مبدعون يفتحون نوافذهم على لحظة الكتابة كفعل داخلي ووجودي
تاريخ النشر: 22nd, June 2025 GMT
بين لحظة يصمت فيها الكاتب لأنه لا يجد ما يقال، ولحظة أخرى يكتب فيها لأنه لا يستطيع الصمت، تتخلّق الكتابة.. ليست المسألة هنا مسألة تقنية أو جنس أدبي، بل مسألة «نية»، ما الذي يدفع الكاتب إلى الورقة؟ ما الذي يجعله يختار الكلمة بدل السكوت، والبوح بدل الاحتمال؟... هي لحظة نجاة، وقد تكون لحظة انكشاف... وربما هي مجرد فعل توثيقي للذاكرة الشخصية، ولربما هي موقف وجودي ينشأ في القلب ويتقدّم إلى اللغة لمواجهة الموت، هل يكتب الكاتب لأنه يرى شيئا يجب أن يقال، أم لأنه لا يحتمل فكرة ألّا يقول؟
في هذا الاستطلاع، يفتح كتّاب من الوطن العربي نوافذهم على هذا السؤال.
بداية يرى الشاعر والكاتب الدكتور خالد بن علي المعمري أن فعل الكتابة ينطلق من كونه فعلا داخليا نابعا من الذات، موجَّها نحو الكشف عن أسئلة تحاول فهم الكون والعالم، ومن هنا ينبثق الدافع الحقيقي للكتابة بوصفها تعبيرا عن الوجود والحياة، أو محاولة لإصلاح ما انكسر في أعماق الذات الكاتبة... وهو دافع تختلف تجلياته من كاتب إلى آخر، بحسب عمق التجربة وتنوع الرؤية.
ولفهم مضمون الكتابة في جوهره، يؤكد «المعمري» أننا بحاجة إلى فهم الواقع ذاته، ومساءلة الحقائق والفرضيات، بحثا عن أسرار كامنة في العمق الإنساني، في محاولة مستمرة لاكتشاف الفهم المغيّب داخل ظلمات المجهول.
وفي مشهد الكتابة وما يدور فيه من اشتغال فني، يبرز خطّان مختلفان يتقاطعان أحيانا ويتباعدان أحيانا أخرى. الأول، أن تتخذ الكتابة طابعا توثيقيا للمرئي والمسموع في الحياة، فتتشكل منها أبجديات الكتابة الوصفية، أو إشارات الحنين واستدعاء الماضي. وهنا تتسع الذاكرة وتفيض بشعور عميق بأن الحياة نفسها ليست إلا انعكاسا لما في الباطن الشعوري، المترجم إلى نص إبداعي.
أما الشكل الآخر، فينبع من تشكّلات الحياة والواقع، حيث يشعر القارئ أثناء القراءة بأنه أمام نصّ مشبع بتيارات الحزن والغربة، كتجسيد لما لا يمكن لصاحبه أن يبوح به مباشرة، فيلجأ إلى عالم الكتابة، يتوسله للتعبير عما بداخله. وهنا، يدخل الكاتب في صراع بين نارين: الأولى أن فعل الكتابة ذاته رسالة، تقوم على الكشف والتعبير وإيصالها إلى القارئ، الذي يسبر أغوارها بوصفها تعبيرا داخليا صادقا؛ والثانية أن الصمت مؤلم، وهو نسق كامن في الأعماق، لا يلبث أن يظهر مهما حاول الكاتب تجاهله. فالصمت -كما يقول الدكتور خالد المعمري- أكثر إيلاما من الجرح الدامي، ولا علاج له إلا بالبوح، وهو ما يجعل الكاتب يبوح بأسراره الخفية، ربما على لسان شخصيات متخيلة، بحثا عن سبيل يوقف به النزيف الداخلي.
