على مدى عقود جسدت العلاقات المصرية الفرنسية نموذجا مميزا للتعاون الثنائي، لم تقتصر فيه الشراكة على الجوانب السياسية أو الاقتصادية، بل امتدت بعمق إلى مجالات البحث العلمي والتعليم العالي، فقد حرص البلدان على تطوير روابط معرفية متينة، تهدف إلى تبادل الخبرات، وتحفيز الابتكار، وتقديم حلول علمية لتحديات القرن الحادي والعشرين.

وفي قلب هذا التعاون، يبرز "برنامج إيمحتب" كواحد من أهم المبادرات العلمية المشتركة بين مصر وفرنسا، والذي انطلق عام 2005 وسمى بهذا الاسم تكريما للمهندس "إيمحتب" وزير الملك زوسر مؤسس الأسرة الثالثة، والذي نفذ بناء هرم سقارة المدرج الذي يرجع تاريخه إلى بداية الأسرة الثالثة (حوالي 2667-2648 ق.م)، واشتهر "ايمحتب"بعلمه في الفلك والطب وقدسه البطالمة واعتبروه آله للطب والسحر والفلك، وكأن التسمية تحمل دلالة رمزية على السعي لإحياء الإرث العلمي المصري من خلال أدوات العصر الحديث وبالشراكة مع إحدى أقوى الدول الأوروبية في مجال البحث العلمي.

برنامج" إيمحتب" هو برنامج ثنائي يهدف إلى دعم وتمويل مشروعات بحثية مشتركة بين فرق علمية مصرية وأخرى فرنسية، ويدار من الجانب المصري عبر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ومن الجانب الفرنسي من خلال وزارة أوروبا والشئون الخارجية والمعهد الفرنسي في القاهرة.

ويركز البرنامج بشكل أساسي على تبادل الباحثين، خاصة الشباب وطلاب الماجستير والدكتوراه، مما يساهم في بناء جيل من العلماء يمتلكون الخبرة الدولية والرؤية العلمية المتطورة.

لا يقتصر دور "إيمحتب" على تقديم الدعم المالي، بل يشجع على التفاعل العلمي الحقيقي بين الجانبين من خلال تنفيذ مشروعات بحثية تمتد غالبا لعامين، وتغطي خلالها نفقات السفر والإقامة والتنقل بين المؤسسات البحثية في البلدين.

ورغم أن البرنامج لا يقدم تمويلا لشراء معدات أو دفع رواتب، إلا أن أثره يتجاوز بكثير الجانب المادي، فهو يعزز الحوار العلمي، ويشجع النشر المشترك، ويعمق العلاقات المؤسسية بين الجامعات والمعاهد البحثية في البلدين.

ومن أبرز الشركاء المصريين في البرنامج.. يبرز "المركز القومي للبحوث"، أكبر المؤسسات البحثية في مصر والعالم العربي، والذي لعب دورا محوريا في التعاون مع مراكز فرنسية كبرى مثل CNRS والمعهد الوطني للصحة والبحث الطبي (INSERM). وقد شارك باحثو المركز في مشروعات تناولت موضوعات دقيقة مثل الأمراض المعدية، النانوتكنولوجي، تطبيقات التكنولوجيا الحيوية، وتأثير العوامل البيئية على الصحة العامة.

وفي إطار الاستمرارية والتوسع في هذا التعاون، أعلنت أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا عن فتح باب التقدم لدورة جديدة من برنامج "إيمحتب" للأعوام 2025/2026، بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية، حيث تتولى الأكاديمية الأعمال الإدارية عن الجانب المصري، بينما تتولى مؤسسة "كامبس فرانس" الإدارة من الجانب الفرنسي، ويأتي ذلك في سياق دعم مشروعات بحثية مشتركة لمدة عامين، بتمويل يصل إلى 300 ألف جنيه سنويا لكل مشروع.

