كانت الساعات الأولى من صباح الجمعة مفزعة حد الإحباط والأسى. إخوة لنا في ميدان المعركة بين جريح ومفقود وقابض على سلاحه ينتظر المدد، وآخرون يتبادلون الاتصالات: خالد بخيت، عبد الله بلال، نصر الدين حميدتي، ومن أيرلندا موسى أحمد عمر، ومن السعودية الناظر أسامة الفكي، ومن المجلد والهند الأحباب والإخوان وأبناء الدار وخارجها يتناقلون الأنباء المفزعة.

وفي الثالثة صباحًا، لم يصل متحرك “الصياد” من الأبيض، وكان قرار قيادة اللواء الثامن عشر الانسحاب إلى الخوي، وكأنهم يسيرون على خطى الفرقة الأولى ودمدني حينما انسحبت الفرقة وحكومة الجزيرة إلى المناقل، ومن هناك بزغت بذرة الخلاص من التمرد في الجزيرة وصمود أهلها.

مع خيوط فجر الجمعة، بدا المشهد شبيهًا في كل شيء بليلة وصباح سقوط بغداد تحت أقدام قوات الاحتلال الأمريكية. في ذلك اليوم، هبّت عاصفة ترابية من صحراء شمال وغرب إيران وجنوب تركيا، ورسمت في بغداد صورة قاتمة لفجر كئيب على نفوس كل الأحرار، لا حزنًا على ذهاب سلطة حزب البعث الذي وقف معه السودان، ولكن لأن مكافأة الحزب لمن وقف معه كانت بعضد الأيادي التي حملته في وهنه بأسنان لا تعرف السواك.

أشرقت شمس الأمس والبلاد غشّاها الغبار العالق وظللها رماد خسارة مدينة ما كان لها أن تسقط لو ساد في كردفان أهل البصائر. سقطت النهود، وكان سقوطها موجعًا لكل حر في هذه البلاد، ولكل من أحب تراب الأرض ودار حمر وأهل الدار وصُرة السودان وقلبه. الحرب تقدم وتقهقر، نصر وخسارة، موت وجراح وإعاقة. ومن لم تفجعه فقدان أمه، لن يبكي لفراق محبوبته.
لن نجزع ولن نخاف، حتى لو سقطت كل مدن السودان، لأن النصر من عند الله. تظل القوات المسلحة، والقوات المشتركة، وقوات الأمن والشرطة، والمجاهدين المخلصين، يحظون بسندنا المعنوي، ونهبّ لنجدتهم، لا نشجعهم ساعة النصر فحسب، بل نسندهم لحظات الشدة، ونكتب عنهم في يوم الكريهة. ولكن تظل الجروح في القلوب دامية لفقدان النهود، والحزن عميق، والأسى يحفر في القلب أخدودًا من الجراح العميقة.

لأن ميليشيا ماجوج ما دخلت مدينة إلا واغتصبت حرائرها، وانتهكت شرفها، ونهبت ممتلكات مواطنيها، وتخيرت خيرة المجتمع وأشبعتهم موتًا وسحلًا، وأهانتهم أينما وجدوا، واحتقرت الرجال. فكيف لا نبكي النهود؟ المدينة التي تمثل السودان، ودار حمر التي تتلاقح فيها الأنساب والأعراق، ويعيش الناس فيها بالحب، وتقاسم لقمة العصيدة، وشرب لبن الضأن، ورقص “التوية” والطمبور والجراري والحسيس.
النهود قال عنها محمد أحمد محجوب ما لم يقله محمد أحمد الطاهر أبوكلابيش عن الخوي:
“البيت الجميل أوصافو
الساكننو ما بتشافو
لو ما العمر وربنا البنخافو
نعبد بالسبح الديسو غطى أكتافو”
هل، في يوم الفجيعة والغُمّة، نسأل: أين أبوكلابيش؟ وكيف حال سالم الصافي حجير؟ وأين بشير آدم رحمة؟ وأين لفظت الحرب بخاري بسبار وشريف عباد؟ وما مصير الناظر عبد القادر منعم منصور، الذي دخل الأوباش دار حمر وطالبوه وهو أسير بأن يسجل بيانًا يدين فيه الجيش ويطالبه بالخروج من النهود، فقال قولته التي أرعبت الأعداء: “اطلق رصاصة على رأسي، أكرم لي مما تطلب.”
ولن نسأل عن الوالي الذي كان ضيفًا ثقيلًا على المنصب، ورجلًا خفيفًا على أهل الدار، مثل الكسرة بالماء والملح: لا تغلط عليك، ولا توسخ يديك.

