سامح قاسم يكتب: ماركيز.. ذاكرة من الحكايات لا تموت
تاريخ النشر: 17th, March 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق غابرييل غارسيا ماركيز
يعد غابرييل غارسيا ماركيز واحدًا من أبرز الروائيين فى التاريخ الأدبي، حيث استطاع أن يؤسس أسلوبًا سرديًا متفردًا عُرف لاحقًا بالواقعية السحرية، وهو أسلوب يجمع بين العناصر الواقعية والخيالية فى نسيج روائى متماسك. فى "ماركيز.. لن أموت..حكايات كتبه "، لا يروى الكاتب مجرد حكايات، بل يقدم تأملاته حول الأدب، الكتابة، والقراءة، مما يجعل هذا الكتاب أقرب إلى شهادة أدبية شخصية منه إلى مجرد مجموعة من القصص.
يتناول الكتاب العلاقة العميقة التى تربط ماركيز بالكتب التى قرأها وكتبها، حيث يعيد النظر فى تأثيرات طفولته، وأعمال الأدباء الذين شكلوا وعيه السردي، واللحظات التى دفعته إلى الكتابة. وهو بذلك ليس مجرد مجموعة من الذكريات، بل محاولة لفهم كيف تتشكل الأفكار الأدبية، وكيف يمكن للحياة أن تتحول إلى نصوص تتجاوز الزمن والمكان.
تكمن أهمية هذا الكتاب فى أنه يعكس روح ماركيز الأدبية والفكرية، فهو ليس مجرد تأملات فى أعماله، بل هو بمثابة حوار مفتوح بينه وبين القارئ حول ماهية الكتابة وفن الحكي.
يأتى هذا العمل بعد عقود من الإبداع الروائى والقصصي، حيث كان ماركيز قد نشر بالفعل رواياته الأيقونية مثل "مئة عام من العزلة" و"الحب فى زمن الكوليرا" و"خريف البطريرك"، وهى الأعمال التى أرست مكانته كواحد من أعظم كتاب القرن العشرين. وبالتالي، فإن هذا الكتاب يمثل وثيقة، ليس فقط عن الكتابة، بل عن القراءة كفعل مؤسس للهوية الأدبية.
يمكن اعتبار الكتاب عملًا يجمع بين السيرة الذاتية والتاريخ الأدبي، حيث نجد ماركيز يتحدث عن كتبه بصفته قارئًا قبل أن يكون مؤلفًا. فهو لا يستعيد فقط أجواء النصوص التى كتبها، بل يعيد رسم خريطة التأثيرات التى صنعت عالمه. ومن هنا، فإن الكتاب يشكل مفتاحًا مهمًا لفهم كيف تشكلت رؤيته الأدبية، وكيف تحولت قراءاته إلى مواد خام لصياغة قصصه وأبطاله وعوالمه.
عند قراءة هذا العمل، نلمس كيف أن الكتب التى تأثر بها ماركيز لم تكن مجرد مصادر إلهام، بل كانت تشكل جزءًا من نسيج وعيه الأدبي. فهو يستعيد لقاءاته الأولى بالأدب العالمى واللاتيني، ويكشف عن الكتب التى دفعته إلى الكتابة، وكذلك عن النصوص التى جعلته يشكك فى قدراته أحيانًا أو يعيد التفكير فى أسلوبه.
يكشف ماركيز فى هذا الكتاب كيف أن كل تجربة عاشها كانت مادة أولية لرواياته. طفولته، تنقلاته بين المدن، عمله فى الصحافة، وحتى علاقاته الشخصية، كلها وجدت طريقها إلى أعماله.
فى الكتاب يتحدث الكاتب عن أصول بعض شخصياته الشهيرة مثل العقيد أورليانو بوينديا من "مئة عام من العزلة"، وفلورنتينو أريثا من "الحب فى زمن الكوليرا". يستعيد ماركيز فى هذه الحكايات الظروف التى ألهمته لخلق هذه الشخصيات، والتجارب الحياتية التى شكلت ملامحها النفسية والاجتماعية.
يبرز ماركيز أيضًا شخصياته النسائية بقوة، حيث تتجلى صورة المرأة كعنصر حاسم فى سرده، سواء من خلال الشخصيات الأسطورية مثل أورسولا بوينديا، أو الشخصيات التى تجمع بين الحسية والغموض مثل فيرمينا داثا. إن حضور النساء فى كتابات ماركيز يتعدى كونه مجرد عنصر سردي، بل يشكل محورًا أساسيًا فى بناء الحبكة والتوتر الدرامي.
من بين أهم ملامح أسلوب ماركيز السردى هو بناءه لعوالم خيالية تبدو واقعية للغاية، وعلى رأسها "ماكوندو"، التى أصبحت رمزًا أدبيًا للواقعية السحرية. فى الكتاب، يعود الكاتب إلى هذه المدينة المتخيلة، لكنه هذه المرة يكشف عن أصولها الحقيقية، وكيف استوحاها من بلدته الأصلية أراكاتاكا.
لكن فضاءات ماركيز لا تقتصر على ماكوندو، إذ تمتد لتشمل أماكن متعددة مثل البحر الكاريبي، والقرى النائية، والمدن اللاتينية التى تحمل بين جدرانها قصصًا غارقة فى الحنين والألم. إن تداخل هذه الفضاءات يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال، وهى سمة جوهرية فى أعماله.
