حديثي هنا ما زال عن بعض ما عشته في مطرح بين نهايات الستينات وبدايات السبعينات من القرن الماضي .. واليوم أحاول تذكر بعض المشاهد من سوق مطرح العريق الذي ما زال قبلة المرتادين والسياح. فالتراكم التاريخي واضح في تفاصيله المعمارية، وهي كثيرة، ويجمع مبدأ الأصالة والمعاصرة بشكل واضح نتيجة الحذف والإضافات.
بمقياس وقته كان سوق مطرح يحوي عجائب البلاد، وما يرد من خارجها.
إيقاع الحياة فيه نابض لا ينضب.. روائحه تملأ الصدر والأنف، وربما حتى الآذان والعيون. لكل جزء منه رائحة خاصة، ولكل الأجزاء مجتمعة رائحة مميزة يعرفها من عرفوا مطرح من الداخل.
إنه مجموعة أسواق في سوق، بعضها متداخلة، وأخرى جانبية تكاد تنفصل تماما عن قلب السوق. مثل سوق السمك القريب من الميناء حاليا. تملأ ساحله الصغير أعداد كبيرة من الهواري التي تمد البلاد من الفجر بالأسماك والكائنات البحرية. حتى القطط هنا تبدو أسمن من غيرها. ومن هنا نشتري قوالب البَرَف (الثلج). سفينة (عطية الرحمن) الأنيقة من نوع الغنجة ظلت سنوات منكبة على وجهها، نصفها الأمامي في الماء والآخر بين الماء والساحل، تحكي قصة مؤسفة لنهايتها غير السعيدة .. ومقابل الساحل فندق (خليل جست هاوس) المميز بعمارته، هو اليوم مطعم سياحي استوحي بناؤه من المبنى القديم.
وسوق المواشي والأعلاف القريب من محطة وقود السيارات التي تبيع أيضا الحل تراب (كيروسين) وقودا للطبخ.
القوافل القادمة من الداخل تمد السوق، والمراكب المحلية وعابرة القارات حتى الشراعية تنزل أحمالها في الفرضة القديمة رغم صغر مساحتها.. ميناء السلطان قابوس، كان عجيبة من العجائب التي بدأت تطرحها النهضة. فلم نعتد على مشاهدة معدات بهذه الأحجام، ولا انفجارات بهذا الدوي، فقد كان من الضروري تكسير جزء من الجبال لمد الأرصفة البحرية، فاستخدم الديناميت لتحطيم الصعاب.. كلمة ديناميت حديثة على الألسن، وتفسيرها يخضع لفهم كل شخص . لا تعريف مشتركا سوى قدرته على التدمير، أما هزاته فكانت أقوى من أن تتحملها بعض المباني المتواضعة، فقد شكا البعض من أن مساكنهم بدأت تتصدع وتظهر التشققات على جدرانها، وفي حديث (الرمسة) قال واحد ممن تلقوا قسطا من التعليم: (هذا بو خترع الديناميت تلّوم على اختراعه ووصى بكل ورثه كفارة عن ذنبه لأنه ممكن يقتلوا به خلق الله) .. رد عليه الشايب: (كان دواه يقتل بالدلميت، دام انه الجبال يتشطفن منه كيف بن آدم) .. رد ثالث معتدل: (ما كله شر .. لو ما هوه هذا الدنميت بنموت وبعدنا ما شايفين مينا قابوص) كان البعض ينطق قابوس بالصاد جهلا أو لهجة.. أما ظهور الصوامع في الميناء فذلك حديث آخر .. قال أحدهم متعجبا من حجمها: (شوف كبرهن!! الساعة ما التانكي اللي فبيتنا) .. مع بدء عمل الميناء بدأنا نرى الشاحنات تخرج من الميناء محملة بالأسمنت، وبدأت معه تزيد وتكبر المباني الأسمنتية، أكياس الأسمنت الفارغة لا ترمى، ففي وسط السوق يجلس رجل أو أسرة لعمل الأكياس الاستهلاكية منها؛ فلم نكن قد عرفنا بعد أكياس التسوق .. آنية بها طحين ممزوج بالماء، يقطّع كيس الإسمنت الفارغ بعد أن ينفض عنه البقايا إلى مستطيل طويل ثم يثنيه ليصبح مستطيلات أصغر ربما بعرض ثلاثين وطول خمسين سنتمترا - هكذا أقدره - فيتناول غَرفة بحجم لقمة من ذلك الطحين ويمرره على جانبين منه للصقهما ويترك الجانب الأعلى مفتوحا، هكذا يَصنع الكيس تلو الآخر ويصفّها فوق بعضها، ثم يأخذ كل عشرة أكياس يربطها مجتمعة بالسوتلي (خيط أبيض أغلظ من خيوط الخياطة)، ويسوِّق لبضاعته: ربطة الكرعان بمية بيسة (كراع= كيس).
