أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا طال انتظاره بشأن الدعوى التي رفعها السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تتهم فيها الخرطوم أبوظبي بالتواطؤ في ارتكاب إبادة جماعية في إقليم دارفور، عبر دعمها المزعوم لقوات الدعم السريع، أحد أطراف النزاع المسلح الدائر في السودان منذ أبريل 2023.
هذه القضية تمثل محطة فارقة في مسار استخدام القانون الدولي كأداة سياسية، وفي الوقت ذاته، تثير تساؤلات جوهرية حول نطاق اختصاص محكمة العدل الدولية وحدود مسؤولية الدول بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948.


________________________________________
أولًا: الإشكال القانوني الجوهري – معركة الاختصاص
تقوم دعوى السودان على أساس المادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تمنح محكمة العدل الدولية ولاية النظر في النزاعات الناشئة عن تفسير أو تطبيق الاتفاقية. إلا أن الإمارات – عند توقيعها الاتفاقية عام 2005 – أبدت تحفظًا صريحًا على هذه المادة، ما يعني أنها لا تقبل اختصاص المحكمة تلقائيًا.
من الناحية القانونية، يُعد هذا التحفظ حاجزًا أوليًا يمكن أن يؤدي إلى رفض القضية من حيث الشكل. وقد أظهرت المحكمة في سوابق قضائية سابقة احترامًا واسعًا لتحفظات الدول، ما لم تُثبت مخالفتها لمقاصد الاتفاقية أو انتهاكها لمبدأ jus cogens (القواعد الآمرة في القانون الدولي).
________________________________________
ثانيًا: عبء الإثبات – ما وراء الخطاب السياسي
لكي تثبت السودان تهمة التواطؤ في الإبادة، لا يكفي الادعاء بالدعم المالي أو العسكري. بل يتطلب الأمر توفر:
• عنصر المعرفة: أن تكون الإمارات على علم بأن الدعم المقدم سيُستخدم في ارتكاب إبادة جماعية.
• عنصر القصد: أي نية المشاركة أو المساهمة في تنفيذ سياسات ترمي إلى التصفية العرقية أو التطهير الجماعي.
حتى تاريخه، لم تُصنف أفعال قوات الدعم السريع كإبادة جماعية من قبل أي جهة قضائية دولية. وعلى الرغم من توثيق انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، إلا أن عبور عتبة "الإبادة" قانونيًا يتطلب مستوىً عالياً من الأدلة، قد لا يتوافر في الوقت الراهن.
________________________________________
ثالثًا: البعد السياسي – تدويل النزاع وتحويل الاتهام إلى أداة ضغط
في السياق السياسي، يبدو أن السودان يسعى من خلال هذه الدعوى إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية:
1. عزل دبلوماسي للإمارات عبر ربطها بقوة عسكرية متهمة دوليًا بارتكاب فظائع ضد المدنيين.
2. إحياء التعاطف الدولي مع قضية دارفور وإعادة إدراجها في الأجندة الأممية.
3. خلق ضغط متعدد المستويات لدفع الإمارات نحو مراجعة مواقفها المعلنة أو المحتملة حيال النزاع.
بالمقابل، تنتهج الإمارات استراتيجية دفاع مركّزة على التشكيك في نوايا السودان، ووصفت الدعوى بأنها "مسرحية سياسية"، مع تأكيدها على النأي بنفسها عن دعم أي طرف مسلح بشكل مباشر.
________________________________________
رابعًا: السيناريوهات المحتملة ومآلات القضية
من حيث النتائج، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات:
1. رفض الدعوى لعدم الاختصاص: وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا قانونيًا في ضوء التحفظ الإماراتي.
2. قبول جزئي للدعوى مع إجراءات تحفظية: وهو ما سيؤدي إلى فتح مرحلة جديدة من التقاضي دون حسم فوري.
3. تسوية غير علنية: عبر ضغوط دبلوماسية أو تفاهمات إقليمية قد تُفضي إلى سحب الدعوى أو تقليص آثارها السياسية.
________________________________________
ما بين القانون والسياسة – هل يتغير مسار الصراع؟
تُبرز هذه القضية الدور المتصاعد للمحاكم الدولية في فض النزاعات ذات الطابع السياسي، وتحويل ساحات التقاضي إلى امتداد لمعركة النفوذ الإقليمي. وبينما تُظهر السودان استعدادًا لاستخدام أدوات القانون الدولي لتدويل أزمته، فإن نجاح هذا النهج سيظل مرهونًا بتوازنات سياسية أكثر من كونه حسمًا قانونيًا خالصًا.
وبينما تنظر المحكمة في الجوانب الشكلية، يبقى النزاع السوداني محتدمًا على الأرض، حيث تتوالى التقارير عن مآسٍ إنسانية متفاقمة في دارفور ومناطق النزاع الأخرى، ما يزيد من الضغوط على المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات تتجاوز ساحات المحاكم.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: محکمة العدل الدولیة