يحتل الحب مكانة بارزة فى سرديات ماركيز، لكنه لا يقدم الحب فى صورته التقليدية، بل يعكسه كقوة متشابكة بالحنين والفقد. فى "حكايات كتبه ماركيز"، نرى كيف يتموضع الحب فى عالم ماركيز، حيث يصبح مرتبطًا بتقلبات الزمن والمصائر المتشابكة لشخصياته. فهو حب لا يسير وفق منطق مستقيم، بل هو حب يتغذى على الذاكرة، ويعيش فى أروقة الحنين أكثر مما يعيش فى الواقع.
يتجلى هذا الأمر فى طريقة استعادته لعلاقاته العاطفية الأولى، وكيف أن تلك العلاقات لم تكن مجرد تجارب عابرة، بل شكلت جزءًا جوهريًا من نظرته للحياة والإنسان. ويعكس ماركيز ذلك عبر شخصياته التى تجد فى الحب خلاصها، ولكنها تدرك أيضًا أنه محفوف بالفقدان والانتظار.
الموت أيضا فى أعمال ماركيز ليس مجرد نهاية، بل هو بوابة لعبور آخر، مرحلة جديدة تفتح على احتمالات غير متوقعة. فى "حكايات كتبه"، يعيد الكاتب تأملاته حول الموت، مستعيدًا بعض اللحظات التى واجه فيها الفقد، سواء عبر رحيل شخصيات حقيقية فى حياته أو عبر قصص شكلت رؤيته للعالم.
يقدم لنا ماركيز الموت كجزء لا ينفصل عن الحياة، لكنه فى الوقت ذاته يرفض النظر إليه كحقيقة مطلقة. ففى حكاياته، يظل الأموات حاضرون، يتحدثون، يبعثون من جديد عبر الذكريات، ويتركون أثرًا لا يزول.
من أبرز سمات الواقعية السحرية فى "حكايات ماركيز" هو تصوير الأماكن وكأنها كائنات حية تتنفس وتؤثر فى الأحداث. مدينة "ماكوندو"، التى أصبحت رمزًا أدبيًا عالميًا، ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هى عنصر روائى فاعل يؤثر فى مصائر الشخصيات، ويتغير ويتحول مع الزمن وكأنه يمتلك إرادة مستقلة.
فى الواقعية السحرية، لا يُنظر إلى الموت كنهاية مطلقة، بل كجزء من دورة أزلية تربط بين الأحياء والأموات. فى "حكايات كتبه ماركيز"، نجد العديد من الشخصيات التى تعيش بعد موتها، حيث يظل الأموات يتحدثون، ويعودون للظهور فى الأحلام والذكريات، بل وأحيانًا يشاركون فى صناعة الأحداث كأنهم لم يغادروا العالم أبدًا.
هذه النظرة تعكس المعتقدات الشعبية فى أمريكا اللاتينية، حيث يُنظر إلى الموت كامتداد للحياة وليس كنهاية لها، وهى رؤية تتكرر فى أعمال ماركيز، مما يمنحها طابعًا غرائبيًا لكنه متجذر فى الثقافة المحلية.
يحتل فعل القراءة مكانة مركزية فى حياة غابرييل غارسيا ماركيز، حيث شكلت المكتبة التى نشأ حولها الأساس الذى بنى عليه عالمه السردي. فى الكتاب"، يستعيد الكاتب رحلته مع الكتب، كاشفًا عن الأعمال التى أثرت فى رؤيته الأدبية، وكيف أن القراءة كانت بالنسبة له ليست مجرد وسيلة للمعرفة، بل أداة لاستكشاف العالم وإعادة تشكيله عبر الكتابة.
منذ طفولته، كان ماركيز يلتهم الكتب بشغف، وكان لكل مرحلة من حياته مجموعة من الأعمال التى صاغت خياله. فمن الروايات اللاتينية الكلاسيكية إلى الأدب الأوروبى والآسيوي، نجد أن ماركيز تأثر بمرويات مختلفة، مما منحه طابعًا سرديًا فريدًا يمزج بين المحلى والعالمي.
كانت "دون كيخوتي" واحدة من أولى الروايات التى قرأها ماركيز، وقد شكلت فهمه للعلاقة بين الخيال والواقع، حيث كان مفتونًا بالطريقة التى يمزج بها ثيربانتس بين الحلم والسخرية. نجد فى "حكايات كتبه ماركيز" إشارات عديدة إلى هذه الرواية، حيث يستعيد بعض شخصياتها، بل ويوظف أسلوبها فى خلق شخصيات تبدو كما لو أنها تحيا بين الواقع والوهم.
من بين أكثر الكتّاب تأثيرًا فى ماركيز كان ويليام فوكنر، خصوصًا من خلال روايات مثل "الصخب والعنف" و"حين أرقد محتضرًا". لقد ساعده أسلوب فوكنر فى فهم كيفية تفكيك الزمن داخل النص السردي، وكيفية خلق شخصيات تمتلك حكايات متداخلة تتجاوز الزمن التقليدي. فى "حكايات كتبه ماركيز"، يعترف ماركيز بهذا التأثير العميق، حيث يرى أن فوكنر لم يكن مجرد كاتب أمريكي، بل كان كاتبًا عالميًا استطاع أن يخلق عوالم شبيهة بقرى أمريكا اللاتينية.
من خلال قراءاته لفرجينيا وولف وجيمس جويس، اكتشف ماركيز مفهوم تدفق الوعي، حيث يمكن للشخصية أن تعبر عن أفكارها الداخلية بطريقة متواصلة دون الحاجة إلى تدخل الراوي. فى "حكايات كتبه ماركيز"، نرى كيف أن هذا الأسلوب ظهر فى بعض أعماله، خصوصًا فى تصويره لشخصيات تعيش داخل عالمها الذهني، كما نجد فى "الحب فى زمن الكوليرا".
