حين تكتب الروح لتجد نفسها
تاريخ النشر: 22nd, March 2025 GMT
محمد أنور البلوشي
هل توقفت يومًا للحظة وتساءلت: هل فقدنا أرواحنا؟ لا أعني ذلك بطريقة غامضة أو خارقة للطبيعة، بل أقصد الطريقة التي نعيش بها، الخيارات التي نتخذها، والتناقضات التي نجسدها. نتعلم ما هو صحيح، ومع ذلك، نُمارس ما هو خاطئ. نُعلِّم القيم، لكننا نتخلى عنها خارج قاعة الدراسة. وكأننا نؤدي أدوارًا في مسرح الحياة، حيث يُطالب النص بالنزاهة، لكن الممثلين يستمرون في الارتجال بالنفاق.
والنتيجة؟ تآكل بطيء، يكاد يكون غير محسوس، لأرواحنا. نطارد النجاح، والمال، والاعتراف، والسلطة، لكن في هذه المطاردة، نترك وراءنا جوهر من نكون حقًا.
المؤلم في الأمر؟ أن كثيرين منَّا لا يلاحظون ذلك حتى. لكن بالنسبة لأولئك الذين يفعلون، هناك لحظة، لحظة هادئة، مقلقة حين ينظرون إلى انعكاسهم في المرآة ويشعرون بإحساس عميق بالخجل.
أحد أصدقائي اعترف لي مؤخرًا: "لم أعد أعرف من أنا بعد الآن. أفعل ما يُفترض بي أن أفعله، لكنني لا أشعر بشيء. أقول أشياء لا أؤمن بها. أُظهِر اهتمامًا بأمور لا تعني لي شيئًا. أين أخطأت؟"
أردت أن أجيبه، لكنني لم أعرف ماذا أقول. لأنني، بصراحة، أشعر بنفس الشيء.
لا أعتقد أنه من السهل العثور على الذات الحقيقية في عالم اليوم، خاصةً وسط سباق الفئران الذي لا يرحم في ظل الرأسمالية. كل شيء يدور حول الأعمال التجارية، والمال، والأرباح.
حتى التعليم، الذي من المفترض أن يغذي العقل والروح، تحول إلى صناعة تجارية. الجامعات والكليات، التي كانت يومًا معابد للمعرفة، أصبحت تُدار مثل الشركات. لم يعُد يُنظر إلى الطلاب على أنهم متعلمون، بل زبائن.
أما جودة التعليم؟ في كثير من الأحيان، يتم تحديدها بناءً على ما هو مربح بدلاً من ما هو مُلهِم ومُغيِّر للحياة.
طالبة تحدثت معها كانت غاضبة للغاية وقالت: "إذا كانت الكليات الخاصة مهتمة فقط بجني المال، فلماذا لا تستثمر في العقارات بدلاً من العبث بمستقبلنا؟"
وكانت محقة. عندما يصبح الربح أكثر أهمية من التعلم، تفقد العملية التعليمية روحها. بدلاً من إنتاج مفكرين ومبدعين ومبتكرين، نقوم بتخريج أفواج من الطلاب الذين يكافحون لإيجاد مكان لهم في هذا العالم.
أحد الباحثين عن عمل قالها بصراحة في معرض توظيف: "أفضل أن أصبح روائيًا على أن أكون مهندسًا غير محترف أو محاضرًا غير مؤهل."
لقد أصابتني كلماته بصدمة. كان محقًا. ما فائدة الحصول على شهادة إذا لم تكن تعكس معرفة حقيقية أو مهارة؟ إذا كان التعليم مجرد معاملة تجارية-ادفع المال، احصل على شهادة-فما الذي تبقى من جوهره الحقيقي؟
ربما لهذا السبب فكرت في أن أصبح روائيًا بنفسي. ليس لأنني أعتقد أن كتابة الكتب ستجعلني ثريًا، ولكن لأنها، على الأقل، ستسمح لي بأن أكون صادقًا.
الكتابة لا تطلب مني أن أتصنع. لا تجبرني على الانسجام مع نظام يُقدِّر الأرقام أكثر من الأرواح. إنها تمنحني الفرصة للتعبير، والتساؤل، والاستكشاف دون الحاجة إلى التظاهر بالحماس تجاه شيء لا أؤمن به.