2
سقوط النهود هو الحقيقة التي يجب التعاطي معها. لن نسأل عن المال المنهوب، ولا عدد العربات التي نهبت الأرض سباقًا من الضعين وغرب دارفور وكل دمر الرحل ومن المجلد والفولة والدبيبات وأبوزبد، لاغتنام المال الحرام والكسب غير المشروع.
لن نسأل عن مصير الرجال الذين لم يجدوا إسعافًا لجراحهم. لن نسأل من أعدّ قائمة المعتقلين ورسم خارطة بيوت التجار ومارس مهنة (القوادة) المهنة الرائجة الآن في السودان، والأكثر وضاعة، لكنها باب قذر للمال الحرام.
لكننا نسأل عن القيم التي أهدرت، والمستقبل القادم، وكيف يسترد الرجال الأسود البلاد، والنهود عاصمة لشعب، لا حارة أو زقاق.
يسألنا الناس والدم يراق في أرض حمر: هل تعود النهود قريبًا كما عادت مدني والكاملين وتحررت بحري والحصاحيصا؟
الإجابة: نعم بالطبع. ومثلي لا يملك تأهيلًا ليفتي في شأن عسكري، أفنى فيه البعض عمره قتالًا، ودرس في المعاهد العسكرية، ونال أرفع الشهادات والأوسمة، وخاض غمار المعارك في مشارق الأرض ومغاربها.
لكن، من تجربة سنوات في جنوب السودان، وجبال النوبة، ودارفور، أقول: نعم، قد تعود النهود اليوم أو غدًا.

عودة النهود هي الفريضة التي في عنق قادتها من رجال القوات المسلحة، وفرسان المشتركة، ومجاهدي البراءون، وخبرات السنين في جعبة رجال كردفان أولًا، ثم السودان ثانيًا.
حينما سقطت الجزيرة، نهضت حركة تحرير الجزيرة، وغشيت القائد أبو عاقلة كيكيل صحوة ضمير، وانتصر الخير في نفسه على الشر والعدوان، وانقلب على الميليشيا. وقدمت قوات درع السودان من أبناء البطانة والجزيرة تضحيات لم تجد حظها من التوثيق، لكنها محفوظة في صدور شباب الدراعة الذين قاتلوا بشراسة غير معهودة.
تم تحرير الجزيرة بالدم والدموع، ودفع درع السودان الثمن: شهداء دفنت أجسادهم في تراب الجزيرة، وبقيت أرواحهم تهب الآخرين عزم الرجال.
ومن تلك التجربة يجب أن يتعلم الرجال الأشداء: فرسان دار حمر، وأشاوس المسيرية، وأبطال دار حامد، ورجال الحوازمة، وأسود جبال النوبة، ونمور البديرية، ومرافعين كيقا وأم روابة والمزروب… كيف تُحرر الأرض وتُسترد الحقوق.
وربما يجعل الله سره في ماكن الصادق، أو التاج التجاني، أو الفاتح قرشي، وتغشى أحدهم صحوة ضمير، وينقلب على الدعم السريع، ويبدأ الفتح من حيث ثغرة الهزيمة الموجعة التي أكلت أكبادنا، ونحن نمشي على الأرض كالسُكارى وما نحن بسكارى، ولكن وقع سقوط النهود موجع جدًا.
مثلما هو موجع لضباط القوات المسلحة من فرسان كردفان: حسن درمود، حسين جيش، عبد الله كافي، أبو القاسم صلوحة، العميد حسن البلاع… وأكثر وجعًا على فرسان أقعدهم الزمان عن القتال.