إقرأ أيضاً:

السودان: التأثيرات الاقتصادية المحتملة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات

وجد إعلان مجلس الأمن والدفاع السوداني بقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الإمارات العربية المتحدة تجاوباً واسعاً في الشارع السوداني، لاسيما بعد الهجوم الذي استهدف منشآت حيوية بمدينة بورتسودان، الميناء الرئيسي على ساحل البحر الأحمر.

ومنذ الأحد الماضي إستهدفت مسيرات انتحارية واستراتيجية مطار بورتسودان والمستودعات الاستراتيجية للنفط والميناء الجنوبي ومحطة الكهرباء التحويلية وفندق مارينا، فيما تصدت دفاعات الجيش السوداني لهجوم بالطائرات المسيرة على قاعدة فلامنغو على ساحل البحر الأحمر صباح أمس الأربعاء.

واتهم السودان دولة الإمارات العربية بدعم مليشيا الدعم السريع خلال حربها مع قوات الجيش السوداني والتي دخلت عامها الثالث وزادت وتيرة الاتهامات بعد الهجوم المتكرر على مدينة بورتسودان لجهة استخدام أسلحة حديثة وإصابتها لأهداف بعينها.

وعلى الرغم من العلاقات الإقتصادية القوية بين أبو ظبي والخرطوم في سنوات ما قبل الحرب إلا أن قرار مجلس الأمن والدفاع بإعلان الإمارات دولة عدوان وجد رد فعل من رجال ونساء أعمال سودانيين ألغوا رخصهم التجارية وأوقفوا أعمالهم بالإمارات، بحسب ماجاء في وسائل التواصل الاجتماعي.

وبلغ حجم الاستثمارات والتمويلات التنموية الإماراتية في السودان 28 مليار درهم (7.6 مليار دولار)، منها 6 مليارات دولار في القطاع الزراعي، مع وجود 17 شركة إماراتية تعمل في قطاعات متنوعة مثل الزراعة، السياحة، والطيران، والنفط، والغاز؛ وذلك وفق بيانات وكالة أنباء الإمارات (وام) والتي تعود إلى عام 2018.

وتخوف عدد كبير من المواطنين السودانيين حول مصير التطبيق المصرفي لبنك الخرطوم (بنكك) والذي يعتمد عليه أغلبهم في تحويلاتهم المصرفية والمالية لجهة أن 42% من أسهم بنك الخرطوم تأتي من دول مجلس التعاون الخليجي / الشرق الأوسط مثل بنك دبي الإسلامي (أكبر مساهم) ، وبنك التنمية الإسلامي في جدة ، ومصرف أبو ظبي الإسلامي ، وبنك الشارقة الإسلامي وغيرها من المساهمين.

غير أن بنك الخرطوم أكد في بيان صدر (الثلاثاء) أن تطبيق “بنكك” ظل ومازال يعمل بشكل طبيعي ويواصل تقديم خدماته المصرفية للمواطنين في جميع أنحاء السودان، مشيراً إلى أن البنك، بصفته مؤسسة سودانية وطنية، يتبع قانون المصارف السوداني ويخضع لرقابة بنك السودان المركزي.

وأوضح البنك بأن الشائعات المتداولة عن إيقاف تطبيق “بنكك” على خلفية قطع العلاقات مع الإمارات لا أساس لها من الصحة، مشيراً إلى أن تطبيق “بنكك” يعتمد على سيرفرات منتشرة في عدة دول، وليس في الإمارات كما تم تداوله.