هاتان الحالتان -بحسب «المعمري»- يمكن للقارئ أن يتلمسهما في عالم اليوم، المليء بالقبح والزيف والنفاق، وهنا يتجلى السؤال العميق: كيف يرى الكاتب هذا العالم؟ وكيف يستطيع أن يكتبه أو يعبر عن حقيقته الصارخة؟ إنها أسئلة تنبع من أعماق الذات، وتتجسد إجاباتها في نصوص تعبّر إما عن واقع مباشر يعيشه الكاتب، فتتحول الكتابة إلى نوع من التوثيق الإبداعي، أو تكون تعبيرا مؤلما عن رؤيته للعالم، وخروجا عن الصمت إلى فعل الكتابة، بكل ما يحمله من أوجاع.
وتظل «الكتابة كفعل داخلي» -كما يختتم الباحث والكاتب الدكتور خالد المعمري- سرّا تبوح به المشاعر والأحاسيس، وهدفا يسعى إليه الكاتب، ليقدّمه في نص يُجسّد صورة واقعية عايشها، وها هو يضعها بين يدي قارئه بكل صدق وشفافية.
الصمت عنف قاتل
يرى الباحث والروائي السوري المقيم في ألمانيا إبراهيم الجبين أن السؤال عن «الكتابة كأرشيف شخصي أم موقف وجودي؟» يستدعي التوقف عند مشغل الكاتب ومختبر اهتماماته الخاصة، حيث لا تنفصل «النية» عن التقنية، بل تتشابك معها وتنفصل عنها وفقا لما يشعر به الكاتب من ضرورة أو اندفاع. فالكتابة، في أصلها، كما يؤكد الجبين، «حالة داخلية»، تنحدر من مملكة التأمل الصامت، ولكن الصمت، كما يضيف، «لغة أيضا»، وهي تحاوره قبل فعل الكتابة وبعده، حتى تأتي تلك النشوة التي تُولد من لحظة الخلق والنظر فيما خرج من بين يديه.
غير أن للتوثيق غواية خاصة، كما يقول، تفوق في أحيان كثيرة غواية الخيال والابتكار، «لأن الطبيعة تبقى أجمل من كل اللوحات، والإنسان الحي بلحمه ودمه يظلّ أكثر بهاء من الصورة، مهما تطورت تقنيات العدسات والتصوير». ولهذا يذهب «الجبين» إلى التوثيق كونه إيمانا بقوة الوثيقة، التي -في نظره- تتجاوز الأسطورة ذاتها، وتغدو شكلا من أشكال السحر إن كانت الحياة التي يُعاد توثيقها مثيرة بما يكفي، أما الحياة السطحية، التي تشبه حيوات الآخرين، فلا يجد فيها ما يستحق أن يُروى في قصيدة أو رواية.
ويؤكد «الجبين» أن الكتابة التي توثق تجارب الكاتب ليست محض أرشفة، بل هي عرض واستعراض وإثارة، وهي في ذاتها «تقنية تتوازى مع اللغة والخيال والتصوير الفني». أما ما يثير الاستفزاز برأيه، فهو «تلك الكتابة التي تفتعل التوثيق، وتدّعي وجود تجارب ذات قيمة، ثم تظن أن تلك التجارب تليق بالقراء»، مع التذكير بأن الكتابة في نهاية المطاف «سلعة وبضاعة»، والكاتب هنا مثل المنتج الذي عليه أن يقدم سلعة تجذب الزبائن.
ويرى الروائي إبراهيم الجبين في التوثيق، أيضا، طريقا لشفاء جراح الكاتب الناتجة عن صراعه مع الواقع، فالكاتب يعيد سرد الوقائع، ويصححها، ويعيد ترتيب تفاصيلها، بما يجعل الكتابة التوثيقية نوعا من إعادة عيش الواقع، أو «فرصة ثانية» لا يحظى بها إلا الكاتب وحده.
