جريدة الرؤية العمانية:
2025-06-27@05:54:43 GMT

قرارات بلا حوكمة ذكية

تاريخ النشر: 12th, May 2025 GMT

قرارات بلا حوكمة ذكية

 

 

سعيد بن سالم الكلباني **

في عصرٍ أصبحت فيه البيانات الضخمة (Big Data) العمود الفقري لصناعة القرار، لم تعد السياسات تُبنى على التوقعات أو التعميمات، وإنما على تحليل دقيق للبيانات المتوفرة والمتكاملة من مختلف الجهات.

البيانات الحكومية اليوم تشمل أنواعًا متعددة: بيانات وصفية Descriptive (عدد المؤسسات والموظفين ونوع النشاط)، وبيانات سلوكية Behavioral (نمط الأجور والدفع)، وبيانات مالية Financial (الإيرادات والمصروفات)، وبيانات جغرافية Location-Based (مثل توزع الأنشطة في المحافظات)، وكلها متاحة للحكومة من خلال منظومة إلكترونية مترابطة تشمل وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ووزارة العمل، وجهاز الضرائب، والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات، ومركز البيانات الوطني (NDC).

الطرق الحديثة لاستخدام هذه البيانات تتعدى الجمع والاحتفاظ بها أو استخراج معلومات هزيلة منها بالجمع والطرح، إذ يمكن عبر أدوات الذكاء الاصطناعي ونماذج المحاكاة الاقتصادية وتعلم الآلة أن نرسم سيناريوهات متعددة لأي قرار قبل إصداره، ونقيس أثره على المدى القصير والطويل، ونحدد الشرائح المتضررة والمستفيدة بدقة. هذا ما يسمى بـ"الحوكمة الذكية"، أي تحويل البيانات إلى قرارات تراعي الواقع، وتبني المستقبل، وتقلل من الأثر السلبي غير المقصود. وقد أكدت دراسة العمري (2024) أن وجود فريق إستراتيجية بيانات ضخمة يضم مدير مشروع البيانات، وعالم البيانات، وخبير تحليل البيانات، وخبير العمليات، ومعماري النظم، يسهم في تحويل كتل البيانات إلى قرارات إدارية دقيقة وفعالة تتماشى مع حجم المنظمة وطبيعة هيكلها التنظيمي.

وكما ذكرنا في مقالنا السابق، جاء قرار وزارة العمل، بإلزام المؤسسات التجارية التي مرّ على تأسيسها أكثر من عام بتوظيف مواطن عُماني واحد خلال 30 يومًا، كمثال صارخ على غياب هذه الحوكمة الذكية. ورغم أن الهدف الظاهري نبيل، وهو تعزيز التعمين وتوفير فرص عمل، إلا أن غياب التحليل العميق لما تملكه الدولة من بيانات أدّى إلى إصدار قرار بعيد عن واقع السوق، خصوصًا المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر.

وبحسب بيانات هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فإن أكثر من 90% من المؤسسات المسجلة في سلطنة عُمان تقع ضمن هذه الفئة. وتشير إفصاحات جهاز الضرائب إلى أن عددًا كبيرًا من هذه المؤسسات لا يحقق أرباحًا شهرية تتجاوز 500 ريال عُماني؛ بل إن بعضها يُدار من قبل صاحب العمل فقط دون أي موظفين. ووفقًا لبيانات نظام حماية الأجور المشترك بين وزارة العمل والبنك المركزي العُماني، فإن آلاف الأنشطة تُدار بفرد واحد، ولا تظهر عليها مؤشرات نمو تسمح بالتوسع.

