في عمق البنية الثقافية العربية، حيث تتشابك أنساق السلطة مع ميراث طويل من الأبويّة، تتجلى المؤسسة النسوية كإشكالية معقدة، لا باعتبارها صيرورة تحررية فحسب، بل بوصفها موضعًا للصراع بين خطابين متنافرين: خطاب الهيمنة الذكورية، الذي يسعى إلى نفيها أو استيعابها المشروط، وخطاب التحرر النسوي، الذي يواجه وطأة الإقصاء والتشويه.



هذه الثنائية ليست مجرد تجلٍّ عابر لسلطة تستميت في الدفاع عن مركزيتها، بل هي جزء من منظومة أوسع من الاستلاب الثقافي، الذي يحوّل النسوية إلى سردية مضادة، لا بوصفها نقدًا لبُنى التسلط، بل كتهديد يتطلب التفكيك أو الاحتواء.

ما إن تطرح النسوية إشكالاتها داخل الفضاء العربي، حتى تُواجَه بآليات دفاعية تتراوح بين العداء العلني والاستيعاب المُفرغ من المضمون. هنا، تستدعي السلطة الذكورية أدواتها التقليدية: التشويه الأخلاقي، التنميط، والتأطير داخل سرديات جاهزة تُجرّد الخطاب النسوي من جذريته.

إنها عملية تقويض ممنهج، حيث لا يُسمح للخطاب النسوي أن يوجد إلا بوصفه خطابًا مشوّهًا أو مُحتوًى داخل الأطر المسموح بها. وهذا ما يجعل من النسوية، في المخيلة الذكورية العربية، كيانًا خاضعًا للرقابة الدائمة، حيث لا يُسمح لها بأن تتجاوز الحدود المرسومة لها مسبقًا.

في هذا السياق، يُعاد تعريف النسوية داخل النسق الأبوي، بحيث تصبح مقبولة فقط إذا لم تصطدم بالبنى التقليدية، بل عملت ضمن منظومة القيم نفسها، كإصلاحٍ داخلي، لا كتحرر جذري.

وهذه الاستراتيجية ليست مجرد فعلٍ واعٍ من السلطة، بل هي جزء من العنف الرمزي، الذي تحدث عنه بيير بورديو، حيث تُمارَس السيطرة ليس عبر القمع المباشر فقط، بل من خلال تطبيع أنماط التفكير التي تجعل من الهيمنة أمرًا بديهيًا وغير قابل للنقاش.

إن هذا العنف الرمزي هو الأخطر، لأنه يعمل بلا وعي مباشر، مما يسمح للسلطة الذكورية بإعادة إنتاج ذاتها بأشكال أكثر خفاءً، حتى في اللحظات التي يبدو فيها أن النسوية تحقق تقدمًا.

تعتمد المنظومة الذكورية، في تعاملها مع النسوية، على استراتيجيتين متوازيتين:

الأولى: الإقصاء والتشويه، حيث يتم تصوير النسويات بوصفهن كيانات متطرفة، مشوّهة، ومستوردة من “الآخر الغربي”، في تكرار لنمط الاستشراق، حيث يتم إسقاط صورة دخيلة تتناقض مع “أصالة” الثقافة المحلية.

أما الاستراتيجية الثانية، فهي الاستيعاب الناعم، حيث يُعاد تقديم النسوية عبر قوالب مقبولة: المرأة بوصفها جزءًا من “الأسرة”، أو النسوية بوصفها “حقوقًا” لا تمسّ عمق البنية السلطوية، بل تتعايش معها.

وبهذا الشكل، تتحول المطالب النسوية إلى مطالب شكلية، خاضعة لشروط النظام، الذي يفترض أنه يُحدث تغييرًا، بينما هو في الحقيقة يعيد إنتاج نفسه بشكل أكثر مرونة.

إن فداحة الصدام بين النسوية والمنظومة الذكورية لا تكمن فقط في رفض الاعتراف بحقوق النساء، بل في تحويل النسوية ذاتها إلى خطاب هش، مُراقب، مشروط.

فحتى حين يتم السماح بظهور أصوات نسوية، فإنها تُنتقى بعناية، بحيث تتناسب مع ثقل المؤسسة الذكورية، فلا تخلخل استقرارها.

