لجريدة عمان:
2025-07-09@01:42:32 GMT

الشيخ سرحان بن سعيد الأزكوي

تاريخ النشر: 21st, March 2025 GMT

عاش سرحان بن سعيد بن سرحان بن محمد بن بلحسن بن سرحان أمبوعلي الإزكوي في فترة مهمة من تاريخ عُمان، فترة مفصلية من التاريخ العماني نهاية الدولة اليعربية وبداية الدولة البوسعيدية، أي في القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي، فشهد الأحداث التي رافقت قيام الدولة البوسعيدية، وشارك في صناعتها والتأثير فيها.

ويعد الشيخ سرحان من العلماء البارزين في عصره، وله مكانة و قدر رفيع بينهم ومن الذين عقدوا البيعة للإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي في البيعة الثانية سنة 1755م في نزوى بعد أن كان من المبايعين له في البيعة الأولى في الرستاق، وهو من كتب نص عقد البيعة، وأشار الشيخ سرحان بن سعيد على ذلك حيث كتب: "أنا أول من بايع الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الأزدي الأدمي، وحضر البيعة حبيب بن سالم أمبوسعيدي العقري النزوي، والشيخ ... بن محمد الخروصي، والشيخ ... الشقصي، والشيخ محمد بن عامر المعولي والشيخ جاعد بن سالم السلامي وأنا الفقير سرحان بن سعيد أمبوعلي الإزكوي، وهاهنا ألف هذا الكتاب، وهذا الإمام يزداد قوة بعمان، وكانت بيعته بعد موت الإمام بلعرب بن حمير بن سلطان، طرش لنا وبايعناه، وانتقل الملك من السادة آل يعرب إلى الإمام أحمد بن سعيد".

لا تسعفنا المصادر بالكثير عن الشيخ سرحان من حيث تاريخ مولده أو تاريخ وفاته ولكن من المرجح أن تكون ولادته في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي وأن وفاته كانت بين عامي 1755- 1765م. والشيخ سرحان الإزكوي شخصية موسوعية فهو مؤرخ وفقيه وأديب ولغوي، وهو شيخ المؤرخين العمانيين، فهو أول من كتب في التاريخ العماني وفصل في الكثير من الأحداث التاريخية، وقد يكون هناك عدد من المؤلفات قبل كتاب الشيخ الإزكوي إلا أنها لم تصل إلينا، لذا يعد كتابه موسوعة تاريخية حفظت للأجيال اللاحقة أحداث تاريخية عمانية مهمة لم تكن لتصل إلينا لولا الإزكوي. فهو صاحب فضل كبير على التاريخ العماني في حفظه وصيانته.

وعنون الشيخ سرحان الإزكوي كتابه بعنوان "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة" الذي انتهى من كتابته في عام 1734م، ويقع في جزئيين مقسمين على أربعين بابا. انتهج الإزكوي نفس النهج الذي سار عليه من سبقه من المؤرخين الإسلاميين حيث يستعرضون في البداية الكتاب التاريخ القديم وقصص الأنبياء منذ سيدنا آدم عليه السلام مرورا بجميع الرسل الذين ذكروا في القرآن الكريم. وركز الشيخ سرحان في الباب الرابع على هجرة قبائل الأزد إلى عُُمان، وأهم الأحداث التي رافقت هجرتهم، واستقرارهم في عمان وانتشارهم بين سهول عمان وجبالها، ثم تناول تاريخ الدعوة المحمدية في الأبواب من السادس وحتى الباب الثاني والعشرين واستعرض استجابة العمانيين للدين الإسلامي ودخولهم فيه طوعا، أما الأبواب من الثالث والعشرين وحتى السادس والعشرين فكانت لفترة الخلفاء الراشدين وأشار إلى الدور العماني في نشر الدين الإسلامي. وخصص الإزكوي الفصلين الثامن والعشرين والتاسع والعشرين للفرق والنحل الإسلامية، ويذكر الكثير من المواقف والأحداث التي شكلت هذه الفرق ورسمت مسارها الديني. أما الباب الثلاثون فكان للدولتين الأموية والعباسية ولقد تناول الشيخ سرحان تاريخ الدولتان بشيء من الايجاز، وخصص الإزكوي لتاريخ عمان الباب الثالث والثلاثين، وانتهت أحداث تاريخ عمان سنة 1140هـ / 1728م .

