استعادة القصر الجمهوري من سيطرة قوات الدعم السريع يمثل لحظة فارقة في مسار الحرب السودانية، لكنه يفتح الباب أمام أسئلة أعمق تتجاوز مجرد السيطرة العسكرية على مبنى، لتغوص في جوهر أزمة الدولة السودانية ذاتها.
فهل يمثل هذا التحرير خطوة نحو الاستقرار، أم أنه مجرد مرحلة جديدة من الدوران في حلقة مفرغة من الصراع المسلح؟

كرمز للأزمة السودانية
القصر الجمهوري ليس مجرد مبنى، بل هو رمز لمعضلة أعمق تتعلق بشرعية السلطة في السودان.

فمنذ تشييده في عهد غوردون باشا، ظل القصر يعبر عن استمرارية الحكم العسكري والاستبدادي، سواء بأيدي المستعمرين أو عبر الأنظمة الوطنية التي تولت السلطة بعد الاستقلال. في كل مرة يُرفع شعار "تحرير القصر"، لم يكن ذلك تعبيرًا عن سيادة شعبية بقدر ما كان إحلال قوة مسلحة محل أخرى.
القصر الجمهوري كان وما زال مقرًا تتصارع عليه القوى العسكرية، في حين ظل الشعب خارج معادلة السلطة الفعلية. واليوم، بينما يُحتفى بتحرير القصر، يبقى السؤال الحقيقي: متى يتم تحرير الدولة السودانية نفسها من قبضة العسكر والمليشيات، ومن عقلية الاستحواذ على الحكم بالقوة؟

إرث البندقية ومأزق الحكم
لا يمكن فهم الحرب الحالية بمعزل عن تاريخ عسكرة السياسة في السودان. فمنذ أن نشأ الجيش كأداة لحماية الاستعمار، ثم تحوّل لاحقًا إلى الحاكم الفعلي بعد الاستقلال، ظل السودان أسيرًا لدورات متكررة من الانقلابات العسكرية والصراعات المسلحة. الجيش والمليشيات المتناحرة اليوم يعيدون إنتاج هذا الإرث، في معركة لا يبدو أن لها نهاية قريبة.
المفارقة أن الدعم السريع، الذي تأسس أساسًا كقوة موازية للجيش، انتهى إلى مواجهة شاملة معه، في إعادة إنتاج مأساوية لمعضلة الشرعية المسلوبة من الشعب. وبالتالي، فإن الحديث عن تحرير القصر يظل ناقصًا ما لم يترافق مع نقاش أوسع حول تحرير السياسة السودانية من هيمنة العسكر.
ما بعد التحرير هو السؤال الواقعي هل نحن أمام استعادة الدولة أم إعادة تدوير الأزمة؟
تحرير القصر قد يمثل انتصارًا عسكريًا للجيش، لكنه لا يجيب على السؤال الأهم: هل يقود ذلك إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية، أم أنه مجرد إعادة تموضع للقوى العسكرية نفسها؟
الوقائع على الأرض تشير إلى أن الأزمة لم تحل، بل قد تأخذ أشكالًا جديدة من الصراع، خاصة في ظل استمرار تعدد الجيوش والمليشيات، وغياب رؤية واضحة لمشروع سياسي يضع السودان على طريق الاستقرار. إن خطاب "تحرير السيادة الوطنية" يظل فارغًا ما لم يترافق مع إصلاح حقيقي للدولة، عبر إعادة تعريف دور الجيش، وتفكيك المليشيات، وإنهاء سيطرة العسكريين على الحكم.

الصمت المريب للقوى المدنية
جاء تحرير القصر الجمهوري في سياق سياسي وعسكري معقد، وكان من المتوقع أن يكون لهذا الحدث صدى واسع لدى القوى المدنية التي لطالما رفعت شعارات استعادة الدولة والانتقال الديمقراطي. لكن المفاجئ أن هذه القوى التزمت الصمت، أو اكتفت بمواقف ضبابية، مما أثار تساؤلات حول مدى صدق التزامها بمواقفها المعلنة.
لقد ظل القصر الجمهوري رمزًا للسلطة، وكان استعادته لحظة فارقة في مسار الأحداث. ورغم ذلك، لم يصدر عن القوى المدنية أي موقف واضح، بل اختارت موقف المتفرج. هذا التجاهل قد يعكس حالة من التردد والانقسام، بين من يرى أن استعادة القصر خطوة نحو استعادة الدولة، ومن يخشى أن يُحسب موقفه انحيازًا لطرف دون آخر.
بعض الفاعلين المدنيين بدوا وكأنهم يراهنون على استمرار حالة السيولة السياسية لتحقيق مكاسب طويلة الأمد، حتى لو كان ذلك على حساب موقف وطني واضح. وهذا ما يضعف مصداقيتهم أمام الرأي العام، ويجعل موقفهم أشبه بمحاولة التكيف مع الواقع بدلًا من التأثير فيه.