في ليلة ظلماء نتذكر: حسين جيش، أحمد حجر، جنجا، القبول الفاضل، هجام الليل، حسن كربة صالح، سليمان صالح… الذين وآخرين سجلوا أسماءهم في سجلات التاريخ.
لكن الحاضر الآن يدعوهم لخوض الحرب الوجودية التي فرضت علينا من الإمارات وما وراء الإمارات، وهي حرب مفتوحة لكل الاحتمالات، وقد انتقلت الآن لكردفان، التي اجتاحها التتار الجدد ينهبون ويسرقون ويغتصبون الأخوات والبنات. فماذا تنتظرون؟
3
منذ أن تجمعت قوات الميليشيا في الصحراء الأسبوع الماضي، واستعرضت قوتها، وبثت رسائلها المعلنة بزعم استهداف مدينة الدبة أو الولاية الشمالية، كانت تلك الرسالة مفتوحة في بريد القيادة السياسية والعسكرية.
التمرد يبحث عن نصر معنوي، وبعد أن استعصى عليه الفاشر واستيأس منها، توجهت القوة، التي قوامها أكثر من 300 عربة مسلحة، نحو مدينة النهود التي ظلت محاصرة منذ عامين، تتلقى الذخائر بالإسقاط لا بالإمداد البري، وظل متحرك “الصياد” في أطراف الأبيض يتعرض لمناوشات لإعاقة تقدمه.

كان واضحًا لكل صاحب بصيرة أن الميليشيا تسعى لإسقاط النهود بأي ثمن، ودفعوا بكل قواتهم في الصحراء وكردفان وشمال دارفور لكسر ظهر هذه المدينة، وإعاقة الصياد والقوات المشتركة من التقدم لدارفور.

وقد حدث ما حدث أمس. والآن أمامنا جميعًا تحرير أرضنا، وتشتيت القوى المتواجدة الآن في النهود، من خلال استهداف الصياد لمناطق مثل: أبوزبد، الفولة، الدبيبات، الحمادي، وتحريرها اليوم قبل الغد، والتوغل نحو الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان، التي يجب أن تعود سريعًا، لتُشفي جراح بعض ما خلفه سقوط النهود.

يوسف عبدالمنان
3-5-2025م:*

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: نسأل عن

إقرأ أيضاً:

وسم الجزيرة نت صدى معاناة أهالي غزة خلال عامي الإبادة

يدخل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عامه الثالث اليوم، ليظل القطاع الجريح والمحاصر منذ 18 عاما يعيش تحت وطأة حرب إبادة ممنهجة شنتها إسرائيل عقب معركة "طوفان الأقصى".

هذه الحرب الشرسة لم تترك أثرا للإنسان أو النبات أو الحجر إلا وامتدت إليه يد البطش الإسرائيلية، حتى بات الجوع سلاحا إضافيا فتّاكا تلوح به إسرائيل في محاولة لإخضاع المقاومة وأهالي غزة لسيطرتها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف يرى المغردون "طوفان الأقصى" في ذكراه الثانية؟list 2 of 2ثمن باهظ دفعه الاقتصاد الإسرائيلي خلال سنتين من حرب غزةend of list

لقد تحولت مشاهد الجوع والحرمان إلى صور حية كانت حاضرة بقوة على منصات التواصل الاجتماعي، إذ أصبح الناس يرصدون مشاهد الطوابير الطويلة أمام نقاط توزيع المساعدات، التي سرعان ما تحولت في كثير من الحالات إلى مصيدة للموت بفعل استهداف الاحتلال للمدنيين أثناء تجمعهم للحصول على أبسط مقومات الحياة.

لم يكن هذا المشهد سوى جزء من سياسة العقاب الجماعي التي انتهجها الاحتلال، فالمساعدات الإنسانية تحولت من نافذة للأمل إلى فخ قاس يحصد مزيدا من الأرواح تحت أنظار العالم.

 

وفي ظل استمرار آلة القتل الإسرائيلية دون توقف، شهدت غزة مجازر مروعة ومشاهد مأساوية تم توثيقها ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي لحظة بلحظة، ليصبح كل مواطن في القطاع شاهدا حيا على وحشية العدوان.