ويذهب أبعد من ذلك في تشريح دوافع الكاتب، فيشكك في أن الكاتب يسعى لفهم العالم، بقدر ما يسعى لاختبار مدى تطابق هذا العالم مع ما في رأسه... إن هدفه، كما يقول، ليس الإبحار في محيطات الأرض، بل في ذاته، وتتبُّع خرائط نفسه الغامضة. فـ«الكاتب في الواقع إنسان مختلف عن بقية البشر، معوق بشكل أو بآخر، متوحّد وفريد وغير متوافق». إنه ليس كائنا واضحا أمام عقله، بل «آخر» يحتاج إلى أن يفكّ ألغازه وخفاياه، تلك التي تتجلّى في تجاربه مع الناس والأحداث من حوله.
ويطرح «الجبين» سؤالا مؤرقا طالما شغله: «هل الصمت التام موتٌ تام؟»، بل إن روايته «الخميادو» تتمحور حول تطوير لغة من الصمت والإشارات، مستلهمة التراث الموريسكي في الأندلس، حين ابتكر أولئك المنفيّون لغة مشفرة لحفظ هويتهم. ويقول: «الصمت لغة بالفعل، لكنه أفق بعيد لا يُعرف منتهاه، أهو صمت القبور أم بهجة الحياة؟».
«الجبين» يعترف بأنه كتب جميع رواياته مدفوعا بالتوثيق، ليس من باب العظمة، بل لأن في حياته ما يختلف، ولأن المدن والأمكنة والشخوص التي مر بها تستحق -كما يقول- أن تُرى كما رآها، وتُصغى كما خاطبته... ويضيف بأن «التجارب الصغيرة جدا قد تتحول إلى خالدة» بمجرد أن تُوثّق وتدخل كتابا، وقد تقع في يد باحث بعد ألف عام فيعيد قراءتها وتفكيكها. ويعترف بصراحة: «في لحظات الصدق، أكتب تحت تأثير هذه الفكرة: ماذا لو وقع كتابي بين يدي قارئ في المستقبل البعيد جدا؟ هل سأكون لائقا به كما وجدنا المتنبي وابن رشد وابن الطفيل وألف ليلة وليلة؟».
ويختتم الكاتب والروائي السوري المقيم في ألمانيا إبراهيم الجبين حديثه برؤية عميقة حول الكتابة كونها ضرورة للاتصال مع العالم إذ يقول: المثقف، كما يتخيله، حبيس مكعب زجاجي شفاف، يتنقل معه حيثما ذهب، لكن الزجاج عازل للصوت، فلا يُسمع صوته مهما صرخ، ولن يكون أمامه إلا «ابتكار وسيلة»، ولا وسيلة أقوى من الكتابة... فالصمت يؤذي المثقف، وقد يتحول إلى عدوانية، بل إلى عنف قاتل، حين يعجز صاحبه عن العثور على لغة مناسبة للتعبير عمّا في داخله.
الكتابة فعل ضد المحو
يرى التشكيلي والكاتب الأردني محمد العامري أن الكتابة فعل لا ينبع من رغبة في الاسترضاء أو ممالأة أحد، بل هي انسياب «حبر الروح» في مسارات تتقاطع مع الكشف الصوفي، في رحلة نحو ضوء ما... ويصف تجربته الكتابية بأنها تطهّر بالكلمة، بالكلمات التي تنبع من خزان الطفولة، أو من وجع العاشق الذي خذلته الحياة، فتغدو الكتابة لديه صورة من «مباهج التذكر» و«ألم لذيذ» يسعى لاستعادته عبر النص.. في سعيه هذا، يحاول أن يكون ذلك الطفل الذي يكتب بحكمة الشيخ، دون أن ينشغل بالتزويق اللفظي أو المقعّرات اللغوية، بل يبحث عن المعنى، عن وجوده في عالم لا يكفّ عن المحو والمصادرة.
الكتابة، كما يراها «العامري»، تمنحه مرآة يرى فيها ذاته، لكنها مرآة متكسّرة، تعكس صور الألم في كل شظية... في مواجهة عالم معقّد، حيث يرفض أن يصادر البراءة، يترك الفراشة تقترب من السراج لتكتشف النار، لكنه يستعير ألوانها «الفردوسية» ليلون بها الورقة، في كتابة تتنفس بصعود وهبوط، كـ«مركب قلق على جسد موجة».