تتوزع بين جنبات السوق العديد من التخصصات التي لا أحسن تصنيفها بدقة. فسوق أو سكة الظلام زقاق ضيق تنيره البضائع التي تملأ جانبيه وألوان الأقمشة والزتات (مكملات الخياطة النسائية) والعطور، والكثير من الاحتياجات المنزلية، ظهرت فيه صيدلية لا تتجاوزها العين تبيع بالإضافة للأدوية (ماي صحة) أي الماء الذي نشربه اليوم في قناني، لأن الأطباء ينصحون به عند مزج أدوية الباودر. أما الامتداد الشرقي لسكة الظلام فأكثر تخصصا في الأواني المعدنية، وظهرت فيه مكتبة قرطاسيات حديثة. ولهذا الشارع امتدادات وتفرعات منها للبحر وأخرى تنتهي بالشريشة التي تعد علامة للالتقاء عندها.
للبانيان حضور مألوف جدا.. هم هنود أقاموا في عمان منذ زمن بعيد، وبعضهم اليوم يحملون الجنسية العمانية، ومن أبرز التجار.
كنت أجلس مع والدي الذي يكلفني ببعض المهمات على قدر عمري آنذاك في دكانه الصغير بعد أن ترك الخياطة .. أبيع وأشتري وأذهب لتجار الجملة لطلب بعض البضائع التي يجب أن يوفى بعض أو كل حقها كل يوم سبت وهو أمر متعارف عليه.
بين الشجيعية ومستشفى طومس (الرحمة) المكان أكثر اتساعا، والمحلات أحدث بناء وبضاعة، يبرز فيها البنك البريطاني للشرق الأوسط. وسوق طالب، أو بيت طالب. الذي يعد من عجائب مطرح، وقد لا أبالغ إن اعتبرته أول مجمع تجاري (Mall) ظهر في عمان. ويبقى هو والمستشفى والدروازة من المشاهد التي تبقى في ذاكرة الزوار القادمين من الولايات، ليتحدثوا عنه بعد عودتهم لبلدانهم.. هنا سجل (استديو أمير) إضافة مهمة في مجاله، بجانب مصور شمسي آسيوي يدعى حيدر يغطي رأسه والكاميرا عند التقاط الصور الشمسية، قبل انتشار استديوهات التصوير وتحميض الأفلام ذات ال24 أو 36 صورة. والفتح الآخر بكاميرات البولو رويد الفورية.. تضع الاستديوهات أكسسوارات للتصوير، مثل هاتف معطل أو مزهرية، أو كرفتة ونصف بدلة، ودشداشة وعمامة وعقال، وأمشاط، أما الخلفية فلا بد أن تكون لمنظر طبيعي من الهند أو الصين أو تاج محل وما شابه. هنا حظيت بصورة أنيقة ولكن بملابسي الشخصية وليس استعارة.
