باريس- بعد أن ألهمت تونس الملايين في العالم العربي حين خلع شعبها ثوب الخوف وأسقط نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، تجد نفسها اليوم في عاصفة وحملة اعتقالات واسعة تطال قضاة ونشطاء وصحفيين وسياسيين من مختلف التيارات.

وفي مقابلة خاصة لـلجزيرة نت، تحدث الرئيس الأسبق لتونس والمعارض السياسي الدكتور المنصف المرزوقي، عن مسؤولية النخبة السياسية عن الأوضاع التي آلت إليها البلاد، معتبرا أن الثورة المضادة تعيش آخر أيامها.

وعن فترة توليه منصب الرئيس الرابع للجمهورية التونسية إبان المرحلة الانتقالية التي أعقبت رحيل بن علي، أشار المرزوقي إلى أن التونسيين خدعوا بفساد الإعلام الذي لعب دورا كبيرا آنذاك في تحقير الثورة وتخريب العقل التونسي.

قضاة مرتزقة

وأخيرا، تحوَّلت العاصمة تونس إلى مسرح لاحتجاجات شعبية رافضة لقمع الحريات واتساع حملة الاعتقالات التي تطال الناشطين الحقوقيين والمعارضين بذريعة "التآمر على أمن الدولة".

ووصف المفكر الحقوقي المرزوقي تلك التهم بـ"السخيفة"، وقال "حضرت محاكمات لا تحصى في عهد بن علي والحبيب بورقيبة، لكن الفارق بينها وبين ما يحدث اليوم في تونس، هو وجود الحد الأدنى من الإخراج المسرحي".

إعلان

وبينما اتهم المرزوقي رئاسة بن علي بجمع "كمشة من القضاة الفاسدين والمرتزقة لتمرير الأحكام"، أكد أن هؤلاء القضاة لا يزالون يقومون بمهامهم تحت حكم رئيس تونس الحالي قيس سعيّد الذي "درّس القانون مدة 30 سنة، وهذا المضحك في الأمر ودليل على تفكك الدولة".

وأضاف "دمر سعيّد القضاء، وزجَّ القضاة الشرفاء في السجون للعمل مع هؤلاء المرتزقة الذين سيُحاسبون على ملفات الفساد والمظالم التي يرتكبونها".

الانفجار قادم

ويرى المرزوقي، أن الثورة المضادة تأتي دائما بعد الثورة الأصيلة في كل دول العالم، وتونس لا تعد استثناء، لأن الذين ضربتهم الثورة في العمق لا يختفون، بل يحاولون استرداد مواقعهم ويغتنمون كل الفرص.

لكن الثورة المضادة -حسب المرزوقي- سيكون مآلها الفشل، لأنها كانت السبب في الثورة أصلا، وفاقمت معاناة التونسيين الآن. وأضاف "اليوم نشهد آخر مراحل فشل الثورة المضادة التي ستتبعها مرحلة الاستفاقة واستعادة الثورة الحقيقية".

ويعتبر المرزوقي أن الحريات التي أتت بها الثورة والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي عيب عليها عدم تحقيقها قد انتهت، وأن الثورة المضادة لم تأتِ بعدم تحقيقها فقط وإنما زادت من انهيار الطبقة الوسطى وإفقار الطبقة الفقيرة.

وكشاهد على ما سماها بـ"الدراما"، يذهب المرزوقي إلى أن تونس عادت إلى نقطة الانطلاق التي بدأت عام 2011، وأن الخلطة التي أحدثت الانفجار في تلك الفترة هي نفسها التي ستؤدي لانفجارات مقبلة "لمنح الشعب التونسي المناعة ضد الشعبويين والثورات المضادة من أجل بناء دولة قانون ومؤسسات وديمقراطية صلبة".

الفيتو الإقليمي

وعند سؤاله عن رأيه في الغليان الحالي ضد الرئيس قيس سعيد، اعتبر المرزوقي أن الثورة المضادة انطلقت من كل الثغرات والعيوب التي خلقتها الثورة، والتي لم تستطع الاستجابة لكل المطالب، خاصة مع وجود الفيتو الإقليمي والدولي.

إعلان

وأشار إلى أن التحدي الكبير الذي يضمن التغلب على الفيتو الإقليمي يكمن في ارتباط نجاح الثورة التونسية بنجاح الثورات في الجزائر وليبيا ومصر.

وقال "يجب أن أعرف أن هناك من حولي مجموعات وأنظمة تريد بي الشر ولن تسمح بأن أكون ديمقراطيا لأنها تخشى العدوى، والحل يكمن في الجبهة القوية التي تقف أمام كل التدخلات الخارجية".

وعن المعارضة التونسية، فيعتبرها المرزوقي جزءا لا يتجزأ من اللعبة الديمقراطية، لكنه يطالبها باحترام قواعد هذه اللعبة، "يجب أن تكون أحزابا حقيقية وليست مفبركة، وتواجه بالحقائق بدل الأكاذيب، ولا تستعمل المال والإعلام الفاسد".