في عالم يلاحق فيه الناس الترقيات، والمسميات الوظيفية، ورضا الشركات، أتساءل: كيف سيكون الشعور بمطاردة المعنى بدلاً من ذلك؟ ماذا لو لم يكن النجاح يقاس بالراتب، بل بعمق ما نُبدِعه؟ ماذا لو كانت الجملة المتقنة ذات قيمة توازي المبنى المشيد بإحكام؟ ماذا لو كان الشغف أهم من المنفعة؟
ليس لدي كل الإجابات. وربما لا أحد منا يملكها. لكن ما أعرفه هو أن الخطوة الأولى لاستعادة أرواحنا هي إدراك أننا فقدناها في المقام الأول. وربما، فقط ربما، تبدأ الرحلة نحو استعادتها. وربما، بالنسبة لي، تبدأ تلك الرحلة بورقة بيضاء وقلم.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مونيكا وليم تكتب: مكتسبات زيارة ترامب إلي الخليج.. بين المناورة والتوازن
في تحول لافت يعكس تغيّرًا في بوصلة السياسة الخارجية الأمريكية، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المملكة العربية السعودية لتكون أول محطة له في جولته الخارجية الأول، بحيث تشكل هذه الخطوة استمرارًا لنمط بدأه ترامب في ولايته الأولى، حين كانت الرياض أيضًا أولى وجهاته الخارجية، لكنه في هذه المرة يعزز رسالة مفادها أن الخليج العربي أصبح يمثل أولوية استراتيجية في حسابات الولايات المتحدة، لاسيما بعد تصعيده ضد حلفاؤه في أوروبا وأيضا دول الجوار كندا وإسرائيل.
ومن ثم انطلقت تفسيرات عدة حول أبعاد الزيارة وما تحمله من دلالات على صعيد التوازنات الإقليمية والدولية، وتسعى هذه المقالة إلى الغوص في هذه الأبعاد وتحليل خلفياتها بشكل أعمق؛ وذلك من خلال تفكيك السياقات السياسية المحيطة، واستقراء الرسائل غير المعلنة التي أكدتها الزيارة، في ظل التغيرات المتسارعة في النظام الدولي.
فعلي صعيد الجانب النظري، من الممكن حصر أهداف ودلالات الزيارة في عدة كلمات تتمثل في تعزيز الشراكات الاقتصادية والدفاعية، من خلال صفقات تسلح واستثمارات متبادلة، في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبنى التحتية، وهو ما يصب في رؤية ترامب الاقتصادية لإعادة الهيمنة الأمريكية من خلال “الصفقات الكبرى ” مع حلفاء رئيسيين في الخليج، كالسعودية، وقطر والإمارات، خاصة في ظل مساعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتوفير رافد استثماري خلال فترة رئاسته، يضمن تدفق وضخ أموال بالداخل الأمريكي خلال إبرام صفقات ضخمة تحقق مصالح الجانبين، فعلي سبيل المثال فقد يبلغ الاستثمار السعودي حوالي تريليون دولار، وعلي الجانب الاخر ستضخ الأمارات استثمارات بنحو 1.4 تريليون دولار.
وفيما يخص أهمية هذه الزيارة ودورها في تشكيل خريطة الشرق الأوسط وتغيير مسار وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة ، وذلك خلال التأكيد على دور الولايات المتحدة كضامن للأمن والاستقرار في المنطقة، والتشديد على أن اهتمام أمريكا بمنطقة الباسيفيك لن يكون على حساب منطقة الخليج العربي، من جهة أخري تحقيق تفاهمات بشان قضايا المنطقة وأزماتها وهو ما برزت ملامحه من خلال تغيير سياساته في الشرق الأوسط وتمثل ابرزها في 3 صور، تصاعد الخلاف مع نتنياهو، المساعي لأنهاء الحرب في قطاع غزة وأيضا وصف الرئيس الأمريكي يوم 12 مايو2025 للحرب في القطاع بأنها حرب وحشية.
ومع استقراء المضامين المتزامنة والتي تتمثل في ملفات لا تزال عالقة في توازنات معقدة إقليميًا ودوليًا، فقد تأتي الزيارة في ظل تحولات دولية كبرى وتصاعد التنافس الدولي، إذ لا تزال آثار الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلالها على توازنات القوى، إلي جانب تعاظم ملامح النظام الدولي الجديد القائم على التعددية القطبية، لاسيما مع تزايد نفوذ الصين في الشرق الأوسط، وتنامي الدور الروسي في إفريقيا وأجزاء من الخليج، فضلا عن رغبة إسرائيل في استمرار القتال وتوسيعه في غزة للسيطرة على القطاع وسط معارضة أمريكية، تراجع قدرات إيران الإقليمية مع تراجع قوة الجماعات الموالية لها مثل حزب الله والميليشيات العراقية، واخيرا استمرار جهود سورية لرفع العقوبات الأمريكية وتحقيق الاستقرار وسط تنافس تركي إسرائيلي على النفوذ في البلاد.
