نازي في القاهرة.. القصة الغامضة للعم طارق
تاريخ النشر: 4th, May 2025 GMT
في صيف عام 1914، وُلد أربيرت فريديناند هايم في النمسا وترعرع فيها مع بدايات الحرب العالمية الأولى التي حصدت الأرواح حصدا، وما إن دخل إلى مرحلة المراهقة إلا وكان مثل كثيرين من أبناء جيله من الشباب الألمان والنمساويين خاصة، منبهرين بشخصية الزعيم النازي الصاعد أدولف هتلر.
ذلك الزعيم الذي امتلك كاريزما خطابية استثنائية، جعلته قادرا على استمالة الجماهير عبر ضخ العاطفة والحماسة في خطاباته التي كانت تُلهب مشاعر الشباب وتقودهم.
نجح هتلر، حسب كثير من المحللين، في استثارة ما تشبه نوبة جماعية من "الجنون المؤقت" بين الجماهير، حين منحهم شعورا عميقا بأن النزعة القومية التي يحملونها ليست فقط مبرّرة، بل مقدسة ومصيرية، وهو ما جعلهم يندفعون لاحقا إلى المجهول.
وكان من المفارقات اللافتة أن أربيرت هايم وأدولف هتلر يشتركان في خلفية جغرافية واحدة، إذ إن كليهما وُلد في النمسا.
وفي مرحلة مبكرة من حياته، انضم أربيرت هايم إلى الحزب النازي، وارتدى البزة العسكرية التي تحمل شعار "الصليب المعقوف"، وهي الصورة التي ستُصبح لاحقا رمزا ثابتا في ملفات المنظمات اليهودية، التي صنفته ضمن قائمة تضم 300 شخصية من كبار المطلوبين بتهم ارتكاب جرائم حرب.
كان النظام النازي بقيادة هتلر يعتمد بشكل رئيس على عملية إعادة تشكيل وعي الشباب الألماني والنمساوي، من خلال تنظيمات تبدأ من عمر الطفولة مثل "براعم هتلر" و"اليونغ فولك"، وصولا إلى حركة "هتلر الشباب"، التي لعبت دورا جوهريا في تعبئة الناشئة وغرس مفاهيم الولاء المطلق للحزب والدولة.
إعلانوفي تلك المنظومة، كان هايم واحدا من الذين تلقوا هذا النوع من التنشئة، قبل أن يترقى في صفوف الجيش النازي ويعمل لاحقا طبيبا عسكريا برتبة نقيب في معسكرات الاعتقال في أثناء الحرب العالمية الثانية التي أشعلها هتلر، وضمن ما عُرفت لاحقا بـ"الآلة البيروقراطية للموت".
وفي أوراقه الخاصة التي عُثر عليها بعد وفاته، وصف هايم تلك اللحظات بأنها "فارقة"، كان يرى فيها نفسه جزءا من مرحلة حاسمة في التاريخ الأوروبي، وهو يكتب عن تلك المرحلة بشغف واضح، وبلغة توحي بانخراطه العميق في مشروع "الإنسان السوبرمان"، الذي بشّر به هتلر وسعى إلى تحقيقه عبر سياسات التطهير العرقي والهيمنة المطلقة.
انتهت الحرب العالمية الثانية صيف عام 1945 بخراب ضخم في القارة الأوروبية ومقتل عشرات الملايين وانتحار هتلر نفسه وقيل هروبه، والقبض على الآلاف من النازيين، وكان من جملتهم هايم.
عُرف هايم في وسائل الإعلام الغربية بلقب "طبيب الموت"، فقد كان أحد الضباط العاملين في وحدات النخبة النازية المعروفة بـ"إس إس"، والمرتبطة مباشرة بأدولف هتلر، والتي اشتهرت بشعارها "شرفي هو إخلاصي".
وتُتهم هذه الوحدات بارتكاب جرائم واسعة النطاق بحق المعارضين السياسيين لهتلر، وكانت تقوم بترحيلهم إلى معسكرات الإبادة من دون محاكمات، في مشهد دامٍ من التاريخ الأوروبي ما زال يلقي بظلاله على العلاقات الدولية حتى اليوم.