ويشبه الكاتب فعل الكتابة بالأرجوحة: تأخذك للأعالي ثم تعيدك إلى واقعك المرّ. ومن هذا المنطلق، ينظر إلى الكتابة كوسيلة لتحطيم المرايا، ليكتشف ذاته في أزمنة الطفولة الضائعة. إنها محاولات، يصفها بأنها «بائسة ربما»، لاستعادة زمن الحرية، في عالم تحاصره القيود. فالكتابة، في رأيه، فعل حرية مطلق، لا يحتمل يقينا، بل يسكنه الشك، لأنه مناكف لواقع «غرائبي في فُحشه»، ولأن الأشياء تبدو فيه كفولاذ يضرب عين القلب بلمعانه القاتل.
ويستحضر العامري قول الجاحظ في «كتاب الحيوان»: «ينبغي لمن كتب كتابا أن لا يكتبه إلا على أنّ الناس كلهم له أعداء». ذلك أن الكتابة كاشفة، وتعري الذات أمام مرآة يراها الجميع. ولهذا، يكسر «العامري» المرآة، كي «يلوذ في تفاصيل الكسور الروحية»، فيكتب بلغة عالية، غائرة في التأويل، تستقي من معين الرؤيا، وتسقي مجرى الحبر بما يفيض من الداخل. إنه، كما يقول، يكتب وهو مدرك أنه مقدم على «عمل متناقض جذريا» في تنوعه وارتطامه بالذات والعالم، ارتطام حجرين يشعلان «وهج البوح» عن زمن غادره، فحاول أن يستعيده، خوفا من ضياعه.
الكتابة عند العامري فعل خلاق، يتجاوز الذات الفردية، ويذيب الحدود بينها وبين اللامعقول، حتى يغدو النص نبضا خارجا من الكاتب، لا إليه... ويستشهد برولان بارت: «ليس في وسعي إلا أنّ أعدّد الأسباب التي أتصوّر أنني أكتب بدافعٍ منها». فهو يكتب بدافع ظمأ داخلي، بحثا عن «رعشة الحبر والمعنى»، وهو افتتان لا يبتعد -كما يصفه- عن افتتان إيروتيكي.
ولا يرى الكاتب الأردني محمد العامري في الكتابة وسيلة للتأييد، بل «موضع احتجاج»، لا يسعى لإرضاء أحد، بل لإصغاء داخلي عميق لصوت ينبعث من «ماء عميقة تتحرك في كهرباء الفكرة»، صوت يُلامس لمعانا صادمة، ودلالات منفلتة، تهيم في «هواء الكون». ويقول: أكتب لأبكي وحيدا على أثر شاهدته هناك، رمسٍ لفكرة خلاقة لم يدركها أحد». إذ لا وجود لشيء خارج الكتابة والبوح، فهي تفجير للمعنى، اختراق لجدران الصمت، وانكسار لظلال الذات في مجرى النهر، في وجه الفوضى الطاغية. إنها كتابة محمولة على ظهر «بُراق الكلام»، ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل فعل وجودي، تطهير جوهري، وتجلي روحي، ومحاولة دؤوبة لفهم الذات والوجود.. أكتب لكي أكون أنا فقط.
الكتابة ليست ترفا
يتساءل الروائي المغربي مصطفى الحمداوي: كيف يمكننا الحديث عن الكتابة وفصلها عن ذاتية الكاتب؟ ويقرّ بأن الأمر يبدو من الوهلة الأولى معقّدا إلى حد قد يلامس المستحيل... فهو موضوع جدلي دائم، وغالبا ما تتم مقاربته من زوايا متعددة بحسب رؤية كل كاتب، وهنا -كما يشير- لا بد من استدعاء محيط الكاتب وظرفيته التاريخية التي تؤثر عادة في نتاجه الكتابي، إضافة إلى مؤثّرات أخرى لا تقل أهمية... ففي نهاية المطاف، يكتب الكاتب انطلاقا من قناعاته الأساسية، لأن المهمة الأسمى له، على وجه الخصوص، هي إيصال خطابه إلى أوسع نطاق ممكن.