أحد أهم الاكتشافات الأدبية لماركيز كان فرانز كافكا، الذى فتح أمامه بابًا جديدًا لفهم كيف يمكن للسرد الواقعى أن يصبح سحريًا دون الحاجة إلى كائنات خارقة. يروى ماركيز كيف أنه عندما قرأ "المسخ" لأول مرة، أدرك أن الأدب ليس بحاجة إلى الالتزام بالقواعد التقليدية، بل يمكنه أن يكون انعكاسًا للغرابة الكامنة فى الحياة اليومية.
يمكن النظر إلى "ماركيز.. لن أموت.. حكايات كتبه " بوصفه شهادة أخيرة على عالم أدبى متكامل بناه ماركيز عبر عقود من الكتابة. فهو ليس مجرد كتاب يجمع حكايات متفرقة، بل هو تأمل فى ماهية الأدب، والكتابة، والحياة، والذكريات التى صنعت كاتبًا بحجم ماركيز.
يأخذ الكتاب طابع الوصية الأدبية، حيث يستعرض ماركيز رحلته مع الكتابة، لكنه لا يقدم نفسه كنموذج للمثالية، بل يعترف بالتجارب التى مر بها، بالأخطاء، باللحظات التى شعر فيها بالشك، وبالكتب التى غيرت حياته. ومن هنا، يكتسب العمل أهمية مزدوجة؛ فهو من جهة تأريخ لمسيرته الأدبية، ومن جهة أخرى درس فى كيفية بناء عالم روائى متكامل.
يهيمن على الكتاب إحساس قوى بالزمن، حيث يستعيد ماركيز لحظات من طفولته، ويقارنها بما أصبح عليه ككاتب عالمي. هذه الاستعادات لا تأتى على شكل نوستالجيا فارغة، بل تبدو وكأنها محاولات لفهم كيف تشكل وعيه الأدبي، وكيف تحولت الأحداث اليومية الصغيرة إلى مواد خام لصنع الحكايات.
فى هذا السياق، يتحدث ماركيز عن الزمن لا بوصفه مجرد تعاقب للأيام، بل بوصفه كيانًا عضويًا يعيد إنتاج نفسه بطرق مختلفة. هذا المفهوم للزمن نجده فى أغلب أعماله، حيث لا يوجد خط فاصل بين الماضى والحاضر، بل تداخل مستمر يعيد صياغة التجربة الإنسانية من جديد.
فى هذا الكتاب، يقدم ماركيز تأملات غنية حول فعل الكتابة، موضحًا أنها ليست مجرد مهنة، بل أسلوب حياة. يتحدث عن الكتابة بوصفها عملية مستمرة من الاستكشاف، حيث لا يكون الكاتب متأكدًا تمامًا مما يفعله، بل يكتشف القصة أثناء كتابتها.
كما يشير إلى أن الكتابة تتطلب الصبر، وأن الأفكار العظيمة لا تأتى دفعة واحدة، بل هى حصيلة سنوات من التفكير والتجربة. هذا المنظور يجعل الكتاب ليس فقط عملًا سرديًا، بل أيضًا دليلًا لكل من يرغب فى فهم طبيعة الإبداع الأدبي.
يرى بعض النقاد أن الكتاب يحمل طابع الرسالة المفتوحة إلى الأجيال القادمة من الكتّاب. فهو لا يقدم وصفات جاهزة للنجاح، لكنه يكشف عن طبيعة الرحلة الأدبية، وعن المتعة والتحديات التى تصاحبها. هذه الرسالة تتجاوز حدود السيرة الذاتية لتصبح تأملًا عامًا حول علاقة الإنسان بالحكاية، وحول قدرة السرد على منح الحياة معنى أعمق.
من خلال هذا الكتاب، يترك ماركيز وراءه إرثًا فكريًا وسرديًا يمكن للقراء والكتّاب الجدد أن يعودوا إليه لفهم جوهر الكتابة والإبداع. إنه عمل يثبت أن الحكاية لا تموت أبدًا، بل تعيش طالما هناك من يعيد سردها، ويمنحها حياة جديدة مع كل قراءة جديدة
يعد "حكايات كتبه " أكثر من مجرد كتاب يحكى عن تجربة شخصية؛ إنه شهادة أدبية عميقة تعكس رحلة إبداعية امتدت لعقود، وهى رحلة لم تكن مجرد تراكم للحكايات، بل كانت تجربة متكاملة أعادت تعريف السرد الروائي. لقد كشف ماركيز فى هذا العمل عن العلاقة الحميمة بين الكاتب والنص، وبين الحياة والفن، حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
من خلال هذا الكتاب، نجح ماركيز فى إضفاء بعد فلسفى على مفهوم الكتابة، حيث بدت الحكايات وكأنها امتداد للوجود الإنساني، لا مجرد كلمات على الورق. يتحدث ماركيز عن تجربته الأدبية بشفافية، لكنه فى ذات الوقت يترك للقارئ مساحة للتأمل فى كيف يمكن للحياة أن تصبح أدبًا، وكيف يمكن للأدب أن يمنح الحياة بعدًا جديدًا.
