تحليل فلسفي لكتاب "المسلمون الجدد: في نقد الإسلام المعتدل"

يطرح كتاب هشام آدم إشكاليات نقدية تتجاوز التحليل السطحي للإسلام المعتدل، ليغوص في قضايا جوهرية تتعلق بماهية الإصلاح الديني وحدود التأويل في الخطاب الإسلامي المعاصر. إلا أن تناوله لهذه القضايا يكشف عن إشكالات فلسفية عميقة تتطلب قراءة أكثر تمعّنًا.



أولاً- إشكالية المفهوم والتأسيس الفلسفي

يقع الكتاب في قلب النقاش الفلسفي حول "إمكانية الإصلاح الديني". هشام آدم يتبنى، ولو ضمنيًا، موقفًا جوهريًا (Essentialist) من الإسلام، معتبرًا أن هناك ماهية ثابتة للدين لا يمكن تجاوزها عبر محاولات التأويل أو التوفيق التي يطرحها دعاة الاعتدال الإسلامي. هذا الموقف يعيد إنتاج ثنائية جامدة بين الجوهر والعرض، بين النصوص والتأويل، دون تقديم مقاربة تتجاوز هذه الإشكالية.

ثانيًا- المنهج بين التفكيك وإعادة البناء

يعتمد الكاتب على المنهج التفكيكي المستوحى من دريدا، لكنه يقع في مفارقة منهجية:

من ناحية، يفكك خطاب الاعتدال الإسلامي بمهارة، كاشفًا عن تناقضاته الداخلية.

من ناحية أخرى، يعيد إنتاج قراءة جبرية للإسلام كنسق مغلق، مما يتعارض مع المنطلقات التفكيكية نفسها.

هذه المفارقة تشبه ما أسماه دريدا "العنف الميتافيزيقي"، حيث يصبح النقد نفسه شكلاً من أشكال العنف الرمزي الذي يمارس إقصاءً معرفيًا شبيهًا بما ينقده.

ثالثًا- الدين بين التاريخية والجوهرانية

يتأرجح الكتاب بين رؤيتين متناقضتين:

الرؤية التاريخانية (كما في مدرسة فرانكفورت) التي ترى الدين كنتاج متغير عبر الزمن.

الرؤية الجوهرانية التي تفترض وجود ماهيات ثابتة لا تتغير.

هذا التذبذب المنهجي يظهر في انتقائية النصوص المستخدمة، حيث يسعى الكاتب لإثبات وجود جوهر إسلامي ثابت، بينما يستخدم أدوات النقد التاريخي لنقض قراءات المعتدلين، مما يجعله حبيس الإطار الذي يسعى إلى تفكيكه.

رابعًا- إشكالية البديل

يثير الكتاب سؤالًا فلسفيًا عميقًا: ما البديل عن الإسلام المعتدل؟ هنا يقع الكاتب في مأزق "النفي الديالكتيكي" الهيغلي، حيث يهدم دون تقديم بديل واضح. هذا الغياب للبديل يعكس أزمة الفكر النقدي العربي في التعامل مع التراث الديني، إذ يبدو أن الكتاب يعيد إنتاج إشكاليات الفكر ما بعد الحداثي التي تهدم دون تقديم إطار معرفي جديد.

خامسًا- النقد الذاتي وإشكالية السلطة

يفتقد الكتاب إلى نقد ذاتي واضح. وبينما ينتقد الإسلام المعتدل، لا يتساءل عن موقع خطابه الخاص داخل بنية السلطة والمعرفة. ألا يمكن اعتبار نقده نفسه شكلاً من أشكال الخطاب السلطوي؟ هذه الإشكالية تتماشى مع ما طرحه فوكو حول علاقة الخطاب بالسلطة، حيث يصبح أي تفكيك جزءًا من شبكة القوى التي يحاول نقدها.

بين النقد والعبثية

يذكرنا الكتاب بمفارقة العبث عند كامو: إنه يقدم نقدًا قويًا لكنه لا يقدم أفقًا أو حلًا. هذا يجعله أقرب إلى "الفلسفة السلبية" التي تكتفي بالهدم دون البناء. ربما تكمن قيمة الكتاب الحقيقية في كونه يعكس أزمة الفكر الديني المعاصر أكثر مما يقدم حلولًا لها.