ويرى مصدر باتحاد أصحاب العمل إن التأثيرات من الناحية التجارية لقطع العلاقات مع أبوظبي ستكون أكبر من التأثيرات الإقتصادية لجهة أن الإمارات هي الشريك الأول للصادرات والثاني للواردات.

وقال إن “الإمارات تعد السوق الأول لصادر الذهب السوداني وهنا سيكون التأثيرات كبيرة، مبيناً أن الحديث حتى الآن عن قطع العلاقات الدبلوماسية والذي يحتمل ألا توثر على العلاقات الأخرى.

ورجح المصدر لــ( المحقق) إلى ان التاثير الكبير سيكون من نصيب قطاع النقل لا سيما النقل الجوي الذي سيؤثر على نقل البضائع من والى السودان لافتا الى المعالجة تكون بايجاد خطوط طيران تعمل من مطارات اخرى وتستخدم نظام (الكونكشن) بحيثتهبط في الامارات بطيران غير مباشر.
وقلل من تاثير القرار على واردات السلع الاستراتيجية خاصة المواد البترولية والتي يمكن أن تستورد من دول أخرى بالاضافة الى السلع مثل السكر.
وأوضح المصدر أن ابلغ التاثيرات ستكون في المعاملات المصرفية والتحويلات الخارجية التي تتم عبر فروع المصارف السودانية الموجودة في دبي وابوظبي.
وأستدرك أن القرار سيكون فرصة لتقليل الاعتماد على دبي في مسالة تحويلات المصارف لجهة انه معيب للاقتصاد السوداني.
وأشار الى ان التاثيرات الاقتصادية ستنال الامارات نصيب منها ولن تكون مقصورة على السودان باعتبار ان للامارات مشاريع استثمارية كبيرة في السودان

بدوره يقول الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية، عبد الوهاب جمعة إن التاثير الاقتصادي لقطع العلاقات بين السودان والامارات سيكون قصير المدى موضحا إن العلاقات التاريخية بين البلدين والتي شملت فترة الحظر الاقتصادي الامريكي جعلت السودان يعتمد دبي مركزاً تجاريا مما جعل المصدرين والمستوردين يعتمدون الدرهم الاماراتي في اجراء العمليات التجارية.
وأضاف جمعة الذي تحدث لـ( المحقق) إنه “وبعد فترة رفع الحصار الامريكي قل اعتماد السودان على الدرهم الاماراتي ولكن بحكم العادة مارس التجار السودانيون تجارتهم من الامارات على الرغم من انفتاح البعض على دول أخرى”.
وتابع جمعة أن “قرار مجلس الامن والدفاع فرصة للانفتاح على دول شرق أسيا مما يقلل من التاثيرات الاقتصادية المحتملة لقطع العلاقات.”
وأشار إلى ان ابلغ التاثيرات ستصب في مسألة صادرات الذهب باعتبار أن الإمارات هي الوجهة الأولى للذهب السوداني بالإضافة إلى وجود بورصة دبي والتي يعتمد عليها المصدرون بصورة كبيرة.

وأوضح أن المعالجة ستكون في تخزين الذهب داخل السودان مما يؤدي إلى زيادة المخزون وبناء احتياطي من الذهب في الخزينة العامة، لافتاً إلى ضرورة أن يتخذ بنك السودان سياسة تشجع على شراء الذهب المحلي وتكوين مخزون استراتيجي يعود بالنفع على المدى المتوسط والطويل وينمي ميزان المدفوعات وتكوين احتياطي من الذهب.

ونوه إلى أن القرار فرصة كبيرة جداً في توسيع التجارة مع الصين خاصة بعد الرسوم الأمريكية على الواردات الصينية مما جعل الحكومة الصينية تتخذ إجراءات من بينها إيجاد أسواق جديدة للمنتجات الصينية بعيداً عن الأسواق الأمريكية وهذه فرصة كبيرة للسودان لإيجاد دول جديدة تكون بديلة للإمارات.