لقد استطاع ماركيز عبر هذا النص أن يخلق حوارًا ممتدًا مع القرّاء، حيث جعل من "حكايات كتبه" ليست مجرد حكايات منعزلة، بل أجزاء متصلة من مشروعه الأدبي، مما يجعلها ضرورة لفهم أعماله الأخرى. فمن خلال سرده للحكايات، وتأملاته فى الكتابة، واسترجاعه لعوالمه الروائية، يفتح أمامنا نافذة نادرة إلى العقل المبدع الذى رسم لنا ماكوندو، وصاغ لنا شخصيات لن تُنسى.
تكمن أهمية هذا الكتاب فى أنه لا يقدم أجوبة نهائية، بل يثير أسئلة عميقة حول الإبداع والهوية والذاكرة. هل الكتابة مجرد محاولة لمقاومة النسيان؟ هل الحكايات التى نحكيها تعيد تشكيل واقعنا؟ وهل يمكن للأدب أن يكون بمثابة ذاكرة جمعية تحفظ التجارب الإنسانية للأجيال القادمة؟
فى نهاية المطاف، يبقى "ماركيز.. لن أموت.. حكايات كتبه " نصًا استثنائيًا، لا لأنه فقط يكشف لنا أسرار ماركيز ككاتب، ولكن لأنه أيضًا يفتح أمامنا أبوابًا جديدة لفهم علاقتنا بالقراءة والكتابة. إنه عمل يحمل فى طياته روح ماركيز، تلك الروح التى جعلت من الكلمات عالمًا ينبض بالحياة، ومن الحكايات ذاكرة لا تموت.
من أبرز سمات الواقعية السحرية فى «حكايات ماركيز» هو تصوير الأماكن وكأنها كائنات حية تتنفس وتؤثر فى الأحداث مدينة «ماكوندو» التى أصبحت رمزًا أدبيًا عالميًا، ليست مجرد خلفية للأحداث بل هى عنصر روائى فاعل يؤثر فى مصائر الشخصيات ويتغير ويتحول مع الزمن وكأنه يمتلك إرادة مستقلة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: ماركيز التاريخ الأدبي الروائيين الكتب الواقعیة السحریة الکتب التى هذا الکتاب لیست مجرد فى الکتاب کیف یمکن لیس مجرد لا یقدم الحب فى من خلال طابع ا سردی ا کیف أن فى هذا
إقرأ أيضاً:
مبدعون يفتحون نوافذهم على لحظة الكتابة كفعل داخلي ووجودي
بين لحظة يصمت فيها الكاتب لأنه لا يجد ما يقال، ولحظة أخرى يكتب فيها لأنه لا يستطيع الصمت، تتخلّق الكتابة.. ليست المسألة هنا مسألة تقنية أو جنس أدبي، بل مسألة «نية»، ما الذي يدفع الكاتب إلى الورقة؟ ما الذي يجعله يختار الكلمة بدل السكوت، والبوح بدل الاحتمال؟... هي لحظة نجاة، وقد تكون لحظة انكشاف... وربما هي مجرد فعل توثيقي للذاكرة الشخصية، ولربما هي موقف وجودي ينشأ في القلب ويتقدّم إلى اللغة لمواجهة الموت، هل يكتب الكاتب لأنه يرى شيئا يجب أن يقال، أم لأنه لا يحتمل فكرة ألّا يقول؟
في هذا الاستطلاع، يفتح كتّاب من الوطن العربي نوافذهم على هذا السؤال.. فكل واحد منهم يذهب إلى جوهر الكتابة من زاويته الخاصة نحو محاولة لإضاءة تلك اللحظة الغامضة التي يُمسك فيها الكاتب القلم، ليس لأنه يعرف، بل لأنه يبحث.. فهنا ليست الكتابة «نصا» بقدر ما هي اختبار داخلي، يقيس الكاتب من خلاله هشاشته، صلابته، وصدقه مع نفسه، وبين من يكتب خوفا من النسيان، ومن يكتب احتجاجا على العالم، ومن يكتب لأن الكلمات تفيض فيه.. في هذا الاستطلاع تتشكل هذه الشهادات الأربع كمرآة لتجربة الكتابة كحالة وجود...
بداية يرى الشاعر والكاتب الدكتور خالد بن علي المعمري أن فعل الكتابة ينطلق من كونه فعلا داخليا نابعا من الذات، موجَّها نحو الكشف عن أسئلة تحاول فهم الكون والعالم، ومن هنا ينبثق الدافع الحقيقي للكتابة بوصفها تعبيرا عن الوجود والحياة، أو محاولة لإصلاح ما انكسر في أعماق الذات الكاتبة... وهو دافع تختلف تجلياته من كاتب إلى آخر، بحسب عمق التجربة وتنوع الرؤية.
ولفهم مضمون الكتابة في جوهره، يؤكد «المعمري» أننا بحاجة إلى فهم الواقع ذاته، ومساءلة الحقائق والفرضيات، بحثا عن أسرار كامنة في العمق الإنساني، في محاولة مستمرة لاكتشاف الفهم المغيّب داخل ظلمات المجهول.
وفي مشهد الكتابة وما يدور فيه من اشتغال فني، يبرز خطّان مختلفان يتقاطعان أحيانا ويتباعدان أحيانا أخرى. الأول، أن تتخذ الكتابة طابعا توثيقيا للمرئي والمسموع في الحياة، فتتشكل منها أبجديات الكتابة الوصفية، أو إشارات الحنين واستدعاء الماضي. وهنا تتسع الذاكرة وتفيض بشعور عميق بأن الحياة نفسها ليست إلا انعكاسا لما في الباطن الشعوري، المترجم إلى نص إبداعي.
