعقل الطفولي بطش تشريد خالد فضل قتل كردفان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: بطش تشريد خالد فضل قتل كردفان

إقرأ أيضاً:

الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا

 

خالد بن حمد الرواحي

حين يصبح القياس هدفًا لا وسيلة أمام لوحةٍ إلكترونية مزدحمة بالأرقام والألوان، يقف مديرٌ يراقب مؤشرات خضراء ونسب إنجاز مرتفعة وتقارير أسبوعية محكمة. كل شيء يبدو متقنًا على الشاشة، فتعلو ابتسامة اطمئنان على وجهه. لكن حين يغادر مكتبه إلى الميدان، يكتشف صورةً أخرى: معاملات متأخرة، موظفين مرهقين، ومراجعين ينتظرون أكثر مما ينبغي. هناك فجوة صامتة بين ما تعرضه المؤشرات وما يعيشه الواقع؛ فجوة تختبئ خلف الأرقام وتُخفي الحقيقة بدلًا من أن تكشفها.

لم تكن المشكلة في الأرقام، بل في الطريقة التي صارت تُستخدم بها. فالمؤشرات التي صُمِّمت لتكون بوصلةً للتطوير تحوّلت تدريجيًا إلى غايةٍ في ذاتها. صار همُّ بعض المؤسسات أن ترفع النسب وتُحسّن الرسوم البيانية، لا أن تُصلح المسار أو تُشخِّص الخلل. وهكذا، تزداد الأشرطة الخضراء بينما تتراكم الشكاوى، وتُكتب تقارير النجاح في الوقت الذي يشعر فيه الناس أن شيئًا لم يتغيّر.

وفي أحد الاجتماعات، عُرض تقريرٌ يوضح أن المؤسسة عقدت خلال شهرٍ واحد 42 اجتماعًا مقارنةً بـ18 في الشهر الذي سبقه، فصفّق الحاضرون. لكن السؤال الذي لم يُطرح كان: ماذا تغيّر بعد كل تلك الاجتماعات؟ فزيادة اللقاءات لا تعني زيادة الفهم، وكثرة المؤشرات لا تعني تحسّن الأداء. ما يُقاس غالبًا ليس النتائج، بل النشاط؛ لا الأثر، بل الجهد المبذول.

السبب في هذا الانفصال بين الصورة الرقمية والواقع العملي أننا نقيس ما هو سهل لا ما هو مهم. فعدد الاجتماعات أسهل من قياس جودة القرار، وعدد المعاملات أسهل من فهم تجربة المستفيد. ولأن الأسهل يتغلب على الأهم، تمتلئ التقارير بالأرقام التي يمكن جمعها بسرعة، لكنها لا تشرح شيئًا عمّا يجري حقًا. إنها أرقام بلا روح؛ تصف النشاط بحماس، لكنها تصمت حين يُسأل عن المعنى والغاية.

ومع مرور الوقت، تنشأ حالة من الرضا الزائف، فيظن المسؤول أن الإنجاز متحقق لأن المؤشرات خضراء، بينما يشعر الموظف والمستفيد أن الواقع لا يتحرك. وهنا تكمن أخطر مشكلة: فالفجوة بين الشعور بالنجاح وتحقيقه فعليًا قد تبتلع أعوامًا من الجهد دون نتيجة، لأننا اكتفينا بقراءة الأرقام دون قراءة الحياة داخلها.

الحل لا يحتاج إلى ثورة في الأنظمة، بل إلى مراجعة في الفهم. فالمؤشرات ليست خصمًا، بل أداة حين تُستخدم بحكمة. المطلوب العودة إلى السؤال الجوهري: ماذا نريد أن نفهم؟ هل نبحث عن زيادة الأرقام أم عن تحسين الواقع؟ حين يكون الهدف واضحًا، يصبح القياس تابعًا له لا متقدمًا عليه.

ولعل الخطوة الأولى تبدأ بتقليل الأرقام لا زيادتها. فبدل عشرات المؤشرات التي تشتت الانتباه، يكفي اختيار خمسة مؤشرات تمسّ جوهر الأداء، مثل رضا المستفيد، ووقت إنجاز الخدمة، وجودة القرار، ومستوى التعاون بين فرق العمل. ومع الوقت، يتحوّل القياس من سباقٍ لملء الجداول إلى ممارسةٍ للتعلّم والتحسين، تُحرّر المؤسسة من عبء الشكل وتعيدها إلى روح العمل.

وفي سياق التحول الرقمي الذي تتبناه «رؤية عُمان 2040»، لا تكفي الشاشات الذكية ما لم تُترجم بياناتها إلى قرارات تُحسّن تجربة المواطن وترفع كفاءة الجهاز الإداري. فالرؤية لا تدعو إلى مزيدٍ من المؤشرات بقدر ما تدعو إلى حوكمةٍ أفضل للبيانات وربطها بما يعيشه الناس، حتى يصبح كل رقم خطوةً ملموسة على طريق التغيير، لا مجرد قيمة تُضاف إلى ملف العرض.

في نهاية المطاف، لا تُقاس المؤسسات بعدد الشرائح في العروض، ولا بكثرة المؤشرات التي تتلوّن بالأخضر، بل بما يتغيّر في حياة الناس. فالأرقام قد تمنح شعورًا بالنجاح، لكنها لا تصنع النجاح ذاته إلا إذا رافقها فهمٌ لما وراءها. وحين نضع الواقع قبل الرسم البياني، ونبحث عن الأثر قبل النسبة، يصبح القياس أداةً للتطوير لا غايةً للتزيين. وعندها فقط، تصبح المؤشرات شاهدةً على التقدم لا ستارًا يخفي هشاشة الإنجاز.

 

مقالات مشابهة

  • عاجل| ترامب: الضربات البرية التي تستهدف تهريب المخدرات ستبدأ قريبا
  • مظهر شاهين ينتقد الطلاق الشفهي: أي شريعة تُبهدل المرأة؟
  • رقم كبير.. النجف تكشف كمية الأمطار التي تم تصريفها من شوارع المحافظة
  • عمق الأزمة اليمنية في حضرموت والمهرة
  • أحمد زيور باشا.. الحاكم الذي جمع القوة والعقل والإنسانية
  • رحلة العمر
  • ارتفاع وتيرة العمليات النوعية التي تنفذها أوكرانيا ضد روسيا
  • الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا
  • المشرف على الرواق الأزهري: الاجتهاد فريضة إسلامية والحرية الفكرية منهج علماء هذه الأمة
  • إلهان عمر ترد بتدوينة على انتقادات ترامب اللاذعة