وتأتي أهمية كتاب كشف الغمة لكونه أول كتاب تاريخي عماني متخصص في التاريخ ينتهج أسلوب سرد الحدث التاريخي، بعد كان قبله العوتبي قد ركز على الأنساب ومنها انطلق إلى سرد الأحداث التي واجهت القبائل ومسارها التاريخي، أما الإزكوي فلقد ركز على الحدث التاريخي وتتبع تسلسله الزمني، وتأتي أهمية الكتاب كذلك من معاصرته لفترة مهمة من تاريخ عمان حيث يعد الإزكوي شاهد عيان لفترة انتقالية من التاريخ العماني.

يوضح الإزكوي في مقدمة كتابه غايته من كتابته لهذا المؤلف التاريخي الشامل حيث يقول: "فقد دعتني الهمة إلى جمع هذا الكتاب وتأليفه وتلخيص معانيه وتصنيفه، فلبيتها أهلا وسهلا، وإن لم أكن للتأليف أهلا، وذلك لما رأيت أكثر أهل زماننا قد غفلوا عن أصل مذهبهم الشريف، وأقبلوا على أئمة مذهبهم بالتعنيف والتعسيف، ومالوا إلى حب السادات ذوي التشريف، ... وجعلت ظاهره في القصص والأخبار، وباطنه في المذهب المختار، لأن الناس لقراءة الأثر لا يستمعون، ولاستماع القصص عن اللغو يثبتون، فملت إلى رغبتهم لكي يكونوا مستمعين، ولقراءته بصميم القلب مهطعين، عسى أنهم لأصول المذهب يعرفون، ولأهل الحق يعترفون، وسميته كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة".

لا يشير الإزكوي إلى مصادره إشارة صريحة ولكن المتتبع للكتاب يجد أنه اعتمد على المصادر الفقهية مثل بيان الشرع والمصنف والاستقامة وجامع ابن بركة، كما اعتمد على الروايات الشفهية التي نقلها سماعا من شخصيات عاصرها فنقل عنهم رواياتهم، ولم ينقل الإزكوي الخبر دون تمحيص واستقراء فهو يحرص تمحيص الخبر التاريخي وتحليله. أما فيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي فمن أبرز مصادر كشف الغمة كتاب محمد بن جرير الطبري تاريخ الأمم والملوك، ورجع إلى المسعودي صاحب مروج الذهب، وابن كثير صاحب البداية والنهاية، وابن خلدون في كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر، وابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ وابن الكلبي و الدرجيني و الشماخي.

يعد كتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة مصدرا مهما جدا في كتابة التاريخ العماني، حيث استفاد منه جميع من كتب في التاريخ العماني ممن جاؤوا بعد الشيخ الإزكوي كصاحب كتاب قصص وأخبار جرت في عمان أبي سليمان محمد بن عامر المعولي، وابن رزيق الذي استفاد من كشف الغمة في كتابة جميع مؤلفاته التاريخية ككتاب الفتح المبين، وكتاب الشعاع الشائع باللمعان، وكتاب الصحيفة القحطانية وكتاب الصحيفة العدنانية، والشيخ نور الدين السالمي في كتابة تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان.

للشيخ سرحان أمبوعلي مؤلفات أخرى مثل كتاب الجامع المفيد في أحكام أبي سعيد، حيث جمع ورتب عدد من أجوبة الشيخ أبي سعيد الكدمي ويقع الكتاب في خمسة أجزاء. وله أيضا كتاب "نور البيان في تفسير القرآن، وله عدد من الأجوبة متناثرة في كتب الأثر، وله قصائد شعرية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسائل كثيرة في المواريث مما يعني تمكنه من هذا العلم الذي يحتاج إلى معرفة واسعة ودقيقة في الفقه والحساب، وله تقريض لكتاب المهذب وعين الأدب لمؤلفه الشيخ محمد بن عامر بن رشد المعولي، قال في مطلعها:

أتيت بتصنيف سلالة عامر

حكى الكوكب الدري في عين ناظر

وبينت فيه للفرائض مذهبا

جمعت به أشتاتها في الدفاتر

وأوضحت فيه مشكلات علومها

وحليتها من قول أهل البصائر

رحم الله الشيخ سرحان بن سعيد الإزكوي فهو علم بارز من أعلام عُمان الذين حفظوا تاريخ عُمان وساهموا في تعريف العالم بأمجاد عُمان ومشاركتهم في بناء صرح التاريخ الإنساني.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التاریخ العمانی الأحداث التی الشیخ سرحان فی التاریخ تاریخ ع محمد بن

إقرأ أيضاً:

معقولية نظرية التكليف الإلهي مقابل قصور الأطروحة القانونية العلمانية.. كتاب جديد

الكتاب: لإنشاء الأحكام بين أصول الفقه وعلم الكلام
المؤلف: عمر فرحات
ترجمة: محمود عبد العزيز أحمد
الناشر مركز نهوض للدراسات والبحوث
الطبعة الأولى ـ السنة 2024
عدد الصفحات:304


لخص كثير من المفكرين الخلاف بين العلمانية ونظرية التكليف الإلهي في مبدأ السيادة ومصدر الاستمداد، فجوهر العلمانية في فكر طه عبد الرحمان على سبيل المثال يقوم على فكرة تسيد الإنسان، والاعتماد على العقل كمصدر للاستمداد، سواء تعلق الأمر بالاستمداد المعرفي (الاستمداد العام) أو تعلق بالاستمداد القانوني أو الفقهي (الاستمداد الخاص). ولئن هذا العصر طبع بهيمنة العلمانية، لاسيما في مجال الاستمداد القانوني، فقد أضحت فكرة الاستمداد من الوحي لبناء النظرية القانونية أو بناء الأحكام الفقهية التي تنظم حياة الناس، نوعا من الانتظام في الماضي حتى سادت مقولات وكليشيهات تنسب هذا الانتظام المعرفي، بكونه يعاكس تطور العصر، ويسير في الاتجاه المضاد للعقلانية والحداثة.

ويزيد الأمر تعقيدا حين يتعلق الأمر بالنظرية القانونية، التي جرى فيها تهميش المدرسة المثالية التي ترى في القانون نشدانا لمثال أعلى ينبغي أن يستهدي به، لفائدة المدرسة الواقعية التي ترفض البحث الذي يتجاوز القواعد القانونية القائمة، وترفض إدخال أي شيء وراء القانون، لاعتقادها أن القانون هو ابن بيئته، وابن الواقع، وصنيعة الجماعة، فصارت نظرية التكليف الإلهي-تبعا لهذا التصنيف والتهميش أيضا،  خارج دوائر الاهتمام، ليس فقط لأنها تستمد المادة القانونية من مثال أعلى، بل أيضا لأن سمة الثبات والاستقرار فيها، تجعلها عاجزة عن  لا تساير تطور المجتمع، ولأنه بدلا من أن  تهتم ببناء المادة القانونية وتعديلها ومراجعتها انطلاقا من حركتها في الواقع، أو انطلاقا من شكل تعاطي المجتمع معها، تعتبر أن السلوك الإنساني يفتقر إلى  توجيه السماء وإرشادها.

بين يدي الكتاب

يخوض الكتاب الذي بين أيدينا" إنشاء الأحكام بين أصول الفقه وعلم الكلام: فلسفة الكم الشرعي في التراث الإسلامي" لمؤلفه عمر فرحات في جزئية جد دقيقة، تركز على سؤالين اثنين: ما السبب الذي يجعلنا نلتمس من الوحي من الإلهي الهداية لأفعالنا؟ وكيف يكون ذلك منا؟ ويجعل من التراث الإسلامي، وبخاصة التراث الكلامي والأصولي، مادته الأساسية للإجابة عنهما، بحيث لا يقتصر الكتاب على القرن الخامس الهجري وإنما يتعداه حتى لواقعنا المعاصر.

يتميز الكتاب، الذي هو عبارة عن أطروحة دكتوراه حصل عليها الباحث عمر فرحات من جامعة كولومبيا، ثم تم تطويرها، بعدم الاكتفاء بالتعمق في نظريات علم الكلام وعلم أصول الفقه، وإنما مد الباحث نظراته العميقة بتوظيف جملة أدوات منهجية ومعرفية استقاها من حقول معرفية مختلفة، مثل مباحث القانون والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا وغير ذلك، مما أكسب الكتاب عمقا نظريا وتجريديا يصعب فهم   أطروحته دون تخصص، ودون عمق وروية.