رئيس الغرفة القومية للمستوردين الأسبق، الصادق حاج علي يؤكد ، من جهته، على أن قطع العلاقات الدبلوماسية بين السودان والإمارات العربية المتحدة قد يؤدي إلى تأثيرات اقتصادية متعددة.
ويرى أن أبرز التأثيرات المحتملة يتلخص في تراجع الاستثمارات الإماراتية في السودان حيث تعد الإمارات من أكبر المستثمرين في السودان، خاصةً في قطاعات مثل الزراعة (مشروع أمطار) كمثال ، و أيضاً في قطاع الاتصالات و البنوك و الموانيء حيث وقع اتفاق مبدئي قبل عامين لإنشاء ميناء أبو عمامة على سواحل البحر الأحمر بواسطة شراكة تضم هيئة أبوظبي للاستثمار و شركات سودانية خاصة.

وقال حاج علي في حديث لموقع “المحقق” الإخباري: “قد يؤدي قطع العلاقات إلى تجميد أو سحب استثمارات قائمة أو العدول عن أخرى مستقبلية و يؤثر على فرص العمل والنمو الاقتصادي، ويزيد من صعوبة جذب استثمارات خارجية جديدة”.

وأشار إلى احتمالية اضطراب التبادل التجاري لجهة أن الإمارات سوق مهمة للصادرات السودانية (مثل الأعلاف و اللحوم و الذهب بصورة أساسية) كما أنها مصدر للواردات الأساسية (مثل المنتجات البترولية و الكثير من السلع لافتاً إلى احتمالية مواجهة الصادرات السودانية عوائق جمركية أو لوجستية، مما يزيد تكاليف التجارة ويُضعف الإيرادات.

وأوضح حاج علي أن للقرار تأثير على التحويلات المالية
حيث يعمل آلاف السودانيين في الإمارات، مشيراً إلى أن قطع العلاقات قد يعرقل هذه التحويلات أو يزيد تكلفتها، مما يضغط على الاحتياطي النقدي ويُفاقم أزمة العملة الصعبة.

من جهته يرى الخبير الاقتصادي د. محمد تورشين، أن الإمارات كانت منفذًا حيويًا للاقتصاد السوداني، وقد اعتمدت عليها الأنظمة السابقة بشكل مباشر للخروج من العزلة الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على السودان.

وقال تورشين لموقع “المحقق” الإخباري: “ومنذ ذلك الحين، توطدت العلاقات الاقتصادية بشكل كبير مع الإمارات، حيث تعتمد العديد من الشركات التي تعمل في تصدير الذهب، وفي غيره، على الإمارات.
وأشار تورشين إلى أن السودان، رغم علمه بتورط الإمارات في دعم قوات الدعم السريع وتوفير العديد من المساعدات لها، لم يتخذ خطوات حاسمة ضدها خلال الفترة الماضية.
وأضاف: “وربما كان ذلك في إطار سعيه لترتيب بدائل تساعده على اتخاذ هذه الخطوة”.

وتابع: أعتقد أن السودان نجح في ذلك، وأن هذا النجاح سيسهم في تعافي الاقتصاد السوداني.

المحقق – نازك شمام

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • محكمة القاهرة الجديدة العمالية تلزم المهن الطبية بسداد أرباح مندوبي الدعاية
  • محكمة القاهرة الجديدة العمالية تُلزم «المهن الطبية» بسداد أرباح مندوبي الدعاية
  • الصفدي: ننسق مع إخواننا في سوريا وتركيا والمجتمع الدولي من أجل وقف الاعتداءات الإسرائيلية وتطبيق القرارات الدولية بضرورة الانسحاب من الأراضي التي تحتلها
  • إغلاق فرع جامعة السودان المفتوحة بالإمارات
  • العدل والمساواة تزور كيكل وتنسق مع درع السودان
  • دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار : الإمارات ترفض مزاعم تسليح أطراف النزاع في السودان
  • قرار العودة إلى السودان أو الإستقرار بمناطق النزاع
  • العدوان على السودان .. الشعب سينتصر
  • السودان: التأثيرات الاقتصادية المحتملة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات
  • لا توجد مدرسة واحدة في العلاقات الدولية تقول إنه عندما تعتدي عليك دولة (..)