أما الشكل الآخر، فينبع من تشكّلات الحياة والواقع، حيث يشعر القارئ أثناء القراءة بأنه أمام نصّ مشبع بتيارات الحزن والغربة، كتجسيد لما لا يمكن لصاحبه أن يبوح به مباشرة، فيلجأ إلى عالم الكتابة، يتوسله للتعبير عما بداخله. وهنا، يدخل الكاتب في صراع بين نارين: الأولى أن فعل الكتابة ذاته رسالة، تقوم على الكشف والتعبير وإيصالها إلى القارئ، الذي يسبر أغوارها بوصفها تعبيرا داخليا صادقا؛ والثانية أن الصمت مؤلم، وهو نسق كامن في الأعماق، لا يلبث أن يظهر مهما حاول الكاتب تجاهله. فالصمت -كما يقول الدكتور خالد المعمري- أكثر إيلاما من الجرح الدامي، ولا علاج له إلا بالبوح، وهو ما يجعل الكاتب يبوح بأسراره الخفية، ربما على لسان شخصيات متخيلة، بحثا عن سبيل يوقف به النزيف الداخلي.
هاتان الحالتان -بحسب «المعمري»- يمكن للقارئ أن يتلمسهما في عالم اليوم، المليء بالقبح والزيف والنفاق، وهنا يتجلى السؤال العميق: كيف يرى الكاتب هذا العالم؟ وكيف يستطيع أن يكتبه أو يعبر عن حقيقته الصارخة؟ إنها أسئلة تنبع من أعماق الذات، وتتجسد إجاباتها في نصوص تعبّر إما عن واقع مباشر يعيشه الكاتب، فتتحول الكتابة إلى نوع من التوثيق الإبداعي، أو تكون تعبيرا مؤلما عن رؤيته للعالم، وخروجا عن الصمت إلى فعل الكتابة، بكل ما يحمله من أوجاع.
وتظل «الكتابة كفعل داخلي» -كما يختتم الباحث والكاتب الدكتور خالد المعمري- سرّا تبوح به المشاعر والأحاسيس، وهدفا يسعى إليه الكاتب، ليقدّمه في نص يُجسّد صورة واقعية عايشها، وها هو يضعها بين يدي قارئه بكل صدق وشفافية.
الصمت عنف قاتل
يرى الباحث والروائي السوري المقيم في ألمانيا إبراهيم الجبين أن السؤال عن «الكتابة كأرشيف شخصي أم موقف وجودي؟» يستدعي التوقف عند مشغل الكاتب ومختبر اهتماماته الخاصة، حيث لا تنفصل «النية» عن التقنية، بل تتشابك معها وتنفصل عنها وفقا لما يشعر به الكاتب من ضرورة أو اندفاع. فالكتابة، في أصلها، كما يؤكد الجبين، «حالة داخلية»، تنحدر من مملكة التأمل الصامت، ولكن الصمت، كما يضيف، «لغة أيضا»، وهي تحاوره قبل فعل الكتابة وبعده، حتى تأتي تلك النشوة التي تُولد من لحظة الخلق والنظر فيما خرج من بين يديه.
غير أن للتوثيق غواية خاصة، كما يقول، تفوق في أحيان كثيرة غواية الخيال والابتكار، «لأن الطبيعة تبقى أجمل من كل اللوحات، والإنسان الحي بلحمه ودمه يظلّ أكثر بهاء من الصورة، مهما تطورت تقنيات العدسات والتصوير». ولهذا يذهب «الجبين» إلى التوثيق كونه إيمانا بقوة الوثيقة، التي -في نظره- تتجاوز الأسطورة ذاتها، وتغدو شكلا من أشكال السحر إن كانت الحياة التي يُعاد توثيقها مثيرة بما يكفي، أما الحياة السطحية، التي تشبه حيوات الآخرين، فلا يجد فيها ما يستحق أن يُروى في قصيدة أو رواية.
ويؤكد «الجبين» أن الكتابة التي توثق تجارب الكاتب ليست محض أرشفة، بل هي عرض واستعراض وإثارة، وهي في ذاتها «تقنية تتوازى مع اللغة والخيال والتصوير الفني». أما ما يثير الاستفزاز برأيه، فهو «تلك الكتابة التي تفتعل التوثيق، وتدّعي وجود تجارب ذات قيمة، ثم تظن أن تلك التجارب تليق بالقراء»، مع التذكير بأن الكتابة في نهاية المطاف «سلعة وبضاعة»، والكاتب هنا مثل المنتج الذي عليه أن يقدم سلعة تجذب الزبائن.
ويرى الروائي إبراهيم الجبين في التوثيق، أيضا، طريقا لشفاء جراح الكاتب الناتجة عن صراعه مع الواقع، فالكاتب يعيد سرد الوقائع، ويصححها، ويعيد ترتيب تفاصيلها، بما يجعل الكتابة التوثيقية نوعا من إعادة عيش الواقع، أو «فرصة ثانية» لا يحظى بها إلا الكاتب وحده.
ويذهب أبعد من ذلك في تشريح دوافع الكاتب، فيشكك في أن الكاتب يسعى لفهم العالم، بقدر ما يسعى لاختبار مدى تطابق هذا العالم مع ما في رأسه... إن هدفه، كما يقول، ليس الإبحار في محيطات الأرض، بل في ذاته، وتتبُّع خرائط نفسه الغامضة. فـ«الكاتب في الواقع إنسان مختلف عن بقية البشر، معوق بشكل أو بآخر، متوحّد وفريد وغير متوافق». إنه ليس كائنا واضحا أمام عقله، بل «آخر» يحتاج إلى أن يفكّ ألغازه وخفاياه، تلك التي تتجلّى في تجاربه مع الناس والأحداث من حوله.