التقييم النقدي

الجرأة النقدية- مرتفعة، حيث يتناول الكاتب قضايا حساسة ويهاجم مفاهيم راسخة دون تردد.

العمق الفلسفي- محدود، إذ يعتمد على تفكيك النصوص الدينية دون تأسيس واضح على نظريات فلسفية متماسكة.

الاتساق المنهجي- ضعيف، نظرًا للتناقض بين استخدام المنهج التفكيكي وإعادة إنتاج خطاب جوهري مغلق.

تقديم البدائل- غائب تقريبًا، حيث يركز الكاتب على الهدم دون طرح رؤية بديلة واضحة.

يمثل الكتاب مساهمة جريئة في تفكيك مفهوم الإسلام المعتدل، لكنه يظل محكومًا بثنائية النقد والنفي دون تجاوزها إلى أفق معرفي جديد. إنه خطاب ينقد ذاته بقدر ما ينقد ما يستهدفه، مما يضعه في مأزق ما بعد الحداثة، حيث يصبح الهدم غاية بحد ذاته، لا وسيلة نحو بناء رؤية بديلة.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإسلام المعتدل

إقرأ أيضاً:

من أجل وطن يسوده السلام بين الدولة والمواطن

 

زهران بن زاهر الصارمي

في الآونة الأخيرة احتدم الحوار، على نحو غير مسبوق، واكتظت وسائل التواصل الاجتماعي بالمقالات والآراء المختلفة حول سبل معالجة "الأزمة المتصاعدة الخانقة" التي يعانيها المواطن العُماني في شتى جوانبه الحياتية، المعيشية منها خاصة والاقتصادية؛ مستوى بلغ فيه الأمر حد بروز مؤشرات لظهور "أزمة ثقة بين الدولة ومواطنيها".

وما حادثة الكاتب محمد علي البرعمي، في تغريداته الناقدة العنيفة، والقبض عليه على إثرها، والحكم القاسي الصادر في حقه، إلّا دليل على مستوى "التشنُّج" الذي وصل إليه كلٌ من طرفي المعادلة، الدولة والمواطن، في التعاطي مع هذا الملف الحيوي الخطير.

وهذا أمر مقلق لا يرغب فيه بلا شك أي غيور على أمن هذا الوطن...

لذا أستميح القارئ وكل من يعنيه الأمر عذرًا بأن أستعرض جزئية من مقالٍ لي بهذا الخصوص كتبته في 7/8/2013 تحت عنوان "أبجديات الحوار والوعي الوطني".

ففي هذه الجزئية، التي أتمنى أن يقف عليها كل مُحب لهذا الوطن، مربط الفرس وبيت القصيد، فيما يخص تشابكات وجوهر هذا الموضوع.

الأرضية المشتركة التي ينبغي أن يقف عليها الحوار الوطني.

وقبل المضي قُدمًا في تناول حيثيات وأفكار هذا الموضوع، حريٌ بنا أولًا، أن نوجِد، قدر الإمكان، القواسم المشتركة والأرضية الموحدة التي سننطلق منها في الطرح والمعالجة. ولعل أهم تلك القواسم هي:

1) أننا لا نقبل من أحد المُزايدة في حُب الوطن؛ فليس من حق أيٍّ كان، مزايدة أيٍّ كان في حب هذا التراب الطاهر. فهذه الأرض، أرض عُمان، هي بكل ما فيها وما عليها ملك لكل أبناء عُمان، وليست لشخص بعينه، أو لفئة معينة دون غيرها من الفئات؛ وبالتالي؛ فإنه من حق؛ بل ومن واجب أي فرد من أبنائها المخلصين، الدفاع عنها، بالقول والفعل؛ والغيرة عليها من كل ما من شأنه إهانتها أو تشويه صورتها وسمعتها، أو الانتقاص من مكانتها، والمساس بكرامة شعبها أو حرياته وحقوقه.

2) أن يكون حوارنا قائمًا على المبدأ القائل "بأن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب"؛ وليس- كما هو حادث عند بعض المتشنجين- رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب!

لأن احترام الرأي والرأي الآخر فرضٌ وضرورةٌ يحتمها أي حوار وطني هادف وبنّاء. وبدون ذلك تسود الغوغائية والجدل البيزنطي ساحتنا الثقافية. ويصبح الحوار أشبه ما يكون بحوار الطرشان وصراع الديكة!