وحددت الأكاديمية مجالات بحثية ذات أولوية للتعاون تشمل قضايا المياه من خلال معالجة الصرف الصحي وتحلية المياه وإدارة نظم الري، إضافة إلى قضايا البيئة والطاقة خاصة الطاقة المتجددة وخلايا الطاقة الهيدروجينية وبطاريات السيارات الكهربائية، كما تشمل مجالات الطب والبيولوجيا من خلال أبحاث إنتاج الإنزيمات بالتكنولوجيا الحيوية وتقنيات التشخيص المتقدمة مثل الحساسات، وأبحاث فيروس التهاب الكبد الوبائي سي، إلى جانب تخصصات الرياضيات وتطبيقاتها، والفيزياء، وعلوم الأرض والفضاء، والكيمياء، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، بالإضافة إلى الدراسات المرتبطة بالمجتمع مثل السياحة والتعليم، والهندسة مع التركيز على الطاقة المتجددة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات خصوصا الوسائط المتعددة، وكذلك الزراعة والإنتاج الحيواني والنباتي والغذائي بما في ذلك إنتاج المحاصيل الغذائية. 

وتعكس هذه المجالات تنوع التحديات العلمية والبحثية التي يسعى الجانبان للتصدي لها من خلال هذا البرنامج الذي لم يعد مجرد أداة للتبادل الأكاديمي بل بات منصة استراتيجية لتعزيز الابتكار ودعم البحث التطبيقي بما يسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ويرسخ الدور العلمي لمصر وفرنسا على المستويين الإقليمي والدولي.

لكن برنامج" إيمحتب" ليس سوى أحد أوجه التعاون البحثي بين القاهرة وباريس، فهناك جهود مشتركة تبذل أيضا عبر مؤسسات تعليمية وبحثية مثل "الجامعة الفرنسية في مصر"، التي أسست عام 2002 كمؤسسة تعليمية فريدة من نوعها في المنطقة، تجمع بين النظم التعليمية الفرنسية والخبرة الأكاديمية المصرية، وتوفر برامج دراسات عليا وأبحاث تطبيقية مشتركة في مجالات الهندسة، والعلوم الاجتماعية، وإدارة الأعمال.

وفي مجال الآثار والعلوم الإنسانية، يعد "المعهد الفرنسي للآثار الشرقية" في القاهرة أحد أقدم المراكز البحثية الفرنسية بالخارج، والذي تأسس عام 1880 على يد العالم "جاستون ماسبيرو"، وهو ينتمي اليوم إلى شبكة المراكز البحثية الفرنسية الكبرى خارج فرنسا، ويخضع لإشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الفرنسية، ويعمل على دراسة الحضارة المصرية القديمة منذ قرابة قرن ونصف، بالتعاون مع علماء آثار مصريين وهيئات حكومية مصرية.

من جانب آخر، توفر الحكومة الفرنسية العديد من المنح والزمالات الدراسية للباحثين المصريين، مثل برنامج "إيفل للتميز"، ومنح "المعهد الفرنسي للإقامات العلمية قصيرة الأجل"، التي تمكن الباحثين المصريين من إجراء أبحاثهم داخل أعرق المعاهد الفرنسية، مما يفتح آفاقا جديدة للتعاون الأكاديمي ونقل التكنولوجيا.

يعكس هذا التعاون العلمي بين مصر وفرنسا فلسفة معرفية وإنسانية عميقة، قوامها أن العلم لا يعرف حدودا، وأن الشراكات الدولية يمكن أن تكون مدخلا لتطوير القدرات المحلية، وتحقيق التنمية المستدامة.. وفي زمن تتسارع فيه التحديات العلمية، من تغير المناخ إلى الأمن الصحي، تظل الشراكة العلمية بين القاهرة وباريس نموذجا ملهما لما يمكن أن تحققه الإرادة السياسية والمجتمعية إذا اقترنت بالاستثمار في العقول.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: العلاقات المصرية الفرنسية البحث العلمي إيمحتب المزيد البحث العلمی من خلال

إقرأ أيضاً:

بكرات يبرز دور الجهة في تعزيز الشراكة الإفريقية بمنتدى التعاون الإقتصادي بين المغرب وسيماك

زنقة20| علي التومي

احتضنت مدينة العيون، يوم الجمعة 20 يونيو الجاري، فعاليات المنتدى البرلماني للتعاون الاقتصادي بين المملكة المغربية ودول المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا (سيماك)، المنظم تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.