ويطرح «الجبين» سؤالا مؤرقا طالما شغله: «هل الصمت التام موتٌ تام؟»، بل إن روايته «الخميادو» تتمحور حول تطوير لغة من الصمت والإشارات، مستلهمة التراث الموريسكي في الأندلس، حين ابتكر أولئك المنفيّون لغة مشفرة لحفظ هويتهم. ويقول: «الصمت لغة بالفعل، لكنه أفق بعيد لا يُعرف منتهاه، أهو صمت القبور أم بهجة الحياة؟».
«الجبين» يعترف بأنه كتب جميع رواياته مدفوعا بالتوثيق، ليس من باب العظمة، بل لأن في حياته ما يختلف، ولأن المدن والأمكنة والشخوص التي مر بها تستحق -كما يقول- أن تُرى كما رآها، وتُصغى كما خاطبته... ويضيف بأن «التجارب الصغيرة جدا قد تتحول إلى خالدة» بمجرد أن تُوثّق وتدخل كتابا، وقد تقع في يد باحث بعد ألف عام فيعيد قراءتها وتفكيكها. ويعترف بصراحة: «في لحظات الصدق، أكتب تحت تأثير هذه الفكرة: ماذا لو وقع كتابي بين يدي قارئ في المستقبل البعيد جدا؟ هل سأكون لائقا به كما وجدنا المتنبي وابن رشد وابن الطفيل وألف ليلة وليلة؟».
ويختتم الكاتب والروائي السوري المقيم في ألمانيا إبراهيم الجبين حديثه برؤية عميقة حول الكتابة كونها ضرورة للاتصال مع العالم إذ يقول: المثقف، كما يتخيله، حبيس مكعب زجاجي شفاف، يتنقل معه حيثما ذهب، لكن الزجاج عازل للصوت، فلا يُسمع صوته مهما صرخ، ولن يكون أمامه إلا «ابتكار وسيلة»، ولا وسيلة أقوى من الكتابة... فالصمت يؤذي المثقف، وقد يتحول إلى عدوانية، بل إلى عنف قاتل، حين يعجز صاحبه عن العثور على لغة مناسبة للتعبير عمّا في داخله.
الكتابة فعل ضد المحو
يرى التشكيلي والكاتب الأردني محمد العامري أن الكتابة فعل لا ينبع من رغبة في الاسترضاء أو ممالأة أحد، بل هي انسياب «حبر الروح» في مسارات تتقاطع مع الكشف الصوفي، في رحلة نحو ضوء ما... ويصف تجربته الكتابية بأنها تطهّر بالكلمة، بالكلمات التي تنبع من خزان الطفولة، أو من وجع العاشق الذي خذلته الحياة، فتغدو الكتابة لديه صورة من «مباهج التذكر» و«ألم لذيذ» يسعى لاستعادته عبر النص.. في سعيه هذا، يحاول أن يكون ذلك الطفل الذي يكتب بحكمة الشيخ، دون أن ينشغل بالتزويق اللفظي أو المقعّرات اللغوية، بل يبحث عن المعنى، عن وجوده في عالم لا يكفّ عن المحو والمصادرة.
الكتابة، كما يراها «العامري»، تمنحه مرآة يرى فيها ذاته، لكنها مرآة متكسّرة، تعكس صور الألم في كل شظية... في مواجهة عالم معقّد، حيث يرفض أن يصادر البراءة، يترك الفراشة تقترب من السراج لتكتشف النار، لكنه يستعير ألوانها «الفردوسية» ليلون بها الورقة، في كتابة تتنفس بصعود وهبوط، كـ«مركب قلق على جسد موجة».
ويشبه الكاتب فعل الكتابة بالأرجوحة: تأخذك للأعالي ثم تعيدك إلى واقعك المرّ. ومن هذا المنطلق، ينظر إلى الكتابة كوسيلة لتحطيم المرايا، ليكتشف ذاته في أزمنة الطفولة الضائعة. إنها محاولات، يصفها بأنها «بائسة ربما»، لاستعادة زمن الحرية، في عالم تحاصره القيود. فالكتابة، في رأيه، فعل حرية مطلق، لا يحتمل يقينا، بل يسكنه الشك، لأنه مناكف لواقع «غرائبي في فُحشه»، ولأن الأشياء تبدو فيه كفولاذ يضرب عين القلب بلمعانه القاتل.
ويستحضر العامري قول الجاحظ في «كتاب الحيوان»: «ينبغي لمن كتب كتابا أن لا يكتبه إلا على أنّ الناس كلهم له أعداء». ذلك أن الكتابة كاشفة، وتعري الذات أمام مرآة يراها الجميع. ولهذا، يكسر «العامري» المرآة، كي «يلوذ في تفاصيل الكسور الروحية»، فيكتب بلغة عالية، غائرة في التأويل، تستقي من معين الرؤيا، وتسقي مجرى الحبر بما يفيض من الداخل. إنه، كما يقول، يكتب وهو مدرك أنه مقدم على «عمل متناقض جذريا» في تنوعه وارتطامه بالذات والعالم، ارتطام حجرين يشعلان «وهج البوح» عن زمن غادره، فحاول أن يستعيده، خوفا من ضياعه.