وزعمت منظمات متخصصة في تعقّب الفارين من العدالة من رموز النظام النازي بعد سقوط الرايخ الثالث، أن الطبيب النمساوي أربيرت هايم ارتكب فظائع مروعة خلال خدمته في معسكرات الاعتقال النازية.
ووفقا لما تروّج له تلك الجهات ومنها قناة "زد دي إف" الألمانية، فإن هايم كان مسؤولا عن قتل وتعذيب المئات من السجناء، عن طريق ما وُصفت بأنها "تجارب طبية" غير إنسانية، شملت إجراء عمليات جراحية من دون تخدير، وانتزاع أعضاء من أجساد محتجزين أحياء بغرض الدراسة، وتركهم ينزفون حتى الموت.
إعلانورغم هذه الاتهامات، فإن القوات الأميركية اعتقلته مؤقتا بعد الحرب العالمية الثانية، وأطلقت سراحه عام 1947 لعدم كفاية الأدلة، فعاد إلى ألمانيا الغربية لممارسة الطب، بينما استمرت المنظمات اليهودية في الضغط لإعادة فتح ملفه باعتباره أحد أبرز المطلوبين لمحاكمات جرائم الحرب.
بعدما أفرجت عنه القوات الأميركية عام 1947 لعدم كفاية الأدلة بشأن تورطه في جرائم ضد الإنسانية وضد اليهود، عاش هايم حياة هادئة نسبيا لأكثر من عقد في مدينة بادن الألمانية، وهناك استأنف مهنة الطب ليعمل اختصاصيا في أمراض النساء، وتزوج وأنجب ولدين، متخذا لنفسه نمط حياة عاديا ظاهريا، بعيدا عن الأضواء، ومتحاشيا أي صلة علنية بماضيه النازي.
غير أن هذه الهدنة لم تدم طويلا، فمع تصاعد جهود الجماعات اليهودية والمنظمات الدولية المعنية بملاحقة مجرمي الحرب النازيين، أُدرج اسم هايم من جديد ضمن قوائم المطلوبين، وتحديدا في المرتبة الأولى على لائحة المطلوبين من قبل إسرائيل ومنظمات تعقّب النازيين.
ومع تضييق الخناق عليه مجددا عام 1962، أي بعد 15 عاما من إطلاق سراحه، قرر هايم الهرب مجددا إلى أميركا اللاتينية وخاصة تشيلي، قبل أن يتمكن من تغيير هويته وذهابه إلى مصر في العام التالي 1963 وقراره السكن في بنسيون في حي الموسكي بالقاهرة.
نازيون في القاهرةزعم تحقيق نشرته مجلة فرانكفورت المصورة عام 1957 وجود نحو ألفي نازي سابق في مصر، وهو ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الأوروبية والغربية آنذاك.
ولكن هذا الرقم كان مبالغا فيه فقد ثبت أن عددا من الضباط الألمان وصلوا إلى مصر كانوا نحو 250 خبيرا في مجال صناعة الصواريخ و400 آخرين من أكفأ العسكريين الذين حاولت البلد وقتئذ الاستفادة من خبراتهم في تطوير قدراتها العسكرية.
وقد استمر وجودهم هناك بالفعل حتى عام 1968 ثم هربوا بعد ضغوط إسرائيلية ضخمة واستعداء العالم ضد نظام الرئيس جمال عبد الناصر.
إعلانوأُعيد فتح ملف النازيين في مصر بعد عقود، حين بثت القناة العاشرة "الإسرائيلية" يوم 30 مايو/أيار 2010 تقريرا إعلاميا يفيد بتقديم السفير الإسرائيلي في القاهرة، إسحاق ليفانون، طلبا رسميا إلى السلطات المصرية لتسليم 3 ضباط نازيين يُعتقد أنهم استقروا في مصر منذ ستينيات القرن الماضي، وهم: فولفغانغ بلومنتال، والملازم ألبيرت غونتار، والملازم هورست هيلموت.
وفي السياق ذاته، أعرب ليفانون عن احتجاجه على ما وصفه بـ"احتفاظ القاهرة" برفات أربيرت هايم.