لكن، في البداية، ما مهمة الكاتب؟ هل يكتب من أجل التسلية؟ أم لمحاولة ترميم الاختلالات التي يرصدها في هذا العالم؟ يعتقد «الحمداوي» أن الكاتب، في جميع الحالات، جزء من محيطه وظرفيته التاريخية الحاسمة... وهذا الوضع -كما يقول- يضعه أمام التزام حتمي لا مهرب منه، وعليه أن يتفاعل معه تلقائيا، بحس عالٍ من المسؤولية الملقاة على كاهله، حتى الكتابة الذاتية المحضة تتضمّن، بشكل أو آخر، خطابا إنسانيا عميقا، أو هكذا ينبغي، فلا يمكن تصور كتابة تُغيِّب الوقائع الكبرى ولا تتفاعل معها، فذلك يشبه غياب الكاتب عن موقعه في عالم يتطلّب من كل فرد اتخاذ موضعه.. وموقع الكاتب، دائما، هو في الجبهة الأمامية، شاهِرا الكلمة، لأجل تسخيرها سلاح ود وسلام، وبناء ممرّات لتجسير الهوّة بين أبناء الأرض.
من الصعب الحديث عن تجاوز الذات في معناها الواسع، لكن يمكن القول إن الكتابة يمكن أن تتجاوز الذات حين تكون مجرّد تأثيث لمكتبة الكاتب وذاكرته. فالكتابة الذاتية تظل، غالبا، تسجيلا لمذكرات وأحداث شخصية لا تهم سوى صاحبها. أما الكتابة في عمومها، فهي فعل وجودي وتماهٍ مع الحياة في مختلف تمظهراتها. وعند استحضار تجربة كاتب مثل دوستويفسكي، لا نجده مجرّد راوٍ لقصص، بل نراه يسخّر الأدب لاستكشاف أعمق القضايا الأخلاقية والروحية في النفس البشرية. لقد ظل يؤمن بحرية مسؤولة، محذرا من أن الحرية دون مسؤولية تقود إلى الضياع. ويمكن تلخيص أفكاره بأنها رؤى وجودية ترى الإنسان ككائن حر تتجاذبه قوى الخير والشر، والإيمان والشك، على أن يكون مسؤولا، حتى في لحظات غرقه في ظلام اليأس.
في خضم تسارع الأحداث وتحولات العالم المهولة، لا بد للكاتب من أن يكون جزءا فاعلا ومتفاعلا معها، لا أن يركن إلى الصمت أو ينأى بنفسه عما يدور حوله.
وهنا يرى «الحمداوي» أن قول الكاتب البريطاني غراهام سويفت مناسب وفعّال: «عندما أكتب، أكون على الأرض تماما، على نفس الأرض التي تمشي عليها شخصياتي». هذه المقولة -كما يقول- تُظهر كيف يضع سويفت نفسه على قدم المساواة مع شخصياته الروائية، إذ لا يرى فاصلا بين خياله وحياته، بل يعتبر أن ما يكتبه هو ما يعيشه، وإنْ من خلال عدسة إبداعية ورؤية أعمق من العادية.
الكاتب يكتب بلغة ناطقة، أو هكذا يجب أن تُفهم الكتابة، فاللغة التي لا تنطق بالحس الجمعي والمعاناة والطموحات، تبقى مجرّد مهادنة لا تلامس جوهر المبدع، فالكاتب ليس فحسب لسان حال مجتمعه، بل ضمير حيّ يستشعر الظواهر ويحللها بدقة وعمق، بعيدا عن التبسيط والنظرة الأحادية التي تُفقد الكتابة صدقيتها.
