"الصديق المفترس".. كيف يهدد ترامب التحالف مع أوروبا؟
تاريخ النشر: 5th, April 2025 GMT
لم يمض وقت طويل على قيام الرئيس الأمريكي جو بايدن بجمع الحلفاء الأوروبيين للتصدي للغزو الروسي لأوكرانيا. وقد جسّد بذلك المفهوم الذي عبّر عنه الدبلوماسي الأمريكي البارز نيكولاس بيرنز مؤخراً، وهو أن الطريقة التي تفوز بها الولايات المتحدة في المنافسة العالمية على القوة والازدهار هي: "أن تكون لطيفاً مع حلفائك".
لكن الرئيس الحالي دونالد ترامب يبدو أنه يرى الأمور بشكل مختلف تماماً. فعداؤه لأوروبا معلن منذ عقود، إذ يرى أن الحلفاء ليسوا سوى منافسين اقتصاديين وطفيليات جيوسياسية، وفقاً لتقرير بصحيفة "نيويورك تايمز".
كسر التحالف بدلاً من دعمهقرار ترامب يوم الخميس بفرض تعريفات جمركية محسوبة بشكل مثير للجدل على شركاء أمريكا، بمن فيهم أوكرانيا، مع استثناء روسيا وكوريا الشمالية، كشف بوضوح عن استعداده لتفكيك التحالف عبر الأطلسي الذي حافظ على السلام في أوروبا لما يقرب من 80 عاماً.
وإضافةً إلى ذلك، فإن مطالبته لدول الناتو بإنفاق ما يصل إلى 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع العسكري، ورغبته المعلنة سابقاً في ضم أراضٍ من الدنمارك (وهي دولة عضو في الناتو)، تؤكد على الضرر طويل الأمد الذي أصاب العلاقات الأمريكية الأوروبية، ضرر قد لا يمكن إصلاحه بالكامل.
Hundreds gather across Europe to protest against Trump and Musk
➡️ https://t.co/5thARkkvAP pic.twitter.com/7NsjK6qWU6
وفي هذا الشأن علق غونترام وولف، الاقتصادي والمدير السابق للمجلس الألماني للعلاقات الخارجية، قائلاً: "هذه التعريفات الجمركية تضاف إلى الانطباع المتزايد في أوروبا أن الولايات المتحدة في عهد ترامب لم تعد فقط شريكاً غير موثوق به، بل شريك لا يمكن الثقة به مطلقاً".
وأضاف أن هذا التحول يقلب 80 عاماً من التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان التحالف عبر الأطلسي في صلب النظام الغربي والنظام المتعدد الأطراف عالمياً. وبرغم محاولات بروكسل الحفاظ على هذه العلاقات، إلا أنها، كما قال، "لا تستطيع وحدها أن تدعم النظام العالمي".
المستفيد الأول: روسياوترى الصحيفة أن إعادة تشكيل ترامب للنظام العالمي يبدو وكأنه يصبّ في مصلحة روسيا، العدو الرئيسي للناتو، إذ يُضعف خصوم الكرملين في أوروبا، على الرغم من أن هبوط أسعار النفط يوم الجمعة ألحق ضرراً بروسيا أيضاً.
وقالت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية: "يبدو أنه لا يوجد نظام داخل هذا الفوضى، ولا طريق واضح للخروج من هذا التعقيد، بينما يُضرب جميع شركاء الولايات المتحدة التجاريين"، مضيفة أن هذه السياسات تضرّ "بالمواطنين الأكثر ضعفاً".
???? LIVE in the JFK Jr. Forum: Nick Burns (@RNicholasBurns) discusses the many facets of the critical U.S./China relationship & his tenure as U.S. Ambassador to the People's Republic of China under the Biden Administration.https://t.co/uG0omuvM01
— Institute of Politics (@HarvardIOP) April 1, 2025وقد أصبح الأوروبيون أكثر وعياً بأن ترامب، المحاط بمستشارين أكثر توافقاً أيديولوجياً وولاءً في ولايته الثانية، مصمم على تنفيذ رؤيته في الابتعاد عن أوروبا.
يقول مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "كثير من الناس فوجئوا بشدة هذه الإدارة وسرعتها وعدوانيتها ونزعتها الإمبريالية".