الاحتماء بالسلطة

وفي حديثه عن تفاصيل الثورة التونسية، أعرب الرئيس الأسبق المرزوقي عن انبهاره بالتحول الإيجابي الذي شهده المجتمع آنذاك، لأن "الثورة تحرك أفضل ما في البشر، على عكس الثورة المضادة التي تحرك أسوأ ما فيه"، حسب قوله.

ويرى أن نظام سعيّد يعتمد أساسا على الحقد والشماتة والكراهية والعنصرية، ويضيف "هذا ما يمثل رأس مال الدكتاتوريات الشعبوية، وما لا أغفره لهذا الرجل ولهذا النظام هو رهانه على أسوأ ما في الشعب وتدميره نفسيا وأخلاقيا".

وخلافا للتفكير السائد، أكد المرزوقي، أن الذين يتشبثون بملذات السلطة لا يفعلون ذلك حبا فيها، وإنما لاعتدائهم على القانون وقيامهم بالتعذيب والفساد. ولهذا، من يرتكب هذه الجرائم يصبح خائفا من المحاكمة والمحاسبة.

وعليه، يعتبر أن مشكلة الدكتاتور تتمثل في تورطه في السلطة، وأن سعيّد متشبث بكرسي الحكم لأنه انقلب على الدستور وزجّ الناس في السجون وزيّف الانتخابات، وغيرها من الجرائم السياسية التي ستجعله أمام المحاكم يُعاقب بتهمة الخيانة العظمى، حسب كلامه.

وأضاف المرزوقي "تعلمنا أن العاجز من لا يستبد، وثقافتنا تطالب بالعدالة، لكنها تهيئ القادة للاستبداد أيضا. ولذا، وصفني كثيرون بالرئيس الضعيف لأنني لم أسجن أحدا رغم أنني تعرَّضت لاعتقالات عدة، وزرت غزة وأنا في السبعين من العمر".

إعلان

وتابع "عندما قمنا ببناء دولة القانون والمؤسسات في تونس، كنا كمن يبني قصرا من المرمر الفاخر على مستنقع، والآن، يجب أن نعيد التفكير في بناء قاعدة ثقافية وفكرية صلبة لتجنب غرق هذا القصر مرة أخرى".

معاقبة المجرمين

واعترف المرزوقي بمسؤوليته عن تطبيق العدالة الانتقالية في تونس، "ذهبت إلى جنوب أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي للدراسة، وكنت تلميذا لنيلسون مانديلا، ودافعت وناضلت ليكون هناك قانون للعدالة الانتقالية، لكنني أعضُّ على أصابعي ندما على كل ذلك".

وفسَّر ذلك "ليست مهمة العدالة الانتقالية التوثيق، بل تعويض الضحايا ومعاقبة الجلادين الذين لم يعتذروا ولم يوضعوا في السجون".

وحمَّل المرزوقي نفسه مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد "شريطة أن يتحمل الجميع مسؤوليته"، بما فيه الأحزاب واتحاد الشغل والإعلام الفاسد والناخبون الذين يختارون رئيس الدولة.

وعن رأيه في المرحلة التي تمر بها سوريا اليوم بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، اعتبر المرزوقي أن وضعها معقد حاليا، وتواجه إكراهات كثيرة، وأن الخيار الوحيد المتوفر لها هو "تعويض الضحايا ـرغم أنهم بالملايين ـ ومعاقبة مرتكبي كل الجرائم دون استثناء".

وختم الرئيس المرزوقي، إنه لن يعود إلى الحياة الحزبية، لكنه مستمر في نشاطه السياسي إلى آخر رمق "لأنني مسؤول عن هذا الشعب وجزء منه".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات بن علی

إقرأ أيضاً:

إيكونوميست: كذبة الأسد لم تتحقق والفترة الانتقالية بسوريا فاقت التوقعات

روّج النظام السوري السابق منذ 1971 وحتى انطلاق الثورة عام 2011 لفكرة أن البلاد أمام خيار مصيري: "إما آل الأسد وإما الفوضى". لكن بعد سنة من انتصار الثورة، تبيّن أن "كذبة" النظام السابق لم تتحقق، وفق مجلة إيكونوميست.

وقالت المجلة البريطانية إن سوريا أثبتت قدرتها على الصمود "بصورة مذهلة"، على الرغم من تحقق شرط حذر النظام السابق من أنه سيدفع بالبلاد إلى الفوضى، وهو تسلم "جهادي سابق" زمام السلطة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نيويورك تايمز: إطلاق النار بواشنطن قلب حياة الأفغان بأميركا رأسا على عقبlist 2 of 2نيويورك تايمز: سياسة ميرتس وماكرون وستارمر تخدم أقصى اليمين بأوروباend of listنجاح الثورة

وأشادت المجلة بأداء الرئيس السوري أحمد الشرع، مؤكدة أنه قدم أداء "مثيرا للإعجاب" في الحفاظ على تماسك البلاد، ونجح عبر جهود دبلوماسية حثيثة في رسم صورة جديدة لسوريا أمام المجتمع الدولي.