3) أننا إن اختلفنا في الرأي- وذلك أمر طبيعي ومتوقع، لاختلاف زاويا الرؤية- فإنَّ هذا الاختلاف ينبغي له ألاّ يفسد بيننا للوِدِّ قضية، إذا كان حقًا هدف الحوار، هو خدمة الوطن، والبحث له عن السبل القويمة والسليمة، للوصول إلى غاياته السامية النبيلة، في التطور والتقدم والازدهار. فينبغي أن نغلِّب حسن الظن والنوايا الحسنة، على سوء الظن والطوية، في كل ما نقرأه من وجهة نظر أو رأي؛ ولنشرّع الأبواب لقراع الحجة بالحجة، والمنطق بالمنطق، وليُدْلِ كل بما يراه ويؤمن به، دون أن يُلقَمَ الحجر، طالما أن طرحه يتسم بالجدية والرزانة والمنطق. فذلك من شأنه أن يعمل على تلاقح الأفكار، وتكامل الرؤى والوصول إلى الآراء والقناعات الفكرية السديدة التي ستعين (أو أنه من المفترض أن يُستفاد منها وتعين!) صناع القرار في قيادة وتوجيه المسيرة التنموية في هذا الوطن الكريم. وهذا أمرٌ، يحتم علينا، في الجانب الآخر، الاعتراف بقصور الفرد، أيًا كان مستواه التعليمي أو الاجتماعي أو الوظيفي، عن امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة، فكما جاء في الأثر:

"قل لمن يدعي في العلم معرفةً ... عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء"

وبالتالي فإنَّ الاستماع والإنصات للطرف الآخر، دليلٌ على الحكمة والرغبة في التطور والتكامل، بينما الازورار وصم الآذان، وعدم الاهتمام بما يقوله الطرف الآخر، دليل على العجرفة وضيق الصدر والأفق.

4) أنه ليس من حق أحد، مهما كان موقعه من الإعراب أو من السلّم الاجتماعي والوظيفي، مصادرة أي رأي كان، لأي مواطن في هذا البلد، وهو مبدأ آمن به وشرّعه السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لا سيما لمن يضع مصلحة عُمان في رأيه فوق كل اعتبار. وبالتالي؛ فليس من داع للحساسية المفرطة عند قراءتنا أو اطلاعنا على أي رأي مخالف لرأينا، طالما أننا نضع نصب أعيننا بأنه في نهاية التحليل، اجتهاد مواطن غيور في أي أمر من الأمور التي تهم هذا الوطن؛ وللمجتهد المصيب حسنتان- كما علمنا رسولنا الأعظم- ولغير المصيب حسنة.

5) أن من الحق المُطلق لكل مواطن، الحُلم بحياة أرغَد ومستقبل أفضل وأسعد لحياته ولوطنه، وأن يتجاوز بعقله وفكره القول المحبط السائد، بأن ليس بالإمكان أفضل مما كان أو يكون، بوجود قناعة متنامية لديه، بأن هناك دائما فرصة له ولوطنه، بأن يكون في وضع أفضل وأرقى وأروع مما هو عليه الآن، تحت أي ظرف من الظروف، إن وجدت النية الصادقة والعزيمة المخلصة، لدى من بيدهم أمره وأمر البلاد، من أصحاب الحل والعقد. فيغدو التعبير عن هذا الحلم المشروع، في التغير والتطور والرقي، حق من الحقوق الوطنية المشروعة، التي يكفلها العرف والقانون المدني لأي مواطن لديه القدرة على طرح الرؤى، والنقد الهادف البناء الذي من شأنه تسليط الضوء على الزوايا المعتمة واكتشاف الفجوات وإنارة الدروب أمام ركب المسيرة التنموية في الوطن.

الموقف المأمول من هموم الوطن والمواطن

وتأسيسًا على تلك المبادئ، وانطلاقًا من تلك القيم، نقول بدايةً؛ بأن الكمال لله وحده، وهذا يعني ببساطة شديدة بأنه لا عصمة لمخلوق من الخطأ أو السهو أو التقصير، فحتى الأنبياء، وهم رسل الله، لم يكونوا معصومين من الخطأ، وسورة "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى" الموجّهة لنبينا العظيم، ماثلة في الأذهان.