محاولات أوروبيةوبحسب الصحيفة، فإن كثير من الحكومات الأوروبية كانت تعتقد أنها تستطيع إرضاء ترامب بأسلوب تعامل مبني على المصالح: شراء مزيد من الأسلحة والغاز الطبيعي الأمريكي، والمساهمة بشكل أكبر في الإنفاق الدفاعي.
لكن الأحداث الأخيرة أظهرت حدود هذا النهج، خصوصاً مع تطبيق الرسوم الجمركية بشكل غير متساوٍ على بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وربط المساعدات العسكرية لأوكرانيا بصفقات معادن.
يقول ليونارد: "التحدي أمام أوروبا هو كيفية التعامل مع أمريكا مفترسة، تستخدم نقاط ضعف حلفائها للابتزاز، سواء عبر صفقة معادن في أوكرانيا أو محاولة ضم غرينلاند، أو بأسلوبه العلني في محاولة تقسيم بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي عبر اتفاقيات تجارية منفصلة".
حالياً، لا يزال الاتحاد الأوروبي متماسكاً جزئياً لأن ترامب فرض نفس الرسوم بنسبة 20% على جميع الدول الأعضاء الـ27، بما فيهم دول أكثر قرباً أيديولوجياً مثل المجر وسلوفاكيا وإيطاليا.
لكن من الممكن أن تلجأ واشنطن لاحقاً إلى رسوم متمايزة للضغط على دول بعينها مثل الدنمارك، خاصة فيما يخص قضية غرينلاند.
The universal tariffs announced by the US are a major blow to businesses and consumers worldwide.
Europe is prepared to respond.
We'll always protect our interests and values.
We're also ready to engage.
And to go from confrontation to negotiation ↓ https://t.co/WbXqsN4ZX7
ويرى البعض أن هذه الرسوم مجرد مقدمة لصفقة جديدة، كما لمح إريك ترامب في منشور له على منصة "إكس"، قائلاً: "لا أود أن أكون آخر بلد يحاول التفاوض مع ترامب. أول من يتفاوض سيربح، والآخرون سيخسرون حتماً".
لكن صوفيا بش، محللة ألمانية في مؤسسة كارنيغي بواشنطن، ترى أن الرسائل الصادرة من إدارة ترامب متناقضة، وتقول: "ليس واضحاً ما إذا كان هذا عرضاً تفاوضياً أولياً، أم أنهم بالفعل يعيدون تشكيل العالم بلا نية لإصلاحه".
ورغم أن مسائل الأمن والتعريفات الجمركية تبدو منفصلة، إلا أن بش وآخرين يوضحون أن ترامب يستخدم القوة الأمريكية بشكل فظ وقاسٍ حتى تجاه الحلفاء، ما يؤثر على اقتصاداتهم ويضغط على الشرائح الأضعف من شعوبهم، الذين سيدفعون ثمن التضخم وارتفاع الضرائب.
شروط ترامبففي اجتماع لوزراء خارجية الناتو في بروكسل، حاول وزير الخارجية ماركو روبيو تهدئة الأجواء، حيث أدان "الهيستيريا والمبالغة" في وسائل الإعلام، وأكد على دعم ترامب للحلف الأطلسي.
وقال روبيو: "الرئيس ترامب أوضح أنه يدعم الناتو. وسنظل في الناتو لكن... ليس أي ناتو".
وأضاف أن ترامب يتوقع من حلفائه الأوروبيين أن يتحملوا المسؤولية الرئيسية عن أمنهم وأمن أوكرانيا، لأن أمريكا توجه اهتمامها نحو آسيا.
وتابع "هو ضد ناتو لا يمتلك القدرات المطلوبة للوفاء بالتزاماته، كما يفرضها ميثاق الحلف على كل دولة عضو".
العبء الاقتصاديلكن التأثير الاقتصادي المتوقع للتعريفات من ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو سيجعل من الصعب على الحلفاء الأوروبيين تلبية هدف الإنفاق الدفاعي الجديد الذي يُتداول الحديث عنه لقمة الناتو في يوليو: 3.5% من الناتج المحلي، ناهيك عن مطلب ترامب بـ5%.