أثبت المؤلف ضمن خلاصاته المركزية في أطروحته سمتين للفكر الإسلامي الكلاسيكي، أولاهما أن العلماء حين أصلوا لمذهب أو نظرية التكليف الإلهي ولمدى الحاجة للاعتماد على الوحي بحجة عدم كفاية العقل المجرد، وبحجة جبر ما تأصل في البشر من العجر عن إدراك للأحكام الموضوعية العامة. وأما السمة الثانية، فهي نزوع التراث الفقهي إلى اعتبار إنشاء الأحكام قضية جماعية تنتظم جماعة المؤمنين.في الواقع، قد يبدو الكتاب من عنوانه، كما ولو كان مندرجا ضمن التاريخ الفكري الذي يعني بتتبع جدل وسجالات المذاهب في مرحلة تاريخية معنية، أو يعني بتتبع تشكل مفهوم من المفاهيم وتطورها في حقل من الحقول المعرفية مثل علم الكلام،  لكن، الأمر هو خلاف ذلك تماما، فمع أن المؤلف اتخذ من المادة الكلامية والأصولية مستنده في هذا الكتاب، إلا أن أفقه، كان ممتدا للواقع المعاصر، وطرح معضلته الرئيسة المتمثلة  في النظر في إمكان الإفادة من نظرية التكليف الإلهي في بناء القاعدة القانونية ومناقشة معقوليتها، وهل هي مجردة تماما من المعقولية، أم أن لها نسقها العقلاني، الذي من الممكن أن يكون له تأثير إيجابي على النظرية القانونية، فلم يكن قصد المؤلف وضع العلماء الذين أورد مقولاتهم ضمن قوالب نظرية، وإنما كان قصده بالدرجة الأولى، تحري الاتجاهات النظرية العامة في مصنفاتهم، والتوقف أمامها بعمق وروية من أجل الاستهداء بالأسئلة التشريعية والأخلاقية التي تعرفها المجتمعات الإنسانية، وذلك بغض النظر عن الحدود التاريخية والسياقات التي أنتج فيها هذا التراث الكلامي والأصولي.

يتألف الكتاب من مقدمة وبابين وخاتمة، ويضم كل باب ثلاثة فصول، وقد حرص المؤلف في مقدمة كتابه أن يعرض بدقة للسؤال البحثي الذي يشتبك معه، إذ اختار أن يجعل من المادة التراثية (الفكر الإسلامي الكلاسيكي) مجسدة في علم الكلام وعلم الأصول، متنا للجواب عن إشكاليات ما بعد العلمانية، أي إمكان الإفادة من نظرية التكليف الإلهي في بناء القاعدة القانونية، أو على الأقل إمكان أن تقدم هذه النظرية جوابا عن الإشكالات والتحديات التي انتجتها النظريات القانونية المشحونة بالخلفية العلمانية.

تناول المؤلف في الباب الأول، ثلاثة إشكالات مختلفة داخل علم الكلام الكلاسيكي، يتعلق الأول بالبحث في التراث الكلامي عن مصدر المعرفة، وهل العقل يستقل بها، أم أنه يقصر عن إدراك الكلام الكلامي، ويتعلق الثاني بمقام الإله بين البشر من خلال ميتافيزيقا علم الكلام، ويتعلق الثالث بماهية الكلام الإلهي في علم الكلام الكلاسيكي.

وأما الباب الثاني، فقد كان مصدر البحث فيه، في التراث الأصولي، وتحديدا في مباحث الأمر (ماهية الأمر الإلهي في النظرية الأصولية الكلاسيكية، والتكليف بصيغة الأمر)، كما ناقش المؤلف في الفصل الثالث من هذا الباب (الفصل السادس في الكتاب) بقاء القانون الطبيعي في علم أصول الفقه، وختم بحثه بجملة خلاصات مهمة، كلها تقريبا مرتبطة بالإشكالات التي تعرض لعالمنا المعاصر، وتحديدا التحديات التي تطرحها النظريات القانونية العلمانية، أو الإشكالات التي نتجت عنها (إشكالات ما بعد العلمانية).

في سمات النموذج الإسلامي للتكليف الإلهي

أثبت المؤلف ضمن خلاصاته المركزية في أطروحته سمتين للفكر الإسلامي الكلاسيكي، أولاهما أن العلماء حين أصلوا لمذهب أو نظرية التكليف الإلهي ولمدى الحاجة للاعتماد على الوحي بحجة عدم كفاية العقل المجرد، وبحجة جبر ما تأصل في البشر من العجر عن إدراك للأحكام الموضوعية العامة. وأما السمة الثانية، فهي نزوع التراث الفقهي إلى اعتبار إنشاء الأحكام قضية جماعية تنتظم جماعة المؤمنين.