وفي هذا السياق، يستحضر «الحمداوي» مقولة لأمبرتو إيكو: «منذ أن أصبحت روائيا، اكتشفت أنني متحيّز.. إما أن أرى رواية جديدة أسوأ من روايتي ولا تعجبني، أو أشكّ في أنها أفضل من رواياتي ولا تعجبني».. فهذه الجملة، كما يرى، تتجاوز ظاهرها الساخر، وتعكس تحيّزا حقيقيا وموضوعيا في الحياة، حيث لا يمكن أن يكون الكاتب كاتبا حقيقيا إن لم يتحيز، وتحيّزه لا يكون بالضرورة لطرف ضد آخر، بل لفكرة، لقضية، لقيم يؤمن بها. وتحيّز الكاتب، غالبا، ينطلق من اندماجه في القيم الكونية الكبرى، وحفاظه على ثوابته الذاتية، بما يميّزه عن غيره، فهو تحيّز نابع من وعيه بمحيطه وظرفيته التاريخية، ورفضه أن يبقى على هامش ما يحدث من حوله.
وبغض النظر عن كل شيء، فإن الحياة ستستمر. ولكن، كما يسأل «الحمداوي»: هل تستمر كما ينبغي لها أن تستمر؟ أم تستمر بعشوائية وبسوء تقدير كل فاعل مؤثر في السياسة الدولية، التي تُنتج بالضرورة تبعات اقتصادية واجتماعية سيئة؟ وهنا يقف الكاتب، أي كاتب، ليقول شيئا ما، ليُعلن موقفه بشجاعة، لأن إعلان المواقف في كثير من الأحيان هو شجاعة لا تقل عن أي شجاعة أخرى. وهنا بالذات تحتاج المجتمعات لصوت الكاتب، وعليها في الآن ذاته الإصغاء إليه بانتباه عميق.
يقول الكاتب الأمريكي ديفيد موريل: «قبل أن أبدأ أي مشروع، أسأل نفسي دائما: لماذا يستحق هذا الكتاب عاما من حياتي؟ لا بد أن يكون هناك شيء ما في موضوعه، أو أسلوبه، أو بحثه يجعل الوقت الذي أقضيه فيه يستحق العناء».. هنا يرى «الحمداوي» أن هذه المقولة لا تتحدث عن الكتابة فقط، بل تمس جوهر الالتزام الإنساني بالمعنى والقيمة... فعندما يقول موريل: «لماذا يستحق هذا الكتاب عاما من حياتي؟»، فإنه لا يتحدث عن الحروف والكلمات، أو عن الجهد، بل عن الزمن كأكثر شيء ثمين يملكه الإنسان، وعن ضرورة أن يُصرف هذا الوقت فيما يُحدِث أثرا، ويُحدث فرقا، ويساهم في بناء وعي أو معالجة قضية من القضايا الإنسانية الشائكة.
وإذا قرأنا هذه العبارة خارج سياق الكتابة، فهي تطرح سؤالا وجوديا: لأي شيء أهب وقتي كله؟ ولماذا؟ ومثل هذه الأسئلة، كما يرى الحمداوي، تتشابك مع قضايا الوعي الجماعي، وتضعنا أمام تحدّ أن يكون لكل مشروع إنساني -والأمر هنا يتعلّق بالكتابة- غاية أسمى من مجرد الإنجاز الشخصي... فالكتابة، في لحظة القرار بين الصمت وقول الحقيقة، ليست مجرد فعل توثيقي بارد، بل صراع وجودي داخلي... فهي اللحظة التي يتأرجح الكاتب فيها بين وطأة الصمت الذي يهيمن عليه، وبين مرارة الكشف التي قد تجر خلفها عزلة أو مواجهة. ولهذا يمكن اعتبار أن المعاناة التي ترافق الكتابة ليست دائما ألما، بل قد تكون نشوة الانعتاق، حين تتحوّل الكلمة إلى مرآة تعكس الفهم العميق للعالم، أو سلاحا ناعما في وجه قسوته المفرطة.