نحو مقاربة مختلفة للمستقبل
إذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من تحرير القصر، فهو أن السودان لن يجد استقراره عبر الانتصارات العسكرية وحدها، بل من خلال إعادة بناء شرعية سياسية على أسس ديمقراطية، حيث تكون الدولة ممثلة للجميع، وليس مجرد غنيمة تتنازعها البنادق.
إن القصر الجمهوري لن يتحرر فعلاً إلا عندما يصبح مؤسسة مدنية تعبّر عن إرادة الشعب، بدلاً من أن يكون ساحة للمعارك بين الفرقاء المسلحين. وإلى أن يتحقق ذلك، فإن السودان سيظل عالقًا في دوامة من العنف والاستقطاب، مهما تغيرت القوى المسيطرة على القصر.
* استعادة القصر الجمهوري تظل حدثًا رمزيًا، لكنه لا يحمل في طياته حلًا جذريًا لأزمة الدولة السودانية.
صمت القوى المدنية تجاه هذا الحدث يعكس حالة من التردد والانقسام، مما يضعف مصداقيتها ويفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول مدى استعدادها لتحمل المسؤولية في المرحلة المقبلة. المستقبل السوداني لن يُبنى بالانتصارات العسكرية وحدها، بل بإعادة بناء شرعية سياسية تعتمد على إرادة الشعب، وتفكيك إرث البندقية الذي ظل يهيمن على الدولة منذ عقود.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القصر الجمهوری استعادة القصر تحریر القصر

إقرأ أيضاً:

حرب تصريحات بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري حول حماس وفلسطين

ردّ المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية ونائب رئيس الحزب، عمر تشيليك، بشدة على تصريحات زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزَيل، التي انتقد فيها موقف الرئيس رجب طيب أردوغان من القضية الفلسطينية.
وقال تشيليك، في منشور عبر حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي، إنّ:

“محاولة أوزغور أوزَيل التشكيك في مشاعر رئيسنا تجاه فلسطين أمر لا يأخذه على محمل الجدّ أي شخص يدعم هذه القضية. وإذا سُمعت تصريحاته في أي مكان في فلسطين، فستُعتبر امتدادًا للدعاية الإسرائيلية”.
وأضاف:
“أوزغور أوزَل يتبنّى نمطًا سياسيًا يركّز على شكوى تركيا للجهات الأجنبية، ومحاولته التشكيك في شجاعة رئيسنا تُعدّ عبثًا سياسيًا لا يمتّ للعقلانية بصلة”.

وشدّد على أن الرئيس أردوغان يؤكد في جميع اجتماعات الحزب على أن البوصلة السياسية يجب أن تكون “رضا الله ودعاء الشعب”، مشيرًا إلى أن الرئيس لا يخاف أو يتراجع أمام أي جهة أو شخصية سياسية حول العالم عند اتخاذ قراراته.

وأشار تشيليك إلى أن أردوغان كان من أوائل من أدانوا الأنشطة الصهيونية لإسرائيل، حتى قبل ارتكابها مجازرها الأخيرة، وأن مواقفه الجريئة لاقت تقديرًا في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

 انتقاد حادّ لأوزَيل بشأن حماس
كما انتقد تشيليك مواقف أوزغور أوزَيل من حركة حماس، قائلًا:
“لقد وصف حماس بأنها منظمة إرهابية، ثم حاول التراجع لاحقًا، قائلاً إنه لم يقل ذلك وإنما وصف أعمالها بأنها إرهابية. هذا الخطاب لا يُستخدم إلا من قِبل الداعمين للسياسات العدوانية الإسرائيلية”.

اقرأ أيضا

في تركيا.. المنتجات التي ارتفعت وانخفضت أسعارها في يوليو

السبت 02 أغسطس 2025

وأضاف:
“ان الرئيس أردوغان، سُئل في الولايات المتحدة عن حماس، فقال بوضوح: (لا يجوز وصفهم بالإرهابيين. إنهم وطنيون يدافعون عن أرضهم ضد الاحتلال الإسرائيلي)”.

مقالات مشابهة

  • واكوا الجراب على العقاب
  • كتاب «أسرار الصراع السياسي في السودان».. رؤية تحليلية لجذور الأزمة السياسية السودانية
  • هناك تحولات حقيقية حدثت في الحرب بعد تحرير ولاية الخرطوم وبداية التقدم غربا
  • حرب تصريحات بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري حول حماس وفلسطين
  • الشرعية تعود بقوة.. وزارتي المالية والخارجية تغادران الرياض إلى عدن وتُعلنان استعادة القرار من الداخل!
  • الشرطة السودانية.. آليات جديدة لتعزيز العمل الأمني وبسط هيبة الدولة
  • قبلان: لا يملك أحد شرعية نزع القوة الدفاعية التي تحمي لبنان
  • “بن شرادة” يحذر من استئثار البعثة الأممية بصناعة السلطة المقبلة دون إشراك القوى وشرائح المجتمع
  • رعد في القصر الجمهوري ووفيق صفا في اليرزة
  • عناوين الصحف السودانية الخميس 31 يوليو 2025