حتى أن بعض اللقطات الموثقة حملت عناوين البطولة والصمود، إذ أظهرت أبناء غزة وهم يتشبثون بحقهم في الدفاع عن أرضهم، مجسدين صورا خالدة من البسالة والتضحية، كتب لها أن تبقى في ذاكرة التاريخ الإنساني.

ولم ينج العاملون في الطواقم الطبية من بطش الاحتلال، إذ تعرضوا للاعتداءات المتكررة أثناء أدائهم واجبهم الإنساني في إنقاذ المصابين والجرحى، متحدين الظروف القاسية ونقص الإمكانيات المفروض بفعل الحصار الإسرائيلي الخانق.

وعمل هؤلاء الأبطال ليل نهار وسط ركام المستشفيات المدمرة، ليبرهنوا للعالم أن روح العطاء لا تقهر حتى أمام أعتى آلات الدمار.

إعلان

أما الصحفيون وعمال الإعلام، فقد دفعوا ثمنا باهظا وهم ينقلون حقيقة ما يجري في غزة إلى العالم.

 

إذ استهدف الجيش الإسرائيلي عدسات الكاميرا والصحفيين بشكل مباشر، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 250 صحفيا منذ بداية العدوان، بعد أن كانوا شهداء على الحقيقة، موثقين تفاصيل المجازر والتجويع والتشريد والنزوح القسري الذي لم ينج منه كبير ولا صغير ولا حجر ولا بشر.

جميع هذه الحالات والفصول من المعاناة رصدتها "الجزيرة نت" عبر صفحة "وسم"، حيث كانت صدى لأهالي غزة تنقل ما يعيشونه من فصول إبادة إسرائيلية ممنهج، ومنبرا ينقل صوتهم وأوجاعهم، ويفضح جرائم الاحتلال بحق القطاع الصامد.

وهذه نماذج مما نشرته الصفحة:

خرج من أجل كيس طحين فعاد بالكفن.. قصة استشهاد محمد الزعانين

"كرسي وكوفية وعصا".. المشهد الأخير للسنوار كما رآه مغردون

سندريلا غزة.. قصة غابت عنها النهاية السعيدة

بعد عامين من الإبادة: هنا غزة، هل تسمعوننا؟ أوقفوا الحرب

الجزيرة نت ترصد ما كتبه أهل غزة عن حرب الإبادة الإسرائيلية

"مشهد جريء".. صدى تفجير مقاومَين لدبابة إسرائيلية برفح يدوي بين المغردين

مظاهرة تاريخية في أمستردام.. الطوفان الأحمر نصرة لغزة

غادة رباح.. مأساة جديدة تعيد للأذهان قصة الطفلة "هند رجب"

غزة تحترق في أعنف لياليها منذ 700 يوم.. ومغردون: كأنها القيامة

ناشطون: غزة تواجه أكبر عملية تهجير قسري منذ نكبة 1948

مغردون: "عصا موسى" ستبتلع "عربات جدعون" على أرض غزة

مشهد القسامي الجريح وهو يقاتل قبل دعسه يثير إعجاب رواد منصات التواصل

مقالات مشابهة

  • سلسلة أفلام المقاطعة.. حكاية المقاومة السلمية من الجزيرة 360
  • مشهد فلكي بديع نادر منتظر الليلة.. أهم النصائح لرؤية أفضل
  • أذكار الصباح .. اعرف فضلها وآخر موعد لترديدها ولا تتكاسل عنها
  • كل غلام رهينة بعقيقته.. أضرار ترك سنة العقيقة وآخر وقت لها
  • الإيجار القديم 2025.. الفئات المستحقة للشقق البديلة وآخر موعد للتقديم
  • دراسة جيولوجية: تركيا تنفصل عن شبه الجزيرة العربية في المستقبل
  • توزيع 20 ألف سلةٍ غذائية ضمن مشروع العزة والكرامة لعمال الجزيرة
  • وسم الجزيرة نت صدى معاناة أهالي غزة خلال عامي الإبادة
  • مراسل الجزيرة يرصد غارة جوية على غزة أثناء مداخلته على الهواء مباشرة
  • الموت يغيب صانع المدن وآخر رئيس وزراء في عهد البشير