الكاتب، كما يختتم الروائي المغربي مصطفى الحمداوي، لا يكتب لمجرد امتلاك رسالة جاهزة يبثّها، بل يكتب لأن الصمت يدفعه دفعا لذلك. الكتابة تصبح عنده حاجة ملحّة، تكاد تتماهى مع معنى وجوده والذريعة الأكثر إقناعا لعيش الحياة... في عالم مثقل بالأزمات الأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية، لا يكفي للكاتب أن يعمل، أو أن يبدع، أو أن ينتج، بل لا بد أن يتساءل عن المغزى من كل ما يفعله، لأن قوة الفعل من خلال الكتابة هي التي تقرّب البشر من بعضهم، وتوسّع أفق الفهم المشترك، ولعلّ الكتابة التي تستحق زمنا من عمر صاحبها، هي تلك التي تنحت أثرا، وتزرع وعيا، وتجعل الحياة أكثر قابلية للفهم والاحتمال.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فعل الکتابة أن الکتابة کما یقول أن یکون فی عالم التی ت التی ی فی هذا
إقرأ أيضاً:
جيل بلا وصايا.. فمن يُعلِّمهم الحياة؟
د. إبراهيم بن سالم السيابي
في إحدى القرى، جلس طفلٌ صغير بجانب جدّه تحت ظل نخلة، بينما كان الجدّ يُصلح مقبض الفأس بيده الخشنة.
قال الجدّ وهو ينظر إلى حفيده: "يا ولدي... الفأس ما ينفعه الحديد إذا انكسر الخشب، والولد ما ينفعه العلم إذا ما تربّى على الأصل".
نظر الطفل إليه بتساؤل، فقال الجدّ مُبتسمًا: "الأصل يا بُني، هو الوصايا... هي الكلام اللي يبقى في قلبك لما تكبر، حتى لو نسيت كل شيء".
مرَّت السنوات، وكبر الطفل، وصار رجلا في المدينة، وعاش حياته بين أوراق العمل والشاشات. لكنه لم ينسَ تلك الجلسة... ولا تلك الكلمة.
ففي كل بيتٍ من بيوت الأمس، كان هناك من يهمس في أذن الطفل، فوصايا الحياة لم تكن هذه الوصايا تُلقَى في محاضرات رسمية، بل كانت تمرّ ببساطة، في دعاء الأم عند الباب، في تعبيرات وجه الأب حين يشتد النقاش، في حكمة الجدّ وهو يحكي سيرة الأوائل. "ارضَ بما قسمه الله"، "من تواضع لله رفعه"، "افعل الخير ولو لم يرك أحد"، فتلك الكلمات، كانت تُغرس كما تُغرس النخلة في أرض عُمان، ثابتة، طيبة، أصلها في القيم وفرعها في سلوك الناس.
أما اليوم، فها نحن أمام جيلٍ يركض نحو المستقبل، لكنه لا يحمل حقيبة وصايا من الماضين، جيلٌ يعرف كيف يُفعّل التطبيقات، لكنه لا يعرف من أين تُستمد المبادئ.
جيلٌ يحاور الشاشات أكثر مما يحاور والديه، ويستقي نظرته للحياة من "المؤثرين"، لا من أهل الأثر.
فأين ذهبنا نحن؟ أين غاب صوت الحكمة؟ ومن يعلّمهم الحياة؟
إن المسألة لا تتعلق فقط بالتقنية أو بالزمن، ولا شك لكل زمان له تحدياته، لكن الخطورة اليوم تكمن في تراكم الانشغال وتراجع دور الإنسان المُربِّي. الأب مُنهك، الأم مشغولة، المعلم تحت الضغط، والجدّ غائب أو غُيِّب، ففي وسط هذا الفراغ، دخلت الشاشات لتؤدي الدور التربوي، لا لأننا اخترناها، بل لأننا تراجعنا خطوة... ثم خطوتين وربما أكثر.