الكتابة عند العامري فعل خلاق، يتجاوز الذات الفردية، ويذيب الحدود بينها وبين اللامعقول، حتى يغدو النص نبضا خارجا من الكاتب، لا إليه... ويستشهد برولان بارت: «ليس في وسعي إلا أنّ أعدّد الأسباب التي أتصوّر أنني أكتب بدافعٍ منها». فهو يكتب بدافع ظمأ داخلي، بحثا عن «رعشة الحبر والمعنى»، وهو افتتان لا يبتعد -كما يصفه- عن افتتان إيروتيكي.
ولا يرى الكاتب الأردني محمد العامري في الكتابة وسيلة للتأييد، بل «موضع احتجاج»، لا يسعى لإرضاء أحد، بل لإصغاء داخلي عميق لصوت ينبعث من «ماء عميقة تتحرك في كهرباء الفكرة»، صوت يُلامس لمعانا صادمة، ودلالات منفلتة، تهيم في «هواء الكون». ويقول: أكتب لأبكي وحيدا على أثر شاهدته هناك، رمسٍ لفكرة خلاقة لم يدركها أحد». إذ لا وجود لشيء خارج الكتابة والبوح، فهي تفجير للمعنى، اختراق لجدران الصمت، وانكسار لظلال الذات في مجرى النهر، في وجه الفوضى الطاغية. إنها كتابة محمولة على ظهر «بُراق الكلام»، ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل فعل وجودي، تطهير جوهري، وتجلي روحي، ومحاولة دؤوبة لفهم الذات والوجود.. أكتب لكي أكون أنا فقط.
الكتابة ليست ترفا
يتساءل الروائي المغربي مصطفى الحمداوي: كيف يمكننا الحديث عن الكتابة وفصلها عن ذاتية الكاتب؟ ويقرّ بأن الأمر يبدو من الوهلة الأولى معقّدا إلى حد قد يلامس المستحيل... فهو موضوع جدلي دائم، وغالبا ما تتم مقاربته من زوايا متعددة بحسب رؤية كل كاتب، وهنا -كما يشير- لا بد من استدعاء محيط الكاتب وظرفيته التاريخية التي تؤثر عادة في نتاجه الكتابي، إضافة إلى مؤثّرات أخرى لا تقل أهمية... ففي نهاية المطاف، يكتب الكاتب انطلاقا من قناعاته الأساسية، لأن المهمة الأسمى له، على وجه الخصوص، هي إيصال خطابه إلى أوسع نطاق ممكن.
لكن، في البداية، ما مهمة الكاتب؟ هل يكتب من أجل التسلية؟ أم لمحاولة ترميم الاختلالات التي يرصدها في هذا العالم؟ يعتقد «الحمداوي» أن الكاتب، في جميع الحالات، جزء من محيطه وظرفيته التاريخية الحاسمة... وهذا الوضع -كما يقول- يضعه أمام التزام حتمي لا مهرب منه، وعليه أن يتفاعل معه تلقائيا، بحس عالٍ من المسؤولية الملقاة على كاهله، حتى الكتابة الذاتية المحضة تتضمّن، بشكل أو آخر، خطابا إنسانيا عميقا، أو هكذا ينبغي، فلا يمكن تصور كتابة تُغيِّب الوقائع الكبرى ولا تتفاعل معها، فذلك يشبه غياب الكاتب عن موقعه في عالم يتطلّب من كل فرد اتخاذ موضعه.. وموقع الكاتب، دائما، هو في الجبهة الأمامية، شاهِرا الكلمة، لأجل تسخيرها سلاح ود وسلام، وبناء ممرّات لتجسير الهوّة بين أبناء الأرض.
من الصعب الحديث عن تجاوز الذات في معناها الواسع، لكن يمكن القول إن الكتابة يمكن أن تتجاوز الذات حين تكون مجرّد تأثيث لمكتبة الكاتب وذاكرته. فالكتابة الذاتية تظل، غالبا، تسجيلا لمذكرات وأحداث شخصية لا تهم سوى صاحبها. أما الكتابة في عمومها، فهي فعل وجودي وتماهٍ مع الحياة في مختلف تمظهراتها. وعند استحضار تجربة كاتب مثل دوستويفسكي، لا نجده مجرّد راوٍ لقصص، بل نراه يسخّر الأدب لاستكشاف أعمق القضايا الأخلاقية والروحية في النفس البشرية. لقد ظل يؤمن بحرية مسؤولة، محذرا من أن الحرية دون مسؤولية تقود إلى الضياع. ويمكن تلخيص أفكاره بأنها رؤى وجودية ترى الإنسان ككائن حر تتجاذبه قوى الخير والشر، والإيمان والشك، على أن يكون مسؤولا، حتى في لحظات غرقه في ظلام اليأس.
في خضم تسارع الأحداث وتحولات العالم المهولة، لا بد للكاتب من أن يكون جزءا فاعلا ومتفاعلا معها، لا أن يركن إلى الصمت أو ينأى بنفسه عما يدور حوله.
وهنا يرى «الحمداوي» أن قول الكاتب البريطاني غراهام سويفت مناسب وفعّال: «عندما أكتب، أكون على الأرض تماما، على نفس الأرض التي تمشي عليها شخصياتي». هذه المقولة -كما يقول- تُظهر كيف يضع سويفت نفسه على قدم المساواة مع شخصياته الروائية، إذ لا يرى فاصلا بين خياله وحياته، بل يعتبر أن ما يكتبه هو ما يعيشه، وإنْ من خلال عدسة إبداعية ورؤية أعمق من العادية.