في ألمانيا، وهي دولة غنية، سيكون التأثير كبيراً. وزير المالية يورغ كوكيز قدّر أن الصادرات الألمانية لأمريكا ستتراجع بنسبة 15%. وأكد أن بلاده ستواصل محاولة التفاوض مع واشنطن، بينما يتجه الاتحاد الأوروبي للرد بقوة، ولكن بحذر.
ووفقاً للمعهد الاقتصادي الألماني، قد تصل كلفة هذه الرسوم على ألمانيا وحدها إلى 200 مليار يورو (218 مليار دولار) خلال السنوات الأربع المقبلة.
بدائل أوروبا.. وروسياوقالت ماغي سويتك، الاقتصادية ومديرة الأبحاث في معهد ميلكن، إن الأوروبيين سيبحثون الآن عن أسواق جديدة وصفقات تجارية حرة، مثل تلك التي لديهم مع كندا والمكسيك.
وأضافت: "لا يزال هناك مجال للتعاون مع أمريكا وشركاتها، بينما نحاول فهم كيف نتعامل مع الوضع الجديد والنظرية الأمريكية المستجدة".
أما موسكو، التي لا تُجري الكثير من التجارة غير الخاضعة للعقوبات مع أمريكا، فقد رأت في هذه التطورات هدية إضافية.
الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف عبر عن سعادته بذلك على منصة "إكس"، مستخدماً مثلاً صينياً قديماً يقول إن روسيا "ستجلس على ضفاف النهر، بانتظار جثة العدو تطفو. جثة اقتصاد الاتحاد الأوروبي المتحللة".
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: حرب ترامب التجارية وقف الأب عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية لأوروبا أمريكا ترامب حرب ترامب التجارية الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي الاتحاد الأوروبی أن ترامب
إقرأ أيضاً:
ترامب يدمر ريادة أمريكا التكنولوجية
من سبوتنيك في خمسينيات القرن العشرين إلى طفرة الإلكترونيات اليابانية في الثمانينيات، أعرب الأمريكيون مرارا وتكرارا عن تخوفهم من خسارة تفوقهم التكنولوجي لصالح منافسين أجانب. ولكن في كل مرة، كانت الولايات المتحدة تستجيب بمضاعفة الجهد في تعزيز مواطن قوتها -اجتذاب المواهب العالمية، والاستثمار في الأبحاث المتطورة، وتطبيق قانون المنافسة (مكافحة الاحتكار)- وكانت في النهاية تخرج أكثر قوة. بيد أن أخطر تهديد لريادة أمريكا في مجال التكنولوجيا اليوم ليس سبوتنيك آخر أو سوني أخرى؛ بل تآكل المزايا الأساسية في الداخل. ويكاد يبدو أن السياسات التي ينتهجها الرئيس دونالد ترامب مصممة لتفكيك ذات الركائز التي يقوم عليها الإبداع الأمريكي.
تتمثل الركيزة الأولى في المؤسسات البحثية الأمريكية. أثناء الحرب الباردة، دعم إجماع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي برامج طموحة مثل برنامج أبولو ووكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة. فكان الباحثون والمحققون يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية الفكرية. نشأت طلائع شبكة الإنترنت الحديثة المبدعة -مفهوم «الحوسبة التفاعلية» الذي ابتكره جيه. سي. آر. ليكلايدر وشبكة ARPANET لتبديل الحزم- ضمن شبكية فيدرالية/جامعية غير مقيدة تربط بين جامعة ستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة كولومبيا وغيرها من الجامعات. لكن تخفيضات الإنفاق التي فرضتها إدارة ترمب قوضت هذا النموذج: تواجه ميزانيات المؤسسة الوطنية للعلوم، ومديرية العلوم في ناسا، والمعاهد الوطنية للصحة تخفيضات بنسبة 56%، ونحو 50%، ونحو 40% على التوالي.
مثل هذه التخفيضات العميقة، إلى جانب الاختبارات السياسية لانتقاء الـمِـنَـح البحثية، إلى خنق النظام البيئي الذي تعتمد عليه الاكتشافات العلمية المتقدمة. الركيزة الثانية المهمة هي الموهبة. على مدار أكثر من قرنين من الزمن، كانت أعظم ميزة تتمتع بها أمريكا هي القدرة على اجتذاب الناس من مختلف أنحاء العالم. في القرن التاسع عشر، جلب صامويل سلاتر خبرة صناعية بريطانية حَـرِجة إلى المصانع الأمريكية.
وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، أمضت عالمة الكيمياء الحيوية المجرية المولد كاتالين كاريكو عقودا من الزمن في المختبرات الأمريكية وهي تضع الأساس للقاحات الحمض النووي الريبي المرسال المنقذة للحياة. غير أن التدابير الصارمة التي فرضها ترامب على منح التأشيرات، وحظر الطلاب الأجانب، والعداء تجاه الجامعات، جعلت الولايات المتحدة أقل جاذبية للمواهب العالمية. والآن، تحتفل المؤسسات البحثية الأوروبية باجتذاب كبار العلماء من الولايات المتحدة. لقد أصبح «كسب العقول» الذي مَـيَّـزَ أمريكا تاريخيا قريبا بدرجة خطيرة الآن من التحول إلى «استنزاف للعقول». الركيزة الثالثة هي المنافسة. لم تأت الثورة التكنولوجية في أمريكا من الصناعات المحمية؛ بل جاءت من الشركات التي اضطرت إلى المنافسة مع نظيراتها، سواء في الداخل أو في الخارج. وعلى عكس اليابان، حيث فضلت سياسة المنافسة المتساهلة التكتلات الراسخة وخنقت الابتكار والإبداع، استهدف نظام مكافحة الاحتكار القوي في أمريكا الاحتكارات على نحو مستمر، وبالتالي عمل على تعزيز ريادة الأعمال. على سبيل المثال، أدى تفكيك شركة الاتصالات العملاقة AT&T في عام 1984 إلى منع شركة واحدة من احتكار شبكة الإنترنت الناشئة، فساعد هذا في خلق بيئة تنافسية سمحت بازدهار الإبداع بشكل طبيعي. لكن التزام أمريكا بالمنافسة القوية تمكن منه الضعف على نحو متزايد لعقود من الزمن. فأصبح تَـرَكُّـز الصناعات في ازدياد، وتناقص عدد الشركات البادئة، وتباطأ نمو الإنتاجية. وكما لو أن هذه الاتجاهات لم تكن سيئة بالقدر الكافي، فإذا بجدار ترامب الجمركي يعمل على التعجيل بالانزلاق، وتعمل حماية الشركات الراسخة من المنافسين الأجانب -عَـبر نظام إعفاءات غير شفاف- على تحويل السياسة التجارية إلى بازار «المال النقدي مقابل الخدمات».
وعلى هذا فقد ارتفعت نفقات جماعات الضغط المرتبطة بالإعفاءات الجمركية -لتكافئ التقارب السياسي وليس الأداء- إلى عنان السماء لتتجاوز الزيادة نسبة 277% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2025. يشير نظام الإعفاءات المُسيّس هذا إلى الانجراف نحو رأسمالية المحسوبية، والابتعاد عن السوق المفتوحة والتنافسية التي كانت تدعم الإبداع الأمريكي في السابق.