تراجع حدة الحرب التجارية العالمية بعد إبرام واشنطن وبكين اتفاقاً لخفض التعريفات الجمركية بحيث خفضت التعريفات الجمركية 10% علي البضائع الأمريكية وخفضت الولايات المتحدة التعريفات علي الواردات الصينية لتصل إلي 30%، استمرار المفاوضات بين واشنطن وطهران لإبرام اتفاق نووي جديد وسط رغبة إسرائيلية بضرب المنشآت النووية الإيرانية.
وبالنسبة لواشنطن، فإن الخليج لم يعد مجرد مصدر للطاقة، بل ساحة تنافس جيوسياسي على النفوذ، خصوصًا في ظل تقارب بعض الدول الخليجية مع موسكو وبكين.
علاوة على ذلك، تُجرى هذه الزيارة وسط تفكك تدريجي في وحدة المواقف الأوروبية حيال قضايا الطاقة، والدفاع، ما يدفع واشنطن إلى البحث عن شركاء أكثر التزامًا بالمصالح الأميركية، وهو ما يبدو أن ترامب يجده في بعض العواصم الخليجية.
إقليميًا، تأتي الزيارة في وقت تشهد فيه المنطقة إعادة صياغة لتحالفاتها، فقد باتت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، أكثر استقلالية في قراراتها الخارجية، وأقل ارتهانًا بالمظلة الأميركية التقليدية. كما أن مسار التقارب السعودي-الإيراني برعاية صينية، وتوسع العلاقات الخليجية مع كل من روسيا والهند، يشكلان عاملين استراتيجيين لا يمكن لواشنطن تجاهلهما.
بينما يركز ترامب على قائمة من الأهداف خلال زيارته الحالية فإن دول الخليج لديها هي الأخرى قائمة من المطالب التي تلبي مصالحها الاستراتيجية، والتي تتضمن الردع بشأن إيران وإسرائيل، وضبط معضلة "إدارة التصعيد" في المنطقة، وكبح جماح إسرائيل سواء على صعيد احتمالات قيامها بعمل أحادي تجاه إيران، أو ممارساتها المزعزعة للاستقرار في سوريا، أو حربها اللامتناهية في غزة.
فضلا عن تغيير اسم الخليج الفارسي الي الخليج العربي وهو ما تم طرحه سابقا عام 2012، فوفقًا لصحيفة نيويورك تايمز فلم يسهم هذا الأجراء في حدوث أي تغيير يذكر علي مسار مفاوضات بالاتفاق النووي بل قد ينًظر إليه نوع من أنواع المغازلة السياسية لدول الخليج ، مما يجعل المملكة الحليف الأكبر والأكثر تقربًا للولايات المتحدة ومن ثم تغيير طبيعة العلاقات مع إسرائيل.
أما علي صعيد المملكة العربية السعودية علي وجه الخصوص، فمن المرجح اكتمال صفقة حول التكنولوجيا النووية المدنية السلمية مع السعودية مع ضرورة البحث إيجاد إطار عمل أوسع من 123 لتحديد طبيعة العلاقة مع المملكة ومع محاولة استنباط رد الفعل الإسرائيلي فيمكن في هذا الإطار تفحص تصريح روندنمر والذي أشار بشكل غير مباشر لعدم اعتراض الجانب الإسرائيلي علي حصول المملكة السعودية علي البرنامج النووي السلمي والإقرار بحصولها علي أنظمة أسلحة دقيقة، وأيضا تصريح توني بلينكن في دافوس 2024 في السعودية والذي اشترط فيه توقف المملكة عن شراء أسلحة من الصين وتقييد الاستثمارات الصينية داخل المملكة.
نقل تكنولوجيا وأدوات الذكاء الاصطناعي إلى السعودية لاسيما أن هناك شركة هيومان والتي تعد أحد ابرز الشركات المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة التي تهدف إلي تطوير وإدارة حلول منظومة الذكاء الاصطناعي.
ختاماً تتجاوز زيارة ترامب الحالية لمنطقة الخليج الأبعاد الرمزية التي يرجحها بعض المحللين ، حيث تتبدى أهميتها الفائقة بالنظر إلى جوانب عدة أبرزها، ضرورات اقتصادية ملحة، وتقلبات جيوسياسية عالمية، ومركزية دول الخليج الراسخة في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وبينما ترحب دول الخليج باهتمام واشنطن المتجدد، فإنها تزداد حزماً تجاه مطالبها ومصالحها الاستراتيجية، في عالم يشهد تطورات نوعية متسارعة على صعيد طبيعة النظام الدولي وموازين القوى العالمية.