وشكّل المنتدى مناسبة لتعزيز آفاق التعاون جنوب-جنوب، حيث أجرى السيد عبد السلام بكرات، والي جهة العيون الساقية الحمراء، سلسلة مباحثات مع عدد من المستثمرين والشركاء الاقتصاديين، تناولت سبل تعزيز الاستثمارات الثنائية، وتبادل التجارب في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وقد أُعلن خلال المنتدى عن “إعلان العيون من أجل شراكة فاعلة وتنمية مشتركة بين المملكة المغربية ودول سيماك”، في خطوة تعكس الإرادة الجماعية لتعزيز مسار التعاون والتكامل الاقتصادي بين الجانبين.

وتُوّجت أشغال المنتدى بتوقيع اتفاقية إطار للشراكة والتعاون، جمعت بين ولاية جهة العيون الساقية الحمراء، ومجلس الجهة، والاتحاد العام لمقاولات المغرب – فرع العيون، والمركز الجهوي للاستثمار. وتهدف هذه الاتفاقية إلى تحفيز الاستثمار ومواكبة المشاريع التنموية بالجهة، انسجاماً مع الرؤية الملكية الرامية إلى جعل الأقاليم الجنوبية رافعة اقتصادية على المستوى القاري.

وفي إطار دعم التعاون بين الفاعلين الاقتصاديين، تم توقيع معاهدة تعاون بين الاتحاد العام لمقاولات المغرب واتحاد مقاولات إفريقيا الوسطى، بهدف تطوير المبادلات التجارية والاستثمارية، وتشجيع الشراكات بين مقاولات الجانبين.

واختُتمت أشغال المنتدى بتلاوة نص برقية ولاء وإخلاص مرفوعة إلى صاحب الجلالة الملك محمد السادس، عبّر فيها المشاركون عن تشبثهم بالعرش العلوي المجيد واستعدادهم المتواصل لخدمة مصالح الوطن وتعزيز التعاون الإفريقي المشترك.

مقالات مشابهة

  • دليل DOILJ… منصة ليبية جديدة لتعزيز سمعة البحث العلمي عالمياً
  • أيمن عاشور يفتتح عددًا من المشروعات التعليمية والصحية بجامعة بنها.. ويتفقد موقع الجامعة الفرنسية.. أبرز أنشطة وزارة التعليم العالي خلال أسبوع
  • كليات الرياضة وأهمية الشراكة مع الوزارة
  • بكرات يبرز دور الجهة في تعزيز الشراكة الإفريقية بمنتدى التعاون الإقتصادي بين المغرب وسيماك
  • وفد منظومة الطيران المدني يزور مصنع “إيرباص” في مدينة تولوز الفرنسية
  • وزير التجارة الفرنسي: الإمارات شريك استراتيجي بامتياز
  • ريم الهاشمي: نثمّن الشراكة المتنامية مع إيرلندا
  • بروتوكول تعاون بين جامعة الأقصر ووكالة الفضاء المصرية لتعزيز البحث العلمي وتوظيف تكنولوجيا الفضاء
  • وزير التعليم العالي: مليار جنيه لإطلاق مسابقة تعزز البحث العلمي والابتكار
  • رئيس جامعة القاهرة: ارتقينا 23 مركزًا عالميًا بفضل استراتيجيات البحث العلمي