العامل الرابع هو التمويل. كان رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة -المرتكز على الأسواق العامة السائلة العميقة- هو الذي سمح لشركتي Apple وMicrosoft في سبعينيات القرن العشرين، ثم Amazon وGoogle في التسعينيات، بالتوسع بسرعة فائقة. وبحلول عام 2000، شكلت الشركات المدعومة برأس المال الاستثماري ثلث القيمة السوقية في الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل النموذج الأوروبي الذي يركز على البنوك يبدو قِـزما بالمقارنة. لكن هذا المحرك بدأ الآن يتباطأ. وسوف تعمل تخفيضات ترامب الضريبية على توسيع العجز المالي، على النحو الذي سيجبر وزارة الخزانة على اقتراض المزيد، ومن المحتمل أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة. وسوف تؤثر تكاليف الاقتراض المرتفعة على الشركات البادئة في وقت، حيث تستنزف تقلبات السوق الناجمة عن التعريفات الجمركية بالفعل شهية المستثمرين للمخاطرة. وتحذر تقارير أخيرة من أن التعريفات الجمركية وحالة انعدام اليقين أظلمت آفاق التمويل الاستثماري والاكتتابات العامة الأولية، وهذا يهدد الأسس التي يقوم عليها اقتصاد الشركات البادئة في أمريكا. الركيزة الخامسة هي الدولة المحايدة. تعلمت أمريكا أثناء العصر الـمُـذَهَّـب أن الاحتكارات غير الخاضعة للرقابة والفساد السياسي يهددان النمو. وقد استجاب الكونجرس بإصلاحات داعمة للمنافسة: فقد استعاض قانون بندلتون لعام 1883 عن المحسوبية بخدمة مدنية قائمة على الجدارة، وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890 الذي كبح الممارسات المانعة للمنافسة. اليوم، يزداد ضَـعف هذه الضمانات المؤسسية. ومن شأن التغيير الذي اقترحه ترامب في قانون «الجدول F» أن يؤدي إلى تطهير الآلاف من الخبراء الحكوميين المحترفين واستبدالهم بموظفين موالين له، وهذا يعكس نهج الرئيس شي جين بينج في الصين (حيث يكون الولاء مفضلا على الكفاءة في كثير من الأحيان). على نحو مماثل، تهدد إدارة الكفاءة الحكومية -بقيادة إيلون ماسك- بإنتاج خدمة مدنية أقل كفاءة وأكثر عرضة للخطر من الناحية السياسية. ذلك أن وكالات مثل دائرة الإيرادات الداخلية توظف عددا هائلا من الموظفين في المقام الأول لأن قانون الضرائب الأمريكي شديد التعقيد ومليء بالثغرات. وبدون التبسيط التنظيمي، يصبح من غير الممكن الحد من البيروقراطية بشكل مجدٍ، ويتعذر تطبيق القواعد بشكل فعّال. العزاء الوحيد هو أن المنافس الرئيسي لأمريكا، الصين، تواجه هي الأخرى تحديات داخلية كبرى. فبرغم أن معظم النشاط الإبداعي في الصين لا يزال يأتي من شركات خاصة أو مدعومة من الخارج، فإن الحكومة تعمل على إعادة مركزية السلطة الاقتصادية: حيث يحابي تخصيص التراخيص والائتمان والعقود العامة على نحو متزايد التكتلات التي تتمتع بالثقة سياسيا؛ وتُـطَـبَّـق قواعد مكافحة الاحتكار بشكل انتقائي؛ وتتضاعف جهود حملة شي لمكافحة الفساد كمرشح للولاء. كما تعطلت الإنتاجية مع امتصاص قطاع العقارات المرهق لثلث الناتج المحلي الإجمالي. من ناحية أخرى، تعمل الشركات التي تفتقر إلى رعاة سياسيين أقوياء -وبينها شركة الذكاء الاصطناعي البادئة «DeepSeek»- في منطقة قانونية رمادية، كما أن قبضة الدولة المحكمة على تكنولوجيات المعلومات المهمة تستدعي رقابة أكثر تشددا من أي وقت مضى تخنق التجارب الشعبية. قد تؤمن استراتيجية «فرّق تسد» التي يتبعها شي السيطرة السياسية، لكنها تقوض اللامركزية الإقليمية التي دعمت صعود الصين بعد ثمانينيات القرن العشرين. بيد أن الديمقراطيات الليبرالية أيضا لا تضمن التقدم التكنولوجي المستمر. فالإبداع يعتمد على الانفتاح والقواعد النزيهة والمنافسة القوية. ولا يمكن اعتبار هذه الأمور من الـمُـسَـلَّمات. وفي ظل إدارة ترامب، تتدهور بسرعة المزايا التاريخية التي انفردت بها أمريكا. الواقع أن صيانة الإبداع -مصدر ازدهار أمريكا- تتطلب الدفاع بنشاط عن المؤسسات، وليس حماية الصناعات.
كارل بنديكت فراي أستاذ مشارك في الذكاء الاصطناعي والعمل في معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد، ومدير برنامج مستقبل العمل في مدرسة أكسفورد مارتن، هو مؤلف الكتاب المرتقب «كيف ينتهي التقدم: التكنولوجيا والابتكار ومصير الأمم».
خدمة بروجيكت سنديكيت