الكاتب يكتب بلغة ناطقة، أو هكذا يجب أن تُفهم الكتابة، فاللغة التي لا تنطق بالحس الجمعي والمعاناة والطموحات، تبقى مجرّد مهادنة لا تلامس جوهر المبدع، فالكاتب ليس فحسب لسان حال مجتمعه، بل ضمير حيّ يستشعر الظواهر ويحللها بدقة وعمق، بعيدا عن التبسيط والنظرة الأحادية التي تُفقد الكتابة صدقيتها.
وفي هذا السياق، يستحضر «الحمداوي» مقولة لأمبرتو إيكو: «منذ أن أصبحت روائيا، اكتشفت أنني متحيّز.. إما أن أرى رواية جديدة أسوأ من روايتي ولا تعجبني، أو أشكّ في أنها أفضل من رواياتي ولا تعجبني».. فهذه الجملة، كما يرى، تتجاوز ظاهرها الساخر، وتعكس تحيّزا حقيقيا وموضوعيا في الحياة، حيث لا يمكن أن يكون الكاتب كاتبا حقيقيا إن لم يتحيز، وتحيّزه لا يكون بالضرورة لطرف ضد آخر، بل لفكرة، لقضية، لقيم يؤمن بها. وتحيّز الكاتب، غالبا، ينطلق من اندماجه في القيم الكونية الكبرى، وحفاظه على ثوابته الذاتية، بما يميّزه عن غيره، فهو تحيّز نابع من وعيه بمحيطه وظرفيته التاريخية، ورفضه أن يبقى على هامش ما يحدث من حوله.
وبغض النظر عن كل شيء، فإن الحياة ستستمر. ولكن، كما يسأل «الحمداوي»: هل تستمر كما ينبغي لها أن تستمر؟ أم تستمر بعشوائية وبسوء تقدير كل فاعل مؤثر في السياسة الدولية، التي تُنتج بالضرورة تبعات اقتصادية واجتماعية سيئة؟ وهنا يقف الكاتب، أي كاتب، ليقول شيئا ما، ليُعلن موقفه بشجاعة، لأن إعلان المواقف في كثير من الأحيان هو شجاعة لا تقل عن أي شجاعة أخرى. وهنا بالذات تحتاج المجتمعات لصوت الكاتب، وعليها في الآن ذاته الإصغاء إليه بانتباه عميق.
يقول الكاتب الأمريكي ديفيد موريل: «قبل أن أبدأ أي مشروع، أسأل نفسي دائما: لماذا يستحق هذا الكتاب عاما من حياتي؟ لا بد أن يكون هناك شيء ما في موضوعه، أو أسلوبه، أو بحثه يجعل الوقت الذي أقضيه فيه يستحق العناء».. هنا يرى «الحمداوي» أن هذه المقولة لا تتحدث عن الكتابة فقط، بل تمس جوهر الالتزام الإنساني بالمعنى والقيمة... فعندما يقول موريل: «لماذا يستحق هذا الكتاب عاما من حياتي؟»، فإنه لا يتحدث عن الحروف والكلمات، أو عن الجهد، بل عن الزمن كأكثر شيء ثمين يملكه الإنسان، وعن ضرورة أن يُصرف هذا الوقت فيما يُحدِث أثرا، ويُحدث فرقا، ويساهم في بناء وعي أو معالجة قضية من القضايا الإنسانية الشائكة.
وإذا قرأنا هذه العبارة خارج سياق الكتابة، فهي تطرح سؤالا وجوديا: لأي شيء أهب وقتي كله؟ ولماذا؟ ومثل هذه الأسئلة، كما يرى الحمداوي، تتشابك مع قضايا الوعي الجماعي، وتضعنا أمام تحدّ أن يكون لكل مشروع إنساني -والأمر هنا يتعلّق بالكتابة- غاية أسمى من مجرد الإنجاز الشخصي... فالكتابة، في لحظة القرار بين الصمت وقول الحقيقة، ليست مجرد فعل توثيقي بارد، بل صراع وجودي داخلي... فهي اللحظة التي يتأرجح الكاتب فيها بين وطأة الصمت الذي يهيمن عليه، وبين مرارة الكشف التي قد تجر خلفها عزلة أو مواجهة. ولهذا يمكن اعتبار أن المعاناة التي ترافق الكتابة ليست دائما ألما، بل قد تكون نشوة الانعتاق، حين تتحوّل الكلمة إلى مرآة تعكس الفهم العميق للعالم، أو سلاحا ناعما في وجه قسوته المفرطة.
الكاتب، كما يختتم الروائي المغربي مصطفى الحمداوي، لا يكتب لمجرد امتلاك رسالة جاهزة يبثّها، بل يكتب لأن الصمت يدفعه دفعا لذلك. الكتابة تصبح عنده حاجة ملحّة، تكاد تتماهى مع معنى وجوده والذريعة الأكثر إقناعا لعيش الحياة... في عالم مثقل بالأزمات الأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية، لا يكفي للكاتب أن يعمل، أو أن يبدع، أو أن ينتج، بل لا بد أن يتساءل عن المغزى من كل ما يفعله، لأن قوة الفعل من خلال الكتابة هي التي تقرّب البشر من بعضهم، وتوسّع أفق الفهم المشترك، ولعلّ الكتابة التي تستحق زمنا من عمر صاحبها، هي تلك التي تنحت أثرا، وتزرع وعيا، وتجعل الحياة أكثر قابلية للفهم والاحتمال.