وقالت إن أكبر دليل على نجاح الحكومة الحالية يكمن في التمعن في كل السيناريوهات، التي لم تحدث حال سقوط الرئيس "الطاغية المكروه" بشار الأسد وفق تعبير المجلة.

سوريا تشهد الذكرى الأولى لانتصار الثورة السورية (الفرنسية)

وأكدت أن سوريا لم تنزلق إلى الفوضى بعد سقوط الأسد، ولم تستولِ جماعات مسلحة متحاربة على البلاد، ولم تتفجر حرب أهلية بعد نجاح الثورة مثل ما حصل مع دول عربية أخرى، ولم تنفذ موجات تصفيات أو انتقامات سياسية.

ولفتت أيضا إلى أن قيادة الشرع اتسمت بالبراغماتية، إذ لم يحاول فرض الشريعة الإسلامية على جميع أطياف المجتمع السوري، مما بدّد المخاوف من قيام نظام ديني متشدد بعد رحيل الأسد.

كما أن سوريا الجديدة لم تغرق جيرانها بمخدر الكبتاغون، بل بنت علاقاتها مع دول الخليج بهدف تعزيز الاستثمارات لتحسين اقتصاد البلاد المتهالك.

سوريا حليفة للغرب

وبعد أن كانت سوريا "عميلا سلطويا" لإيران وروسيا، انحازت الآن إلى صف الغرب والولايات المتحدة، وهي نقطة تُحسَب لصالح الحكومة الجديدة، برأي إيكونوميست.

الشرع (يسار) التزم أمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانضمام إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (الفرنسية)

ويذكر أن السفارة الأميركية بدمشق، أعلنت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، انضمام سوريا رسميا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، الذي تقوده واشنطن منذ عام 2014.

إعلان

ونفذت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) بعد ذلك عملية عسكرية مشتركة مع وزارة الداخلية السورية، استهدفت أكثر من 15 مخزنا ومستودع أسلحة تابعا لتنظيم الدولة في جنوب سوريا وريف دمشق.

ضرورة مشاركة السلطة

ولكن حذرت إيكونوميست من أن أسلوب الرئيس الجديد يثير تساؤلات مبكرة، إذ لم يلقِ بالا لإعادة بناء مؤسسات الدولة الرسمية التي دمّرها الاستبداد، وإعادتها لدورها الطبيعي، وفضّل بدلا من ذلك إنشاء هياكل موازية يديرها أناس مقربون له.

وأشارت إلى أن قرار الشرع بإنشاء سلطة جمارك جديدة يقودها "رفيق جهادي سابق له (الوزير قتيبة أحمد بدوي)" يثير مخاوف من إنشاء شبكات نفوذ بديلة للدولة، خاصة أن الجمارك أكبر مصدر للإيرادات الضريبية في سوريا.

انتخب 119 عضوا في أول مجلس شعب يُنتخب بعد سقوط نظام بشار الأسد (الفرنسية)

ودعت المجلة الشرع إلى تعزيز دور الوزارات وبذل المزيد من الجهود لتقاسم السلطة -التي ما زالت تتركز اليوم في يد مجموعة محدودة من أقاربه والمقربين منه- وتوسيع التواصل مع منظمات المجتمع المدني.

وخلصت إلى أن أكبر تحدٍّ يواجه الشرع الآن هو إقامة حكم يختلف عن النظام الفردي الذي أطاح بالبلاد، وأبرز اختبار لذلك سيكون شكل البرلمان السوري الجديد، المتوقع في يناير/كانون الثاني.

مقالات مشابهة

  • خبيرة للجزيرة نت: أهم التحديات التي تواجه المرأة في القدس
  • "السقوط في بئر الخيانة".. أبو شباب صنيعة إسرائيلية خبيثة
  • "السقوط في بئر الخيانة".. أبو شباب صنيعة إسرائيلية مصيرها إلى الهاوية
  • الخيانة.. بيع بلا رجعة
  • بايدن يوجه نصيحة إلى الأشخاص الذين يشعرون بالإحباط من ترامب
  • سوريا بعد عام: تفاصيل انتصار الثورة وتعقيدات المرحلة الانتقالية
  • الأمم المتحدة: الجزائر تؤكد التزامها باتفاقية حظر الألغام وتدميرها
  • أنواع التابعين الذين يمكن إضافتهم أثناء طلب دعم الضمان الاجتماعي
  • إيكونوميست: كذبة الأسد لم تتحقق والفترة الانتقالية بسوريا فاقت التوقعات
  • لحج.. محور طور الباحة يُشيّع خمسة من أفراده الذين سقطوا في الكمين المسلح بالمقاطرة