إن ما يحدث هنا هو إنتاج “تعددية زائفة”، حيث يُسمح ببعض التنوع، لكن ضمن حدود لا يمكن تجاوزها. وهكذا، تبدو النسوية وكأنها تحظى بقبول تدريجي، لكنها في الواقع لا تزال خاضعة لمنطق السيطرة، الذي يفرض عليها أن تكون “مقبولة” حتى يُسمح لها بالوجود.

في هذا السياق، تتجلّى النسوية لا كحركة تحرر فحسب، بل كموقع للصراع الدائم، حيث يتم التعامل معها بوصفها كيانًا “زائدًا عن الحاجة”، أو، على الأقل، مشروعًا يمكن تأجيله حتى تحلّ “المشكلات الأكثر أهمية”.

هذا الخطاب الموارب يعكس آلية التأجيل المستمر، حيث يتم ترحيل أي تغيير حقيقي إلى ما لا نهاية، تحت ذرائع الاستقرار والخصوصية الثقافية.

وهكذا، تبقى النسوية أسيرة لحالة من التعليق المستمر: لا هي مُعترف بها بالكامل، ولا هي قادرة على تحقيق قطيعة فعلية مع البنية الأبوية.

إن الخروج من هذه الحلقة المُفرغة يتطلب تفكيكًا جذريًا للسرديات التي تكرّس السلطة الذكورية، لا عبر إعادة إنتاج مطالب إصلاحية داخل النظام، بل عبر زعزعة أسس النظام ذاته.

وكما أشار جاك دريدا، فإن النقد الجذري لا يكتفي بتحليل النص، بل يجب أن يذهب إلى البنية التي تنتجه، ويفكك المسلّمات التي تجعل من الهيمنة واقعًا غير مرئي.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن النسوية، في جوهرها، ليست مجرد مشروع لتحرير النساء، بل هي ممارسة فلسفية تهدف إلى تفكيك الأنظمة السلطوية بأكملها، باعتبار أن قمع النساء ليس منفصلًا عن قمع الفئات الأخرى.

في النهاية، تظل معركة النسوية داخل الفضاء العربي مشدودة بين خطابين:

خطاب الهيمنة، الذي يسعى إلى احتوائها، وخطاب التحرر، الذي يواجه الإقصاء والاستلاب.

إن المهمة اليوم ليست في المطالبة بمكان داخل النظام، بل في إعادة التفكير في إمكانية نظام مختلف، نظام لا يقوم على الامتيازات الذكورية، بل على عدالة جذرية تتجاوز الثنائية التقليدية للسلطة والخضوع.

وكما يقول ميشيل فوكو: “حيث توجد السلطة، يوجد من يقاومها”، والنسوية ليست سوى أحد أكثر أشكال هذه المقاومة إصرارًا، لأنها لا تسعى فقط إلى مواجهة التراتبية، بل إلى كشف زيفها من الأساس.

السؤال ليس: هل ستنتصر النسوية أم لا؟ بل: كيف يمكنها أن تواصل هدم السرديات التي تكرّس هشاشتها المصطنعة، لتصبح ليس مجرد خطاب مقاومة، بل مشروعًا لتحرير المجتمع بأسره من فداحة الهيمنة؟

zoolsaay@yahoo.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: حیث یتم خطاب ا

إقرأ أيضاً:

خطاب منتظر للدالاي لاما قد يثير غضب الصين

من المنتظر أن يلقي الزعيم الروحي للتبت، الدالاي لاما، خطابا خلال أيام بحلول عيد ميلاده الـ90 أمام تجمع كبير من رجال دين بوذيين، في وقت ينتظر فيه أتباعه الإعلان عمن سيخلفه، في خطوة قد تثير غضب الصين.

وسيبلغ الدالاي لاما الـ14 سن الـ90 يوم الأحد المقبل، وقال من قبل إنه سيتشاور مع كبار الرهبان البوذيين وآخرين في ذلك التوقيت للإفصاح عن مؤشرات محتملة عمن سيخلفه بعد وفاته.