وعند مركز الشرطة ظهرت (مكتبة أيمن) التي أسسها والد الزميل والمخرج الراحل (أنيس الحبيب) كمكتبة حديثة، وانتشرت معها أو بعدها المكتبات، لنقتني كتبا تختلف تماما عن تلك التقليدية ذات الغلاف السميك والزخارف العربية والإسلامية. ونعرف الفرق بين جريدة ومجلة. وستتعب المراهقين بعض المجلات الرومانسية التي تشبه المسلسلات من ذوات مئات الحلقات اليوم ليحفظ المراهق تفاصيل قصصها، وقد تسعفه عبارة رومانسية سيستخدمها في الوقت المناسب، أو مجلة (الشبكة) التي قد يشتريها فقط ليحظى بصورة الغلاف التي سيخفيها أو يعلقها في غرفته أو بين دفاتره الممتلئة بالقلوب المجروحة وسهامها التي تقطر دما، وتلك المتخصصة في الحياة الجنسية. بينما سيبتهج آخرون بالمجلات والصحف السياسية والثقافية والدينية والفنية والرياضية ومجلات الأطفال والدوريات الشهيرة، وبدأت أنا لاحقا في جمع مجلة (العربي) الكويتية لأتجاوز مائة عدد؛ سيجرفها الإعصار جونو.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
وسط ركام بيوتهم المهدمة.. الإيرانيون يحصون خسائرهم بعد وقف إطلاق النار
مع دخول وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل يومه الثالث، بدأت تتكشف فداحة الخسائر التي تكبّدتها طهران، بعد حرب دامت اثني عشر يومًا وأودت بحياة المئات، مخلّفة دمارًا واسعًا طال الأبنية السكنية والمستشفيات والبنى التحتية. اعلان
اعتبارًا من الخميس، سُمح لوسائل الإعلام الأجنبية بتوثيق آثار الهجمات الإسرائيلية التي طالت العاصمة ومناطق أخرى.
مشاهد الدمار في طهران تُظهر حجم الأضرار التي خلّفتها الحرب: جدران متصدعة، نوافذ محطمة، فيما الأثاث متناثر وسط الغبار والأنقاض. حيث تعرضت المباني السكنية في عدد من الأحياء لأضرار جزئية، بينما تهدمت منازل عديدة بشكل كلي.
بيزمان خزاعي، أحد سكان المدينة، تحدّث بأسى فقال: "حين تنظر إلى المشهد الآن، تدرك أن كل ما بنيته في حياتك قد تلاشى... التقيت الجيران أمس لنحاول معًا استرجاع ذكرياتنا. الأمر مؤلم للغاية بالنسبة لنا".
وأضاف خزاعي: "لقد خفت حدة التوتر الآن إلى حد ما. نأمل أن يبقى الوضع على هذا النحو وألا يتأذى أحد مرة أخرى".
في حصيلة أولية للحرب، أعلنت السلطات الإيرانية مقتل 627 شخصًا وإصابة ما يقرب من 5000 آخرين، جميعهم من المدنيين.
ووفق المتحدث باسم وزارة الصحة حسين كرمان بور: "خلال الأيام الـ12 الأخيرة، عمت المستشفيات مشاهد مروّعة جدًا".
وأشارت الوزارة إلى تضرر سبعة مستشفيات وتسع سيارات إسعاف نتيجة الضربات الإسرائيلية، ما فاقم الضغط على النظام الصحي الذي واجه أزمة طارئة غير مسبوقة.
وقد فقدت طهران أيضَا عددًا من أبرز قادتها العسكريين منذ الساعات الأولى للهجوم، بينهم رئيس الأركان وقائد الحرس الثوري. كما طالت الضربات شخصيات علمية بارزة في مجال الطاقة النووية.
وتزامن ذلك مع أضرار جسيمة لحقت بالبنية التحتية وشلل واسع في قطاع الاقتصاد، مع صعوبة في إمكانية تقدير الخسائر المالية الكاملة حتى الآن.
Relatedترامب من قمة الناتو: قد نتحدث مع إيران الأسبوع المقبل وبوتين صعب ويجب على إسبانيا أن تعوضنا بالتجارةواشنطن تخفف الخناق عن النفط الإيراني.. لإغراء الصين بشراء الخام الأمريكي البرلمان الإيراني يمهّد لقطع التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية واشنطن: هدنة.. ولكن إلى أين؟رغم توقف القصف، لا تزال الولايات المتحدة تسعى إلى تثبيت نتائج الهدنة. وأوضح مبعوث واشنطن إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في حديث إلى قناة "فوكس نيوز"، أن المباحثات مع إيران تبدو "واعدة".
وأشار إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "يتطلع إلى اتفاق سلام شامل يتجاوز وقف إطلاق النار"، مضيفًا أن "ترامب أكد بوضوح تام أنه يرغب برؤية اتفاق نهائي مع إيران، وهو يأمل في ذلك".
ومع انكشاف مشاهد الدمار في طهران، يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت الهدنة الحالية تمهد فعلًا لبداية جديدة أم تؤجل جولة صراع أخرى.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة