في ذات ندوة من الندوات، علَّق الوزير عبد الباسط سبدرات منتقدًا كثرة استشهادنا بأقوال (الخوّاجات من الإنجليز والفرنسيين والأمريكان)، مع تجاهلنا التام لما يقوله العرب والسودانيون.
تذكرت هذا وأنا أقرأ مقالا عن الإيمان والإلحاد للكاتب جيمس ماريوت في صحيفة التايمز نشره يوم أمس الاثنين 28 أبريل 2025، والمقال مكتوب بمناسبة موت البابا واختيار بديل له، وحمل عنوان: يأتي الإيمان إلينا بسهولة لسبب وجيه.
وقفز إلى الذهن وأنا أوغل في قراءة المقال فصل مهم عن الإلحاد والإيمان للأستاذ الدكتور عبد الله حسن زروق (رئيس قسم الفلسفة بجامعة الخرطوم سابقا وبكلية علوم الوحي بماليزيا)، الذي ناقش هذه الأفكار باستفاضة وعمق في كتابه (مدخل إلى الفلسفة) الصادر في 2020.
يستهل كاتب التايمز ماريوت بفقرة مهمة يقول فيها: “إن اليقظة الدينية اليوم تتماشى مع تطور البشرية، ولعلّ نمو الإلحاد بعد الحرب العالمية الثانية كان مجرد خلل مؤقت”.
ويشير إلى أن حركة “الإلحاد الجديد”، التي ازدهرت في بداية هذا القرن، يعدُّ انحرافًا في السياق الأوسع للتاريخ البشري.
الكاتب يصف نفسه بأنه غير متدين وبأن لديه آراء سلبية عن الدين، لكنه مع ذلك يعترف بأنه لم يوجد مجتمع بشري قط دون دين ورجال دين، وأن تبجيل ما وراء الطبيعة هو سمة جنسنا البشري. الإيمان هو أساسنا، وهو حالة طبيعية قد نعود إليها. في المملكة المتحدة وفرنسا، ارتفع مؤخرًا عدد رواد الكنائس – بما في ذلك تضاعف عدد البريطانيين الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا بمقدار أربعة أضعاف. أما في أمريكا، حيث اللامبالاة العامة تجاه الدين في وقت ما، فقد توقف تراجع المسيحية.
ويمضي الكاتب إلى القول: ربما يكون الشعور الغربي المنحرف بأن العلمانية هي المعيار هو ما يجعل مظاهر العودة إلى الإيمان تبدو مفاجئة. قد ننظر إلى فترة العلمانية في أواخر القرن العشرين على أنها شذوذ تاريخي وجغرافي.
إن النفوذ الاجتماعي أو الأدبي الذي حازه الإلحاد في بدايات القرن العشرين يعود إلى عصر الاستنارة في أوروبا التي رفضت ممارسات دينية غير مقبولة، واضطهاد الكنيسة للعلماء.
وعلى الرغم من ظهور الحركة الإلحادية الجديدة على يدي دانيال دينيت في 2006 وآخرين، فإن العالم يشهد إحياءً للدين، يتمثل في مظاهر كثيرة منها ظهور اتجاهات تدعو للتعددية واحترام الثقافات والأديان. وهذا ناشئ من اضمحلال الوضعية المنطقية وظهور الكثير من الاكتشافات العلمية المؤيدة للإيمان والدين مثل نظرية الانفجار العظيم، فضلا عن الشعور المتنامي لدى قطاعات كبيرة أن الدين يمنحهم الراحة النفسية والسلوى والرضا عكس القيم المادية المجردة التي تفقد الإنسان الإحساس بالمعنى والخيال والإيمان بالغيب.
رأيت تشابهًا بين الدكتور زروق وكاتب التايمز في أن كليهما ينظران إلى الدين بوصفه جزءًا لا يتجزأ من هويتنا وأن الإيمان جزءٌ لا يتجزأ من ماهية الإنسان. والاثنان يتناولان دانيال دينيت مؤسس الحركة الإلحادية الجديدة.
وكلا الرجلين ينظران إلى الإلحاد على أنه نوع من الزيغ، بل ينقل ماريوت عن عالم الدين الإسلامي تيموثي وينتر قوله إن الإلحاد مرض نفسي، قائلا: “هي فكرة تخطر ببالي كلما قرأتُ عن حكماء العصر الفيكتوري أمثال جون راسكين وتوماس كارليل. بالنسبة لهم، كان فقدان الإيمان كارثةً مصيريةً دفعت بعض أقرانهم إلى حافة الانتحار. لقد اعتدنا العيش دون إيمان لدرجة أننا نميل إلى نسيان مدى الصدمة التي مر بها العديد من أسلافنا الذين افتقدوا الإيمان، وهو أمرٌ جديرٌ بالتذكر عندما نبحث عن جذور أزمة الصحة النفسية”.
تيموثي وينتر المذكور هنا هو تيموثي جُون وِينْتَر الذي سمى نفسه بعد اسلامه عبد الحكيم مراد، وهو باحث وكاتب وأكاديمي بريطاني مختص في الدين الإسلامي والعلاقات الإسلامية المسيحية، عميد كلية كامبريدج الإسلامية.
وإذا كان من وجه شبه آخر بين ما كتبه زروق وما جاء في مقال التايمز، فهو أن زروق اعتنى بتفسير ظاهرة انتشار الإلحاد خاصة وسط تيارات من الشباب العربي، فذكر من بين الأسباب أن بعض النظم الحاكمة التي رفعت شعار الإسلام لم تكن مُرضِية ونظر البعض إلى الجماعة الحاكمة باسم الإسلام على أنها هي الممثلة للدين، ومن عادة الناس ـ وهي عادة غير منطقية ـ أنهم إذا اعتبروا شخصا أو جماعة ممثلة للدين، ولم يكن سلوك ذلك الشخص أو تلك الجماعة مرضية، فإنهم يرفضون ما يمثله ويدعو إليه.
ويرى كاتب التايمز أن مما يجذب البعض للإيمان هو أن المجتمعات العلمانية فاشلة تمامًا في إعادة إنتاج نفسها. وفي المقابل تحقق الجماعات الدينية – وخاصةً الأصولية الدينية – قصة نجاحٍ عظيمة في مجال الخصوبة في عصرٍ يشهد انخفاضًا في معدلات المواليد. في أمريكا، تضاعف عدد السكان لطائفة الأميش خلال العشرين عامًا الماضية. وقد حُسب أنه إذا استقرأنا الاتجاهات الديموغرافية الحالية (وهذا ليس بالضرورة أمرًا علميًا دقيقًا)، فقد يُشكل الأميش غالبية السكان الأمريكيين خلال مئتي عام.
ونختم بمقارنة غير متكافئة بين زروق وجيمس ماريوت، هي أن الأخير قد يجد من يستشهد بكلامه من المسلمين والعرب، مع أن ما كتبه مجرد مقال في جريدة… أليس هو (خوّاجا)؟ في حين أن قلة من القراء قد يعثرون على كتاب مدخل إلى الفلسفة في موقع zaroug.net وأرجو أن يهتموا بتصفحه، فهو حصيلة أربعين عامًا من الحياة العلمية ما بين جامعة لندن وجامعات الخرطوم وكوالالمبور وقطر والملك سعود.
كتب ـ د. عثمان أبوزيد
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
وكيل الأزهر يفتتح أسبوع الدعوة الإسلامية بجامعة بنها بندوة بعنوان: «لماذا الإيمان أولًا؟»
برعاية فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، افتتح فضيلة الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر الشريف، اليوم الأحد، فعاليات أسبوع الدعوة الإسلامية بجامعة بنها، تحت عنوان: «لماذا الإيمان أولًا؟»، وذلك في إطار برنامج «الأسابيع الدعوية» بالجامعات المصرية، الذي ينفذه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في الجامعات الحكومية والخاصة على مستوى الجمهورية، بحضور كلٍّ من أ.د/ محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، و أ.د/ ناصر الجيزاوي، رئيس جامعة بنها، ود. الدكتور حسن يحيى، الأمين المساعد للجنة العليا لشؤون الدعوة.
كلمة وكيل الأزهر فى فعاليات أسبوع الدعوة الإسلامية
في بداية كلمته، قدم وكيل الأزهر التهنئة إلى مصر؛ قيادةً وشعبًا بمناسبة ذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، مؤكدًا أن هذه الذكرى ستظل رمزًا للفداء والعزيمة والإرادة الوطنية الصلبة، ومصدرَ إلهامٍ للأجيال المتعاقبة، داعيًا شباب الجامعات إلى استلهام الدروس والعِبَر من هذا الحدث العظيم، والاقتداء بجيل أكتوبر في روح الانتماء والتضحية والعمل الجاد من أجل رفعة الوطن وصون كرامته.
وأوضح وكيل الأزهر أن الإيمان هو الأساس الذي يقوم عليه بناء الإنسان والمجتمع، ومنه تنبثق القيم، وتستقيم السلوكيات، وتُبنى الحضارات، مضيفا أن الإيمان ليس مجرد عقيدة تُحفَظ، بل هو طاقةُ حياةٍ تُنير الطريق، وتدفع الإنسان نحو العمل والإصلاح والبذل، كما أنه ليس مجرد اعتقادٍ قلبي، بل هو سلوكٌ عمليٌّ يظهر في أفعال الإنسان وأخلاقه ومعاملاته، فالمؤمن الحق هو الذي يترجم إيمانه إلى عملٍ وإصلاحٍ وبناء، ويسعى إلى الخير لنفسه ولوطنه ولمجتمعه، مجسِّدًا بذلك صورة المسلم الإيجابي الذي يعمّر الحياة بقيمه.
الإيمان الحقيقي
وتابع فضيلته، أن الإيمان الحقيقي يُورِّث في صاحبه الطمأنينة والثقة والاتزان النفسي، لأنه يستمد قوته من اتصال القلب بالله، فيواجه الأزمات بثبات، ويتعامل مع الابتلاءات بحكمةٍ وصبر، ويرى في كل موقفٍ فرصةً للتقرب إلى الله، لا مجالًا للضعف أو الانكسار، مبينا أن من ثمار الإيمان أنه يصنع مجتمعاتٍ متماسكةً قائمةً على المحبة والتكافل والعدل، لأن المؤمن لا يعيش لنفسه وحدها، بل يشعر بمسؤوليته تجاه الآخرين، فينصر المظلوم، ويغيث المحتاج، ويحرص على سلامة مجتمعه واستقراره، مؤكدًا أن الإيمان هو الضمان الحقيقي لتماسك الأوطان ورقيّها.
ودعا وكيل الأزهر الشباب إلى أن يجعلوا إيمانهم زادًا في مواجهة ضغوط الحياة، وأن يستمدوا منه القوة والطمأنينة والثبات، موضحًا أن المؤمن الحق لا تهزّه الأزمات، لأنه متصل بخالقه، مطمئنٌّ بقدره، يرى في كل ابتلاءٍ فرصةً للارتقاء لا موضعًا للانكسار، كما وجه عدة رسائل مباشرة لشباب الجامعة قائلاً: «كونوا دعاةً للخير بأخلاقكم، واصنعوا من إيمانكم طاقةً تبني لا تهدم، وتذكّروا أن الإيمان هو سرّ التوازن في زمنٍ مضطربٍ بالمتغيرات، فبه يصفو القلب، ويستقيم العمل».
وتتواصل فعاليات أسبوع الدعوة الإسلامية بجامعة بنها بعددٍ من الندوات النوعية التي تتناول موضوعات: «الإيمان والهوية»، و«تحديات الإيمان في العصر الرقمي»، و«الإيمان والحياة»، و«الإيمان وتحقيق الأهداف»، وذلك بمشاركة نخبةٍ من علماء الأزهر الشريف وأساتذة الجامعة، ويأتي تنفيذ هذه الأسابيع الدعوية في إطار حرص الأزهر الشريف على مدّ جسور التواصل مع شباب الجامعات، وتحصينهم من الأفكار المنحرفة، وتعميق وعيهم بالقيم الدينية والوطنية، بما يسهم في بناء جيلٍ واعٍ مستنيرٍ يحمل رسالة الوسطية والاعتدال.