الخواجة طارقفي كتابه "نازي في القاهرة، الخواجة طارق أخطر رجال النازية الهاربين في مصر"، يؤكد الكاتب محمد ثروت أنه تواصل مع خبراء أمنيين مصريين واستفسر منهم حول فتح إسرائيل لملف هؤلاء النازيين الأقدمين الهاربين وعلى رأسهم أربيرت هايم، وضغطها مع عديد من الصحف الألمانية والأميركية على هذا الملف رغم مرور عقود عليه.
ليؤكدوا له أن هدفهم من ذلك هو "خطة بعيدة المدى للتغطية على جرائمها (إسرائيل) ضد الشعب الفلسطيني، فضلا عن استهداف مصر ولو بصورة غير مباشرة، والإشارة إلى أنها تؤوي نازيين مطلوبين للعدالة الدولية، وهو أمر غير صحيح على الإطلاق"، وذلك لعدم معرفة أو علم السلطات المصرية بهؤلاء المطلوبين.
وتصطدم هذه الصورة المروعة التي ترسمها الروايات الإسرائيلية والأجنبية لهايم بتفاصيل واقعية من حياة الرجل بعد الحرب، إذ تشير مصادر صحفية مصرية إلى أنه فر إلى مصر متخفيا تحت اسم عربي هو "طارق حسين فريد"، واستقر منذ عام 1963 وحتى وفاته في عام 1992 في حي الموسكي الشعبي بالقاهرة، حيث كان يُعرف بين سكان الحي بلقب "الخواجة طارق".
في حي الموسكي
ويقدم الصحفي المصري محمد ثروت في كتابه سردا تفصيليا مشوقا لتاريخ هايم داخل مصر في عقوده الثلاثة الأخيرة من حياته.
إعلانفقد عاش الطبيب النمساوي متخفيا تحت اسم طارق حسين فريد، في أحد أحياء القاهرة القديمة، وتحديدا في حي الموسكي الشعبي المجاور لجامع الأزهر ومسجد الحسين، وأعلن إسلامه واستقر في بنسيون متواضع يُدعى "قصر المدينة"، وهو نُزل منخفض التكلفة يقيم فيه غالبا من لا يملكون القدرة على سداد نفقات الفنادق السياحية.
وقد اختار هايم هذه البيئة الشعبية بعيدا عن أي شكوك، واندمج تدريجيا في المجتمع المحلي، حتى بات يُعرف بين السكان بلقب "العم طارق" و"الخواجه طارق"، وبحسب شهادة محمود دومة نجل صاحب الفندق لمؤلف الكتاب محمد ثروت، فإن هايم كان يجيد التحدث بعدة لغات، من بينها الألمانية والفرنسية والإنجليزية والعربية، وكان يحتفظ بنسخة من القرآن الكريم مترجمة إلى الألمانية، حصل عليها بمساعدة عائلة دومة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الحرب العالمیة الثانیة فی القاهرة فی مصر
إقرأ أيضاً:
سفينة الأشباح.. لغز مدفون قبل ألف عام| ما القصة؟
اكتشف علماء الآثار قطعة أثرية غامضة في موقع ساتون هو بإنجلترا، حيث يشتهر الموقع بدفن "سفينة الأشباح" الأنجلوساكسونية من القرن السابع، التي عُثر عليها داخل تلة دفن بين عامي 1938 و1939.
لغز مدفون قبل ألف عامأثارت شظايا الدلو البيزنطي الذي يعود إلى القرن السادس فضول الباحثين منذ أن كشفت عنه مجرفة جرار بالصدفة في عام 1986.
يعتقد الخبراء أن جذور الدلو تعود إلى الإمبراطورية البيزنطية، وكان قد صُّنع في أنطاكيا (تركيا الحديثة)، قبل أن يشق طريقه إلى الساحل الشرقي لبريطانيا بعد نحو قرن من صناعته.
في عام 2012، ساهمت حفريات إضافية في العثور على قطع أخرى من هذا الأثر المعروف باسم دلو برومسويل (Bromeswell Bucket)، لكن القاعدة الكاملة للوعاء ظلت غامضة، تمامًا كأسباب وجوده في موقع أنغلوساكسوني.
أصبح لغز برومسويل اليوم أقرب إلى الحل، بعدما كشفت حفريات جديدة أُجريت الصيف الماضي، عن كتلة من التراب تحتوي على أجزاء من الدلو.