وطالما أنَّ الأمر كذلك، وأخذًا بقول الرسول الكريم "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"؛ فلا بُد لنا حينئذ، ولابد لكل مخلص غيور، من اتخاذ "موقفٍ ما"، إزاء أي منكرٍ أو خطأٍ أو تقصير، يراه يُقترَف في حق هذا الوطن أو مواطنيه؛ فالصمت هنا أو اللامبالاة، يُعَدّ ممالأة وتواطؤًا، والشاهد على فعل الشر أو المنكر، يُعَد شريكًا في الجرم، إن لم يكن كفاعله تمامًا، إن وقف منه موقف الصامت المُتفرج.

والموقف المطلوب في هذه الحالة هو في الأصل، المنع باليد، أي بفعل رادع يدرأ الشر أو الخطر من الحدوث؛ ولكن لأنَّ الشر أو المنكر الذي يقع أو يحيق بالأوطان، هو في العادة ليس من النوع الذي بوسع الفرد العادي درأه أو تغييره؛ فلم يبق له، من الواجب الوطني والأخلاقي فعله لحظتها، سوى "اللسان"، أن يرفع عقيرته للتنبيه، ولفت الانتباه لفعل ومصدر الشر أو المنكر الحادث. علّ استغاثته تجد آذانًا صاغية لدى المعنيين، فيقوموا بالواجب، أو يكونوا عونًا له على فعل الخير الذي يمليه عليه خلقه وضميره. أما الاستنكار همسًا بالقلوب (الذي هو أضعف الإيمان) في أية مسألة من المسائل المتصلة بانتهاك حرمات وكرامة الأوطان، فذاك هو فقط، دأب الخائر الجبان؛ لأنه في نهاية الأمر، ليس من شيء أسوأ ولا أقسى من الموت على الإنسان، كعقاب يناله جرّاء كلمة حق حرة يقولها.

وهذا أمر يُحتِّم على كل مواطن في أي بلد كان، وليس في عُمان فحسب، أن يكون مُدركًا تمام الإدراك، لما عليه من واجبات نحو وطنه؛ فيسعى جاهدًا لأدائها وتلبيتها، حتى لو تطلب الأمر منه أي شكل من أشكال التضحية أو الفداء. كما أن عليه، بالتوازي، أن يعرف حقوقه في هذا الوطن، فيسعى لنيلها والتمتع بها في كرامة وشرف.

وبهذا الوعي النوعي الرصين سيكون كل مواطن، تلقائيًا، هو السائل والمسؤول. هو المحاسَب والمحاسِب، هو المنتقَد والناقِد، هو العين البصيرة والساهرة على مواطنته حقوقًا وواجبات. فمنْ تهاونَ يومًا، أي كان، في أداء واجباته، أو قصَّر فيها أو خان الأمانة الملقاة على عاتقه، حق عليه الردع والقصاص، وفقًا لقانون العدالة الحافظ للأمن والنظام العام؛ ومن بذل وأدى عمله بكل أمانة وإخلاص، حق له الثناء والشكر والتقدير، من الدولة وأفراد المجتمع. فينبغي وجوبًا، أن يكون العقاب أو الثواب من جنس الفعل والعمل.

وإذا وضعنا خصوصية الزمن الذي نعيش فيه، المتمثل في وجود كاميرات الصوت والصورة، في أيدي كل أبناء هذا الجيل المعاصر، الصغير منهم قبل الكبير، فهذا يعني أول ما يعنيه، أننا نعيش عصر التوثيق بالصوت والصورة لكل حدث، ولكل فعل أو قول يقع من أي إنسان كان بأي مكان، مهما تخيل أنه سري بعيد عن الأعين والآذان؛ مما يجعل كل أفراد المجتمع، وعلى كل فئاتهم ومستوياتهم الطبقية أو الاجتماعية أو الوظيفية، يعيش ضمن واقع يحصي عليه، من حيث يدري ولا يدري، أنفاسه، حركاته وسكناته، فيجرده في نهاية الأمر من حصانة الرفض أو الجحود، لحقيقة قيامه بأي فعل فيه مظلمة أو مثلبة أو تقصير. إنه عصر العيش تحت المجهر، عصر المكاشفة والشفافية الموضوعية التي تحتم على المرء أن يحسب ألف حساب وحساب قبل أن يقدم على أي تصرف أو فعل منحرف، فليس للجدران؛ بل ولكل ما حوله في الجهات الست، عيون وآذان!