وتعتبر بكين الدالاي لاما، الذي غادر التبت في 1959 بعد فشل انتفاضة على حكم الصين، انفصاليا وتقول إنها هي من ستختار من سيخلفه. وقال الدالاي لاما إن خليفته سيكون شخصا ولد خارج الصين وحث أتباعه على رفض أي شخصية تختارها بكين.

وقال الدالاي لاما لحشد من أتباعه اليوم الاثنين وهم يدعون له بطول العمر "ما تبقى من حياتي سأهبه لنفع الآخرين قدر المستطاع". مضيفا أنه "سيكون هناك نوع من إطار العمل الذي يمكننا أن نتحدث عنه بشأن استمرارية مؤسسة الدالاي لاما"، دون أن يذكر المزيد من التفاصيل.

وقالت الصين في مارس/ آذار إن الدالاي لاما في منفى سياسي "ولا يحق له تمثيل شعب التبت بأي شكل". وأضافت أنها منفتحة على مناقشة مستقبله إذا اعترف بأن التبت وتايوان جزآن من الصين وهو أمر رفضته حكومة التبت في المنفى.

إعلان الدالاي لاما عن اختيار خليفة له من خارج الصين قد يثير غضب بكين (الفرنسية-أرشيف) التبت والدالاي لاما

والدالاي لاما هو لقب معناه "المعلم الروحي ذو الحكمة العميقة كالمحيط"، أما اسم الدالاي لاما الـ14 فهو تينزن غياتسو المولود في السادس من يوليو/تموز 1935، ويعيش حاليا في المنفى في مدينة دهارماسالا، شمال الهند منذ عام 1959.

وكانت التبت منطقة ودولة سابقة في آسيا الوسطى وموطن الشعب التبتي حتى 7 أكتوبر/تشرين الأول 1950 بعد انتصار الجيش الصيني على الجيش التبتي وضم التبت إلى الإدارة الصينية، وبعد انتفاضة شعبية على الحكم الصيني تم نفي الدالاي لاما إلى الهند حيث أسس حكومة في المنفى تقول بحقها في السيادة على التبت بحدود تطلق عليها "التبت التاريخية".

إعلان

ويتم اختيار الدلاي لاما في عملية روحية قد تستغرق عدة سنوات، تبدأ بعد وفاة الدالاي لاما حيث يُعتقد أنه سيعاد تجسيده في طفل جديد، ويتم إرسال فرق من الرهبان إلى أنحاء التبت للبحث عنه وفق اختبارات روحية، وبعد التأكد من هوية الطفل يعلن رسميا أنه الدالاي لاما الجديد وينقل إلى دير خاص حيث يتم تعيين أحد كبار الرهبان للإشراف عليه وتدريبه وتولي مسؤولية الشؤون الدينية والتعليمية.

وحاليا هناك توتر سياسي حول هذه العملية، خاصة بسبب تدخل الحكومة الصينية ومحاولتها فرض مرشحها الخاص، حيث ترى أن تعيين خليفة للدالاي لاما خارج سيطرتها أمر يهدد شرعيتها في إقليم التبت الذي باتت تعتبره جزءا لا يتجزأ من أراضيها منذ ضمه إليها.

مقالات مشابهة

  • وفاة أحد أفراد خلية شمهروش داخل سجن العرائش
  • الظل النووي لإسرائيل: مفارقة الهيمنة في مواجهة إيران
  • قلق أممي إزاء أوامر إسرائيلية بالإخلاء القسري شمالي غزة
  • محمد الموجي.. مهندس الألحان الذي غيّر وجه الموسيقى العربية
  • نازحو إب في مخيم العرق الشرقي بمأرب يطالبون بسرعة إنقاذهم من التهجير القسري
  • صحيفة بريطانية: “إسرائيل” تصعّد وتيرة التهجير القسري في غزة
  • من ذكرى 30 يونيو.. السيسي يحذر من فرض السلام بالقصف والتطبيع القسري
  • غزة وتشكيل لوبي عربي في سلم أولويات مؤتمر الجاليات العربية بلندن
  • خطاب منتظر للدالاي لاما قد يثير غضب الصين
  • الجيوبولتكس: من نظريات قلب الأرض إلى مبادرات الحزام والطريق وصراعات الهيمنة