بعد تحليل دقيق، تبين أنها تضم القاعدة الكاملة للوعاء التي تحتوي على زخارف تُكمل تفاصيل مثل الأقدام، والكفوف، والدروع الخاصة بالشخصيات، إضافة إلى الوجه المفقود لأحد المحاربين.
كما اكتشف الفريق محتويات الدلو المفاجئة، والتي كانت عبارة عن بقايا محترقة لكائنات حيوانية وبشرية، الأمر الذي ألقى مزيدًا من الضوء على سبب دفن هذا الوعاء أساسًا.
عثر الباحثون على مشط محفوظ بشكل مذهل، قد يحتوي على أدلة حمض نووي (DNA) تعود إلى الشخص الذي وُضع ليرقد في هذا القبر قبل أكثر من ألف عام، ويُرجَّح أنه كان شخصًا يتمتع بمكانة رفيعة.
مقتنيات جنائزية غير متوقعةخضعت كتلة التراب لفحوصات بالأشعة المقطعية والسينية في جامعة برادفورد، قبل أن تُرسل إلى هيئة الآثار في يورك (York Archaeological Trust) لمزيد من التحليل في شهر نوفمبر.
تولى فريق بحثي متخصص في دراسة العظام البشرية، والبقايا العضوية، وحفظ الآثار، إزالة التربة بعناية فائقة من داخل الدلو، وحللوا كل شظية تظهر تدريجيًا.
كشفت هذه المقاربة الدقيقة عن عظام بشرية محروقة، شملت أجزاء من عظمة كاحل، وقبة الجمجمة (الجزء العلوي الواقي من الجمجمة)، وفق ما جاء في بيان صادر عن المؤسسة الوطنية للحفاظ على التراث.
كما عثر الباحثون على بقايا عظام حيوانية، وأظهر التحليل الأولي أن هذه القطع تعود لحيوان أكبر من الخنزير.
وأشار الفريق إلى أن الأحصنة كثيرا ما كانت تُحرق ضمن طقوس الحرق الجنائزي في العصور الأنغلوساكسونية المبكرة، كتعبير عن مكانة الشخص المتوفى.
أما تمركز بقايا العظام في حزمة متماسكة، إلى جانب وجود ألياف غريبة غير معروفة، فيرمز إلى أن هذه الرفات كانت محفوظة في كيس وُضع داخل الدلو.
عُثر أيضًا على بعض شظايا العظام خارج الدلو مباشرة، تظهر عليها بقع نحاسية (ناتجة عن تفاعل العظام مع معدن الدلو)، ما يدل على أنها دُفنت في الوقت ذاته، لكن خارج الوعاء.
تخضع كل من العظام البشرية والحيوانية راهنًا، لمزيد من الدراسة، بالإضافة إلى اختبارات التأريخ بالكربون المشع، لتوفير سياق زمني أوضح ودقيق.
ووضعت مقابر حرق عدّة في موقع ساتون هو داخل أوعية مثل الجرار الفخارية والسلطانيات البرونزية، من بينها وعاء برونزي معلّق معروض حاليًا في قاعة المعرض الكبرى.
مقتنيات جنائزيةأظهرت الفحوصات الأولية وجود مقتنيات جنائزية داخل الدلو، وتمكن الباحثون بعناية فائقة من استخراج مشط مزدوج الجوانب، دقيق ومتكامل إلى حد كبير، يحتوي على جانب بأسنان رفيعة وآخر بأسنان أوسع، ويُرجّح أنه صُنع من قرن أيل (غزال)..
عُثر على أمشاط مصنوعة من العظام وقرون الأيائل في مدافن تعود للرجال والنساء على حدّ سواء، وأشار الاختلاف بالأحجام إلى أنها استُخدمت في تسريح الشعر، واللحى، وإزالة القمل.
ويُعد ساتون هو، من أهم مواقع التنقيب الأثري في بريطانيا، حيث خضع لحملات تنقيب عديدة على مر السنين، ذلك لأن اكتشاف سفينة الدفن في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي غيّر بشكل جذري فهم المؤرخين لحياة الأنغلوساكسونيين، ومكانتهم، وثقافتهم.