تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
كلمة عابرة، مشهد عاطفي أو مأساوي، حكاية تأتي مصادفة، خبر في صفحة الحوادث، أي شيء مهما كان صغيرا يمكنه أن يكون ملهما.
نعم، هو خبر في صفحة الحوادث عن "إلقاء طفل حديث الولادة من شباك مستشفى في طنطا" لفت هذا الخبر نظر نورا ناجي وأثار شغفها فتتبعته وأضافت له كثيرًا من التخييل لتستلهم منه روايتها الأحدث "بيت الجاز" في بناء مترابط وتكنيك جديد.
في هذه الرواية ترتدى الكاتبة ثوبا جريئا مختلفًا تماما عما كانت ترتديه في رواياتها السابقة، ثوبا كاشفا، لا يستر إلا قليلا، يصدم القارئ ليعود مجبرا ويحدق في اسم الكاتب عله يكون مخطئا، فهو لم يتعود هذا الأسلوب من نورا ناجي.
حتى أنا، عدت مجبرة إلى الصفحة الأولى لتتسع اندهاشتي حين قرأت إهداء الرواية، "إلى أمي وإلى فاتيما"، إذن فالكاتبة لديها قناعة تامة بما كتبت لتدعو أهل بيتها بكل أريحية إلى قراءة الرواية، فبحثت عن أحاديث لها تكشف فيها عن ملابسات وأجواء كتابتها للرواية، فوجدتها تقول في إحدى الندوات أنها في تلك الفترة هاجمها شعور ثقيل بالإحباط من أحداث متفرقة مرَّت بها جعلتها تقرر أنها ستتخذ هذه الرواية سبيلا لتقف وجها لوجه أمام خسائرها وتبوح بما في جوفها من ألم وليكن بعدها ما يكون، لدرجة أنها أعلنت بينها وبين نفسها أن هذه الرواية ستكون روايتها الأخيرة التي ستختتم بها مشوارها الأدبي بل وأكدت على ذلك على لسان رضوى بطلة الرواية.
بهذا الألم وبهذا الإحساس اختارت نورا ناجي أن يكون الراوي شخصية في العمل تكتب قصتها من خلال أبطالها، لتتشابك آلامها الشخصية مع بطلات روايتها كما لو أنها تبوح بما لا تجرؤ على قوله، وتكتبه فقط على الورق، فتنثر أجزاء من روحها ومعاناتها على بطلات روايتها الثلاث وكأنها رواية من داخل رواية.
لذا لم أصدق أبدا ما انتوت عليه الكاتبة أنها ستكون روايتها الأخيرة، فنورا ناجي في اعتقادي لديها مشروعها الأدبي الذي مشت فيه خطوات واسعة وناجحة، فلن تثنيها بعض الإحباطات عن تكملة ما بدأته، بل ستكسر حدود التجريب حول كل جديد في تقنية السرد، وهو بالضبط ما فعلته في هذه الرواية، حين أخذت القارئ في متاهة مقصودة بين الواقع والمتخيل وكأنها تتحداه أن يفرق بين الحقيقة والخيال أو أن يُسقط أحداث الرواية على حياتها الشخصية متهما إياها أن كل الروايات عنها وكل الشخصيات هي، تتحدى القارئ كي يرفع في النهاية راية الاستسلام ويقتنع أنها محض رواية.
***
تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول متكررة على مدار السرد لكنها ثابتة في عناوينها "الرواية.. الحقيقة.. الكاتبة"، في الفصل المعنون بـ"الحقيقة" يتحدث الراوي عن الشخصيات جميعها بمن فيهم "عوض وزيزو وثريا ونجاة" بصيغة المتنبِئ بما سيحدث أو الآمر بالشئ أن يحدث "ستتذكر.. ستشاهد.. ستتوقف"، وفي الفصل المعنون بـ"الكاتبة" يتحدث الراوي عن رضوى بصفته عليمًا بالأمور، وفي الفصل المعنون بـ"الرواية" تتحدث رضوى بصيغة الماضي بصفتها الراوي عن يمنى.
تبدأ الرواية بمشهد ناري تصاحبه ابتسامة مرمر وهي تقف فوق سطح بيت الجاز وتسكب صفيحة الجاز على جسدها ثم تشعل الثقاب لتلفها النار وتمتصها ثم تقفز ثم تتلاشى.
اشتركت رضوى ويمنى ومرمر، شخصيات الرواية الثلاث، في نشأة معقدة وطفولة صعبة بطرق مختلفة، يمنى طبيبة تعمل بالنهار في مستشفى الجذام وليلًا في عيادة تجميل بالليزر، تحيا حياة ميتة، هي امرأة داخل امرأة، امرأة خارجية تعيش تحت جلدها، تذوب أسفل قدميها كلما أقدمت على شئ، كأنها تقول لا لكل ماحصلت عليه من الحياة، دراسة.. زواج.. إنجاب.. عمل، وعلى الرغم من أنها ليست بهذه البراءة، فهناك شئ مُلِح يدفعها لفعل أشياء لا تفهمها ولا تدري لماذا تفعلها.
ومرمر بنت بيت الجاز التي أقنعتها أمها أن الملائكة تنزل كل يوم إلى الأرض لتأخذ الميتين، وأيضًا لتأخذ شيئا من كل حي، كل إنسان يدفع ضريبة استمراره يوما آخر في هذه الدنيا، وهي دفعت ضريبتها مرات عديدة، فقد واجهت الحياة والعالم والناس بعد كل ما حدث لها بالصمت الذي يلفها ساعة المغربية عندما يرحل زوار القبور، صمت ثقيل لكنه ناعم، صمت لا يمكن التغلب عليه إلا بنار تطهر كل شئ.
ورضوى التي قررت مواجهة العالم بالكتابة لتعبر عن استيائها منه ومن ملامح الناس الجامدة وقسوتهم المستمرة، وربما لتعترف بكل ما تخفيه بعد أن اتهموها من منحوها وعودًا لم يفوا بها، أنها كاتبة بلا مأساة حقيقية ولا تملك موقفا حقيقيا. تضع قائمة طويلة تحصر فيها كل ما خسرته بسبب اعتناقها الكتابة، تساؤلات تحيرها وتبحث عن أجوبتها وراء الجدران وخلف الأشياء.
***
ترددت كلمة "يتلاشى" ومفهوم التلاشى بطريقة لافتة للنظر فوق سطور الرواية وفي معظم أركانها، وكأن البطلة تريد أن تتلاشى هي نفسها في صورة كاتبتها المفضلة رضوى عاشور التي لم تنسها يوما، أو تتلاشى في شخصيات أبطال رواياتها الذين سيعيشون عمرا أطول منها، أو تتلاشى في الحكايات المؤلمة التي نسجتها بخيالها في عالم مفتوح فلا تصبح امرأة وحيدة.
نجد أيضا تلامسًا بين روايات نورا ناجي السابقة والحالية وكأنها تريد أن تذكر القارئ أنها معه منذ البداية، وأن كل شيء يحدث لسبب، وليس هناك مصادفة، فالأبطال صداهم يتردد في كل الحكايات، والحكايات نفسها تسقط دلالاتها على ما هو آت، وكتابة الألم هو الخلاص والتطهير وربما تكفير عن ذنوب لم ترتكب سوى على الورق.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: نورا ناجي هذه الروایة نورا ناجی
إقرأ أيضاً:
التبشيريون الجدد
#التبشيريون_الجدد
مقال الإثنين: 12 / 5 / 2025
د. #هاشم_غرايبه
ليس مفاجئا القول ان الحركة التبشيرية الأوروبية لم تكن دوافعها الهداية الى الله، ولا نشر العقيدة الإيمانية التي جاء بها المسيح عليه السلام، فتحول الأوروبيين الى المسيحية على يد قسطنطين في القرن الرابع، لم يكن تحولا من الوثنية وتعدد الآلهة التي كانت متبعة في جميع أنحاء أوروبا الى عقيدة التوحيد وعبادة الله وحده، التي هي جوهر كل العقائد السماوية، بل كان توفيقا بين الوثنية والنصرانية، فاعتمدت الرموز الوثنية كجزء من العقيدة الجديدة، مثل شجرة الميلاد وبابا نويل وغزلان الرنة..الخ، وأبقي على تعدد الآلهة من خلال اتباع عقيدة التثليث كبديل لعقيدة التوحيد التي دعا أليها المسيح عليه السلام، والتي كانت فكرة “بولس” والذي كان يهوديا اسمه “شاؤول” اخترق العقيدة النصرانية بإعلانه تنصره لكي يحرفها ويفسدها، ورغم أنه لم يكن من تلاميذ المسيح عليه السلام ولم يلتق به، إلا أنه أكثر من أخذت عنه التعاليم المعتمدة حاليا كمرتكزات للكنيسة المسيحية الأوروبية، بفروعها الثلاث: الكاثوليكية والأرثوذوكسية والبروتستانتية.
ومثلما تبين أن ما كان يدعى بالاكتشافات الجغرافية التي قام بها الأوروبيون منذ القرن الخامس عشر، لم يكن هدفها بحثيا علميا، وإنما أطماعا استعمارية، فقد انكشف أيضا ان الحركة التبشيرية الاوروبية التي نشطت في الفترة نفسها، كانت لغايات التمهيد الثقافي للاحتلالات الأوروبية.
في منطقتنا العربية التي كانت مستهدفة أيضا بأطماع الأوروبيين، تحددت (الاكتشافات) بالتنقيب عن الآثار لنهبها، كون المنطقة مهد كل الحضارات القديمة، فيما واجهت الحركة التبشيرية صعوبات كبيرة، إذ أن المنطقة متبعة للدين الحقيقي، وتؤمن بالمسيح نبيا وليس الها، لذلك جرى تعديل لمسار التبشير بالاهتمام بجذب الناس من خلال تقديم الخدمات التعليمية والطبية، فانتشرت المدارس والمستشفيات التي تديرها راهبات، ومن أكبرها كانت الجامعة البروتستانية التي أسسها القس “دانيال بلس” بتمويل من المسيحية الصهيونية الأمريكية، وسميت فيما بعد بالأمريكية، ونشأ لها فروع في أغلب بلدان المنطقة أكبرها في بيروت والقاهرة، وتبين فيما بعد كم كان أثرها كبيرا في رعاية التوجهات العلمانية في المنطقة العربية.
لو عدنا الى نشأة العلمانية االعربية، فكانت في مصر ابان الاحتلال البريطاني عام 1882، حيث منح ثلاثة أشخاص هم: يعقوب صروف، وفارس نمر، ونقولا حداد، حق اللجوء السياسي الى مصر، وهم من اتباع جمعية تركيا الفتاة المؤيدة للعلمانية، وتبين فيما بعد أنها مخترقة من المخابرات البريطانية وممولة من يهود الدونمه، ومن التمعن في أسماء هؤلاء الذين تم نقل مهامهم الى المنطقة العربية، نجد أنهم جميعا ليسوا مسلمين، ولو تفحصنا أسماء قادة الأحزاب العلمانية التي نشأت في المنطقة العربية، سنجد أن ميشيل عفلق هو مؤسس حزب البعث، وجوزيف روزنتال مؤسس الحزب الشيوعي المصري، وخالد بكداش مؤسس الحزب الشيوعي السوري، وقسطنطين زريق أب الحركة القومية العربية ، ومؤسسوها هم ناصيف اليازجي،و بطرس البستاني، ونجيب عازوري، وجورج حبش ووديع حداد.
فهل هي مجرد مصادفة أن يكون كل رواد الحركة العربية العلمانية من غير المسلمين!؟.
أم أنها حركة تبشيرية بحلة جديدة؟.
الإثباتات على صحة هذا الافتراض كثيرة، منها
1 – ليس الهدف هذه المرة التنصير، فذلك أمر ثبت استحالته، بل يقتصر على الصد عن الدين، ونبذ منهج الله.
2 – الحركة العلمانية العربية لا يمكنها اعلان عدائها للإسلام حصرا وتحديدا، لذلك تدّعي أنها ترفض العقائد كلها، بحجة لا دليل عليها وهي أنها معيقة للتقدم العلمي ومنشئة للصراعات، لكن تنكشف نواياها حينما تتصدى للإسلام فقط، ولا تفعل ذلك مع العقائد الأخرى بذريعة احترام معتقدات الآخرين.
3 – العلمانيون العرب لا ينكرون انتماءهم للعلمانية الأوروبية، لكنهم يقعون في مأزق، حينما يرون العلماني الغربي لا يتنكر لمسيحيته، فالأوروبيون عموما ليسوا مسيحيين حقيقيين أصلا، وإنما يعتبرونها مجرد صبغة ثقافية تفيد في إعاقة انتشار الاسلام بينهم، فأغلبهم لا ديني، ولا يعترضون على اتباع أي منهج زائغ غيره ولو كان بوذيا أو وثنيا، فذلك ليس مهما، المهم هو الإعراض عن الإسلام.
4 – انكشفت نوايا هذا التيار عند الامتحان عام 2011، فادعاءاتها بأنها تسعى الى وحدة الأمة وتحريرها وتحقيق الحرية، سقطت حينما أيدت الأنظمة القطرية الاستبدادية والثابت عمالتها للمستعمر، فقط لأنها ممانعة للإسلام.