وإننا لنعلم حق العلم "أن الحق مغضبة " كما قالت عنه العرب، من قديم الزمن. فصعبٌ على جُلّ البشر، إن لم يكن كلهم، الكشف عن سوءاتهم أو مساوئهم؛ فلا يتقبلون طواعيةً في الغالب، نقدًا ولا إشارةً أو توجيهًا من أحد، لا سيما إن كان ذلك الفرد من ذوي الجاه أو المال والمنصب؛ ولكن الخطأ أو الجرم الصُراح، يبقى خطًا وجرمًا؛ والحق يبقى حقًا، شاء من شاء وأبى من أبى، كالشمس التي لا تغطى بغربال، ولا يطفئ نورها غمض العيون عنها.. وهذه حقيقة تقودنا إلى مداخلة هامة في سياق موضوعنا؛ إنها مسألة النقد؛ من أين يبدأ، وأين ينتهي، وكيف يُطرح، وما الذي يجب أن يُتخَذ إزاءه؟

أما من أين يبدأ النقد؛ فإنه من حيث يبدأ الخطأ أو التقصير، أو أي نوع من الفساد، من أي فرد كان، وفي أي موقع من مواقع الحياة أو العمل.. وأما أين ينتهي، ففي بساطة شديدة، ينتهي عند الإصلاح والتقويم الفعلي للأمر أو الفعل، الذي هو موضع النقد؛ ولا ينبغي أن يتوقف النقد أو الإشارة إلى موضع الخطأ أو الفساد، طالما كان ذلك الفساد قائمًا بلا تغيير، ولا ينبغي لأية جهة التأفف، أو إبداء التبرم والاستياء، من استمرار النقد في مثل هذه الأحوال، وإلاّ كان النقد مجرد هرطقة وثرثرة في الهواء؛ بلا غاية أو معنى؛ إذ إن هدف النقد، في الأساس، هو التغيير لمُنكر حادث، أو علاج فساد واقع، أو الإصلاح لخطأ قائم، فما لم يتم فعليًا ذلك التغيير والإصلاح، لتلك الأخطاء أو المثالب ومعالجة الفساد المشار إليه معالجة حقيقية فعلية، بقيت مشروعية النقد وتصاعد نبرته قائمة إلى أن تتحقق أهدافه وتزول دواعيه ومسبباته. وأما كيف يكون النقد وما هو أسلوبه الأمثل؟ فإن القاعدة التي يجب أن يبنى عليها أي حوار هادف بناء، هي روح وجوهر الآيتين القرآنيتين الكريمتين "ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ" (النحل: 125) و"وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ". (فُصِّلت: 34- 35).

تلك هي أصول ومنهجية النقد والحوار الرصين، الذي علمنا إياه ديننا الحنيف، دين الإسلام العظيم. فلا قدح، ولا مهاترات أو ذم وقذف، ولا تجريح أو تشويه للشخوص المرتكِبة للأخطاء أو حتى المفاسد؛ النقد للأفعال والأعمال، أو الأقوال المشينة؛ لا لشخص الفاعل، مهما كان جاهلا أو فاضلًا. ومتى ما دخل النقد في الشخصنة، وانصرف إلى التوافه والمماحكة، فقد رسالته النبيلة، وانحرف عن جادة الصواب، وتحول إلى معول هدم، لا أداة إصلاح وبناء وتصحيح.

وفي الجانب الآخر؛ كل من يُوَجَّه إليه نقد أو ملاحظة أو توجيه، عليه تقبُّل ذلك بصدر رحب، وبلا تجبُّر أو تكبُّر ومُكابرة، وأن يكون له في سيرة السلف الصالح، قدوة حسنة؛ فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق، يقول عند مبايعة الصحابة له بالخلافة: "إني وُليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"، وذهب الفاروق إلى أبعد من ذلك، حين خطب قائلًا: "أيها الناس؛ إني وليت عليكم، ولست بأفضل منكم، فان رأيتم فيَّ اعوجاجًا، فقوموني بسيوفكم"؛ بل وشجع الناس والرعية على نقده وقول الحق، حين خاطبه واحد من رعيته بقول خشن، استفز بعض من حوله من الصحابة، فلما هموا بردع ذلك الرجل المتذمر؛ قال لهم عمر رضي الله عنه، قولته الشهيرة :"دعوه! لا خير فيكم، إن لم تقولوها، ولا خير فينا، إن لم نسمعها"؛ بل وعليه الاقتداء أيضًا، بروح الشعور بالمسؤولية التي يتحلى بها رجال الغرب، الذين لا يأنف الوزير منهم، تقديم استقالته الطوعية من منصبه، بمجرد وقوع الخطأ منه، أو من عناصر في وزارته أو إدارته. لا أن يستميت في تشبثه بالكرسي، حتى يحمل على الأربع، مهما كانت أخطاؤه أو فشله.