في السابق، كان الطفل يتعلّم من التجربة، من حكايات الكبار، من المجالس، من القرى، من الفلج، من البحر، من النخيل، من صرامة الحياة نفسها. أما اليوم، فتجربته رقمية، وعلاقته بالحياة غير ناضجة، لأننا لم نمهّده لها؛ بل إننا- في كثير من الأحيان- نُحمِّله مسؤوليات لا يفهمها، ونطالبه بنضج لم نمنحه مقدماته، فنقول له: "كن قويًّا"، دون أن نعلّمه كيف يتعامل مع الخوف، ونقول له: "احترم الكبار"، دون أن يرانا نحترم كبارنا، ونقول له: "احذر رفاق السوء"، دون أن نشرح له كيف يختار أصدقاءه.
الوصايا ليست تعليمات عابرة، وإنما هي خلاصة الحياة تُسلَّم من جيل إلى جيل، هي جُمل صغيرة، لكن أثرها يتغلغل في شخصية الإنسان حتى تشكّله، وما لم نعد نفعله – للأسف – هو نقل هذه الخلاصة؛ بل إن بعض الآباء والأمهات باتوا يعتقدون أن أبناءهم "سيتعلّمونها لوحدهم"، أو أن "المدرسة كفيلة بذلك"، أو أن "كل جيل يتدبّر أمره"! لكن الحقيقة التي لا نحب مواجهتها هي: أن أبناءنا بلا وصايا يصبحون أهدافًا سهلة لوصايا الآخرين.
نحن لا نخاف على أبنائنا من الضياع فقط، بل من أن يجدوا أنفسهم في طريق لا يشبههم، لا يشبهنا، ولا يشبه هذا الوطن الذي لم نُحسن إيصال قيمه إليهم.
فأين مجالس الأمس؟ أين الجلسة بعد العشاء، حين كان الجدّ يروي كيف عاش على القليل، وكان كثيرًا؟ أين أمّ الأمس التي كانت تحفظ في قلبها ديوانًا من النصائح، وتقولها في وقتها دون تنظير؟ أين الأب الذي لا يكتفي بالصرف والإنفاق، بل يزرع في ولده الرجولة، والصبر، والعفة؟
ما نحتاجه اليوم ليس اختراع طرق تربية جديدة، بل استعادة تلك اللحظات الإنسانية الحقيقية التي كانت تعلّمنا أكثر مما نتصوّر، أن نمسك بأيدي أبنائنا، لا لنقيّدهم، بل لنرشدهم، فلا عيب أن نحكي لهم حتى عن أخطائنا، عن فشلنا، عن الأشياء التي تعلمناها بالطريقة الصعبة، حتى لا يعيدوا الطريق ذاتها.. نحن لسنا بحاجة إلى أن نكون مثاليين، بل صادقين، لسنا بحاجة إلى أن نكون متفرغين دائمًا، بل حاضرين حين يُحتاج إلينا.
الجيل الجديد لا يبحث عن معلومات- فالمعلومة موجودة بضغطة زر- بل يبحث عن معنى، عن من يفهمه، عن من يرشده إن أخطأ، لا من يحاسبه فقط.
في الختام.. أقول لكل والد ووالدة، ولكل معلم ومربٍّ: إن لم توصِ أبناءك بشيء، فسيوصيهم غيرك بشيءٍ آخر. وما أكثر من ينتظر أن يملأ هذا الفراغ؛ فدعونا نُعيد إلى أبنائنا جلسة الوصايا، ولو في الطريق إلى المدرسة، أو في لحظة صمتٍ قبل النوم. دعونا نحكي لهم عن عمان التي نحبها، عن ناسها، عن شهامتها، عن الطيبين فيها، عن الأمانة، عن الوفاء، عن الجد في العمل، وعن البركة التي تسكن في القناعة. دعونا نعلّمهم الحياة، قبل أن يُفاجئهم الواقع بلا دليل ولا درع. فإن لم نكن نحن "صوت الحياة" في آذانهم، فلن نلومهم حين يسمعون غيره.
رابط مختصر