وقد انتهى المؤلف في استقرائه لمدارس علم الكلام (الأشعرية والاعتزالية) إلى أن الاتهامات بالنصوصية والإرادية والتحكم التي طالما وصفت بها نظريات التكليف الإلهي تفتقد إلى الدقة العلمية، وتغفل جوانب مهمة من نظم إنشاء الكلام في التراث الكلاسيكي، وقد ذكر منها خمسة جوانب أساسية، أولها الشكوكية المعرفية، سواء اتصلت بإمكان إدراكنا للقيم الأخلاقية ام تعلقت بقدرتنا على الوقوف على المراد الإلهي.

ويتعلق الثاني بالفصل الميتافزيقي الصارم الذي يتبوأ فيه الإله منزلة لا تحيط بها تجارينا الدنيوية.

والثالث، اعتبار الكلام الإلهي صفة قديمة، لا فعلا، واعتبار الأمر الإلهي صفة متعالية ذات أثر معياري.

 والجانب الرابع، وهو أن الأحكام العملية الناشئة عن نظام إنشاء الكلام في التراث الكلاسيكي ليست محض استنباط من الكلام الإلهي، وإنما تبنى هذه الأحكام على التداول الجماعي، ويتعلق الخامس، بوجود سيادة اعتبارات المعقولية والعملية في المناهج الأصولية الموضوعة للنظر في النص الإلهي على الرغم من استمدادها المركزي من الوحي.

على الرغم من الطابع التجريدي والتخصصي للكتاب، إلا أن السؤال البحثي الدقيق الذي اشتغل عليه، ونوع المقاربة التي اختارها، فضلا عن النتائج التي انتهى إليها، تعزز الحاجة إلى ابتكار مناهج وآليات جديدة لمناقشة الفرضيات العلمانية، والتي أضحت تشكل مسبقات جاهزة، تحكم المعرفة بكل حقولها، وتهيمن على الباحثين حتى في العلوم ذات العلاقة بالتراث الإسلامي.تركيب هذا النقد الذي صاغه المؤلف بكل نسبية وهو يتحدث عن جوانب مغفلة في دراسة نظرية التكليف الإلهي من لدن الدارسين لاسيما منهم الغربيين، أن المقولات الجاهزة التي توصم بها هذه النظرية، تحتاج إلى مراجعة شاملة، وأن هناك حاجة للتدقيق في الآثار السلبية للنظريات القانونية العلمانية، والتي تحجب عن أي نظرية قانونية تجعل من الوحي مستندها لبناء الأحكام، خصائصها العقلانية والموضوعية، وتنسبها بتحكم مسبق إلى معاداة العقل أو معاداة التطور الذي بصم عليه المجتمع العلماني، إذ بينت هذه الدراسة الحاجة إلى دراسة البعد العقلاني في التراث الكلامي والأصولي المؤسس لنظرية التكليف الإلهي، وأن استناد النظرية إلى الوحي، لا يعني تجردها من المعقولية، وأن ما يؤكد خطأ هذا الادعاء غير العلمي، أن  عملية بناء الأحكام، مع ارتكازها على الوحي، كانت تتم ضمن فضاء تداولي جماعي، وكان التعليل والتعليل المضاد، محكوما بقواعد عقلانية،  بل كان الترجيح أيضا يحتكم إلى هذه القواعد، وليس مجرد استنباط من الوحي، وفهم لدلالات النص القرآني.

في حاجة واقع ما بعد العلمانية للإفادة من نظرية التكليف الإلهي لترشيد النظرية القانونية

يشير الباحث في أهم خلاصات بحثه إلى ظاهرة الإهمال التي طالت نظرية التكليف الإلهي في الدرس الحديث للقانون والأخلاق، ويعزو هذا الإهمال إلى سيادة فرضية عامة تقضي بوجود تنازع مبدئي بين الحقول الفكرية التي تسلم بالمفاهيم الإيمانية، كالوحي، وتتخذها منطلقا من جهة، وبين الفكر الفلسفي والنظري الصحيح من جهة أخرى، إذ يقع على عاتق المفكر تبعا لذلك أن يثبت قدرته على الامتثال الناجع لمقتضيات العقل العلماني. وأن ذلك ما يفسر شيوع مقاربات القانون الطبيعي في الأخلاق الإيمانية في الدرس المعاصر، بحكم أن منظري القانون الطبيعي سلموا بطائفة من الفرضيات الأخلاقية العلمانية المسبقة عن القصور الجوهري للفكر المستند إلى الوحي.

وقد كان من بين أهداف المؤلف في أطروحته أن يناقش هذه الفرضيات ويبين قصورها ووهنها وذلك بالاستناد إلى تقديم قراءة للنظريات الإسلامية الكلاسيكية في باب الكلام والأمر الإلهي.