أما ما الذي ينبغي أن يؤل إليه النقد، أو ما الذي يجب أن يُفعل إزاءه من قبل صناع القرار، وأهل الحل والعقد؛ فهو أن يعرضوا كل نقد أو ملاحظة أو رأي، على غربال الضمير والعقل والمنطق المحايد، فما وجدوه فارغًا، لا محتوى فيه ولا دسم، طرحوه جانبًا، وغضوا الطرف عنه؛ فهو مجتهد، ولكن، ما كل مجتهد مصيب، فتحسب له حسنة اجتهاده؛ وأما ما وجدوا فيه الصلاح والصدق والمنطق، وخالص النية، والمنفعة الوطنية، وجب عليهم التصرف نحوه، وفق المنهج القويم القائل "شكرًا لمن أهداني عيوبي"؛ فيعمدوا إلى تبنيه، والأخذ به، تطبيقًا وتنفيذا عمليًا، دون أية مماطلة، أو تلكؤ أو تسويف؛ لأن المُماطَلة في فعل الخير، والتأخر في علاج الفساد، هو الفساد عينه؛ وطول الوقت يُنسي، ويؤدي إلى الإهمال، وبقاء الأحوال كما هي عليه، دون تغيير أو تحسين، فيذهب كل جهد نقدي، أو رأي بناء أدراج الرياح، ويخسر الوطن أروع ما أنتجته عقول أبنائه، من الأفكار المبدعة الخلاقة، التي كان بالإمكان- لو أُخِذ بها- أن ترتقي به إلى مصاف الدول الطليعية، في تقدمها والازدهار.

وهذا يأتي في مقدمة ما يعرف بهدر الطاقات البشرية للشعوب؛ فكم من رأي أو فكرة، صدرت من إنسان بسيط، حلت مشكلة، استعصت على الأفذاذ، أو رسمت دربًا، لانطلاق الأجيال وبناء الأوطان؛ والأمثلة في ذلك كثيرة، لا تُعَد ولا تحصى، غني بها التاريخ البشري؛ (كذلك العامل البسيط في محطة ناسا الأمريكية الذي حل معضلة علماء الفضاء في إيجاد قلم بوسع رواد المركبات الفضائية الكتابة به عكس الجاذبية باقتراحه لهم قلم الرصاص)، وغبية هي تلك الحكومات أو الأنظمة التي لا ترصد نبض شارعها، ولا تستمع لما يدور من همس في أذهان وعقول أبنائها المخلصين، من الآراء والأماني الوطنية، وتعمل على تحقيقها، قبل أن تتحول نتيجة الرفض والإحباط، إلى صوت هادر موحد يقول: "الشعب يريد التغيير"؛ ففي تبنيها للأفكار النقدية أو الإصلاحية، صمام أمانها، وضمان استمراريتها في الحكم، إلى أطول أمد ممكن؛ والعكس بالعكس صحيح تمامًا؛ عملها بنظرية "أنا ومن بعدي الطوفان" المتمثل في تغييب كل عقل، وإهمال كل رأي وفكر، يزيد من عوامل الاحتقان لدى المجتمع، ويعجل من نهاية الحكومات، بتجاهلها لعوامل الضغط والانفجار، عندما تنقطع الشعرة التي تربطها بشعوبها، الذي سيغدو بعد حين، حقًا كالطوفان، الذي لا تقوى سفينتها على الوقوف أمامه.

الشعوب دائمًا، تصبر وتُمهل ظالميها، ومغتصبي حقوقها؛ ولكنها، في نهاية المطاف، لحظة إحساسها الغامر بالانسحاق والاختناق، تنفجر كالبركان، ولا تهمل الرد على طُغاتها المتجبرين، مهما عظمُت التضحيات؛ لأنه، لحظتها، لا يكون لديها شيء أعظم وأهم من التخلص من ظَلَمَتِها، والخلاص من هوانها واسترداد حريتها والكرامة، دون أن تحسب، حتى لمن، أو لما، تأول إليه الأوضاع، من بعد ثورتها، وإطاحتها بالكابوس الجاثم على صدرها؛ كما حدث ذلك عند شعوب بلدان الربيع العربي!

على أنه في المقابل، رب قائل يقول: هذه يوتوبيا أو مثاليات وفنتازيا؛ إذ لا يمكن الأخذ بكل الأفكار والآراء، حتى لو كانت سليمة، صالحة ونافعة؛ لأن التنفيذ والتطبيق يحتاج إلى وقت ليس بالقصير، وإلى موازنات مالية غير متوافرة في غالب الأحيان. وهنا تبرُز أهمية الشفافية السياسية والاقتصادية الحكومية، في تبرير المعوقات التي تعترض تبني المطالب الشعبية المنطقية، أو تنفيذ الآراء القيمة والمقترحات الشبابية النيرة، ويصبح عندها، ليس من حق النخب المثقفة فحسب؛ بل ومن حق كل أفراد الشعب، أن يعرفوا أين، وكيف يصرف الدخل الوطني للبلاد، وكيف تدار الموارد العامة للدولة.

والحق أنه مهما حاجج أو ناكف أصحاب ذلك الرأي المحاذر المثبِط، فلن يستطيعوا نكران الشواهد العديدة في بلدان كاليابان وتايوان وسنغافورة وموريشيوس، التي نهضت وازدهرت في شتى مجالات الحياة، وصارت، في فترات قياسية قصيرة، يشار إليها بالبنان، رغم فقرها المدقع من الموارد الأولية والثروات المعدنية، عدا ثروة الإنسان، وعقله الثري الفذ، الذي آثرت تلك الدول الحفر والتنقيب في كنوزه، أكثر من حفرها وتنقيبها في كنوز باطن الأرض أو جبالها والوديان؛ فاستثمار العقل، وأفكاره الخلاقة العظيمة، هو الذي يأتي بالأموال والموارد الأولية، ويخلق التطور والحضارة؛ وليست الموارد المادية، هي ما يصنع التقدم والرقي والازدهار؛ وإلاّ كانت أمة العرب اليوم، من أعظم الأمم رقيًا وتقدمًا وحضارة، لأنها أغنى أمم الأرض في مواردها وثرواتها الطبيعية.

إذن؛ فالخير موجود، والثروة موجودة، والإشكالية ليست في وجودهما من عدمه، وإنما الإشكالية الحقيقية، تكمن في تصريف تلك الثروة، وكيفية استغلال واستثمار المال العام؛ فإن كان صرفه للبلاد وعموم العباد، وفي تخطيط سديد ووعي ورشاد؛ بلغت الأوطان شأن ومصاف الدول المتقدمة الراقية، وعمَّ شعبها الرخاء والرضا والأمان.. وإن استأثرت به واستحوذت عليه الطُغم الفاسدة في الحكومات، وآثرت به جيوبها وبطونها، وتنمية أرصدتها الشخصية في خزائنها والبنوك، ساد الفقر والتخلف والهلاك، وكثر بين أفراد الشعب السخط والتذمر والاستياء وعدم الاستقرار في البلاد، كما هو حادث في غالبية، إن لم نقل كل بلداننا العربية.

فحذار حذار من دخول بلادنا الحبيبة في هذا النفق المُخيف.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • المفتي: غزة مرآة لنبض الفقه.. والذكاء الاصطناعي تحول لأداة قمع بيد الاحتلال
  • الصادق: الورقة الأميركية مرآة حرفية لاتفاق وقف إطلاق النار
  • “فضيل” يكافح الأوبئة بـ”الدراما”.. الفن مرآة الشعوب
  • من أجل وطن يسوده السلام بين الدولة والمواطن
  • بطولة صبا مبارك.. الكاتب وائل حمدي يكشف تفاصيل مسلسل ورد على فل وياسمين
  • في ذكراه الأولى… محبو الكاتب حسن سامي يوسف يجتمعون لتكريمه في دمشق
  • أحمد موسى: الكلام عن توقيع مصر اتفاقية غاز مع إسرائيل عيب يتقال
  • حضور واسع لدور النشر السورية في معرض الكتاب العربي بإسطنبول
  • القرفة.. أحد التوابل العتيقة التي تحارب أمراض القلب والسرطان!
  • جمعية الكتاب والأدباء بظفار تختتم مسابقة الحكواتي المتحدث