وقد قدم المؤلف من خلال هذه الأطروحة أجوبة موضوعية على الاعتراضات العلمانية الأساسية على الفكر الإيماني، فكشف ابتداء أن اتجاهي القانون الطبيعي والتكليف الإلهي في علم الكلام الكلاسيكي إنما صدرا عن خلاف معرفي أساسي لا عن تمسك مسبق بالوحي أو إعراض عنه. وبين في الفصل الأول من كتابه وجها من وجوه النفع المثمرة لعلماء الأخلاق المؤمنين المعاصرين، وذلك بسبر نواحي القصور في الأخلاق غير الإيمانية من خلال اتخاذ صورة من صور الشكوكية المعرفية، واعتبر المؤلف أن شأن هذه الشكوكية أن تهيئ للوحي سبيلا لإنشاء ضرب من الأحكام العامة بناء على التجربة البشرية المعتادة وليس المعجزة.

كما قدم في الباب الثاني الذي اتخذ التراث الأصولي مستندا ومادة للبحث، أدلة أخرى إضافية لتبديد الاعتراضات العلمانية، منها أن مناقشة رأي الأصوليين في الإرادة الإلهية لإيقاع الفعل من الأفعال، وهل ترجع إلى حسن الفعل، أن الأمر صفة إلهية قديمة سابقة عن مفهوم الحسن، وقدم في مناقشة الخلافات بين المدارس الأصولية، ما يبدد جزءا من الاعتراضات العلمانية على نظرية التكليف الإلهي.

على أن الحجة الأظهر في الكتاب للرد على هذه الاعتراضات العلمانية، هي ما بينه المؤلف في الفصل الخامس، وذلك حين بحث العمليات الدلالية والتفسيرية التي يثمر الأمر الإلهي من خلالها إنشاء للإحكام الأخلاقية، فانتهى في نقاشه إلى أن التمسك بالمذهب لم يكن حاسما في تشكيل الأقوال الأصلية، وأن الأصوليين قد اتخذوا من بعض صور البناء الاجتماعي منهجا جماعيا لإنشاء الأحكام، كما توقف على أثر الاتجاهات المستقلة عن الوحي في النظريات الأصولية، والتي تستند إلى التعليل المصلحي والمقاصدي، ولا تكتفي باستثمار الأحكام من النص دلالات اللغة.

على الرغم من الطابع التجريدي والتخصصي للكتاب، إلا أن السؤال البحثي الدقيق الذي اشتغل عليه، ونوع المقاربة التي اختارها، فضلا عن النتائج التي انتهى إليها، تعزز الحاجة إلى ابتكار مناهج وآليات جديدة لمناقشة الفرضيات العلمانية، والتي أضحت تشكل مسبقات جاهزة، تحكم المعرفة بكل حقولها، وتهيمن على الباحثين حتى في العلوم ذات العلاقة بالتراث الإسلامي.  

وقد أحسن الباحث، بالإفادة من أدوات معرفية ومنهجية مستوحاة من حقول معرفية مختلفة، من المناقشة الحذرة للأطروحة العلمانية، ومن بيان تهافت حججها، وبيان قصورها ووهنها، ومدى الحاجة إلى ترشيدها وتطوير المعرفة الإنسانية، بالإفادة من نظريات التكليف الإلهي، ودراسة نسق المعقولية الخاصة بها.

مقالات مشابهة

  • الاعلان عن نتائج البكالوريا في هذا التاريخ
  • مجموعةإي فاينانس للاستثمارات المالية والرقمية: كافة خدماتنا متاحة لجميع المستخدمين
  • معقولية نظرية التكليف الإلهي مقابل قصور الأطروحة القانونية العلمانية.. كتاب جديد
  • كتاب جديد يكشف أسرار الأمير.. «بن سلمان» بين ألعاب الفيديو ورؤية 2030
  • بعد اعتقال عصابة سرقته.. فقدان كتاب التوراة الأثري بين جهات رسمية
  • عملة تذكارية من الفضة احتفالًا بمرور 45 عامًا على تأسيس اتحاد كتاب مصر
  • حفل توقيع وإشهار كتاب “يافا ترتعد ” للكاتب والروائي مراد شلي
  • نتنياهو والنظام.. كيف تُدار إسرائيل بخيوط الخوف والدعاية؟ قراءة في كتاب
  • قراءة في كتاب: “من أسرار الذِّئب”
  • سوري يستخرج ألفي كتاب خبأها تحت الأرض قبيل اقتحام قوات الأسد قريته