ومع كل هذا، جاء القرار بصيغة إلزامية عامة تطلب من كل مؤسسة أن توظف عُمانيًا واحدًا خلال شهر، دون النظر إلى حجم المؤسسة أو نشاطها أو ربحيتها أو قدرتها التشغيلية، وعلى كل من يريد التظلم التوجه إلى لجنة التظلمات. في المقابل، كان يمكن للوزارة أن تستخدم البيانات الضخمة المتوفرة لديها بشكل أكثر كفاءة. وكان يمكن تصنيف المؤسسات إلى ثلاث شرائح: القادرة على التوظيف فورًا، والمؤهلة للتوظيف بدعم جزئي، وغير المؤهلة مؤقتًا. وكان يمكن بناء نماذج استهداف ذكية، مع إدخال معايير كالإيراد السنوي، وعدد الأنشطة النشطة في السجل التجاري، وسجلات الضرائب، وحالة التوظيف في حماية الأجور؛ بل كان يمكن إشراك مركز البيانات الوطني ليُصدر تقارير محاكاة اقتصادية دقيقة تُقدَّم لصانعي القرار قبل أي إجراء.

ما حدث لم يكن غيابًا في البيانات، بل غيابًا في الإرادة المؤسسية لاستخدام هذه البيانات بشكل علمي. فبينما تتجه دول العالم إلى تحويل وزاراتها إلى وحدات تفكير مدعومة بالذكاء الاصطناعي والتحليل الاستباقي، لا تزال بعض قراراتنا تُبنى على المراسلات والاجتماعات لا على مؤشرات الأداء والتوقعات. وقد أظهرت دراسة نوف بن جمعة (2023) أن اعتماد إدارة نظم البيانات الضخمة يُعد من أقوى أدوات دعم التميز المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي والتشغيلي المستند إلى الوقائع.

حين تكون البيانات موجودة، لكن القرار لا يعكسها، فنحن أمام فجوة ليست في التقنية؛ بل في الوعي الإداري الحديث بالاستفادة من البيانات الضخمة التي تعد كنزًا يُباع بالملايين لم يُقدَّر ثمنه بعد. وما لم يُعاد النظر في طريقة صنع القرارات نفسها، فإن أي نية طيبة قد تتحول إلى عبء اقتصادي لا يُحتمل.

اليوم.. نحتاجُ إلى قرارات لا تتحدث فقط عن الأهداف؛ بل تُجيد قراءة التفاصيل.. نحتاج إلى حكومة ذكية، لا فقط حكومة إلكترونية، والفارق بينهما هو ما يُميِّز قرارًا وطنيًا واعيًا من قرارات بلا حوكمة ذكية، تُدير كل هذه البيانات، بإنتاج قرارات شاملة ومُستدامة لكل فروع مصالح الوطن والمواطن.

** باحث دكتوراة في فلسفة الإدارة والقيادة

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

المنهج السياسي العُماني الحكيم

 

 

 

د. صالح الفهدي

 

تساءلتُ حينما وقعَ حادثٌ معيَّنٌ كيف سيصاغُ البيان السياسي العُماني إِثْر ذلك الحادث، وكيف يمكنُ لسلطنة عُمان أن تخرجَ ببيانٍ متوازنٍ، واقعي، بعيدٍ عن العاطفةِ، مرتهنٍ للأسباب، فإذا بالبيان السياسي يخرجُ على درجةٍ عاليةٍ من الواقعيةِ دون إغفالِ العلاقات بين الطرفين في ذلكم الحادث.

البيانُ في الحقيقةِ ليس مجرَّد كلماتٍ جاهزةٍ تقال، وإِنما هو تأكيدٌ على المبادئ التي ترتهنُ إليها السياسة العُمانية؛ مبادئ ليست مبتدعةً، وإنما متأصِّلةً تعكسُ أصالة التاريخ العُماني، وتعبِّرُ عن المعتقدات التي تؤمنُ بها الشخصية العُمانية.

إنَّ صنع التوازنات مع الثبات على المبادئ في مختلف المواقف ليس أمرًا يسيرًا في عالمٍ تتجاذبه القوى على اختلافها؛ قوى لا تعرفُ في كثيرٍ من الأحيان إلا منطق القوةِ القاهرة، بينما تسوِّقُ-زيفًا وكذبًا- شعارات الديمقراطيةِ، وحقوق الإنسان، وغيرها من الشعارات التي تروِّجُ لها وسائل قواها الناعمة.

في هذا العالم يدفعُ الثابتُ على المبدأ الواضح السليم أثمانًا لمبادئه، وكثيرًا ما يقفُ بين عداوةٍ بسبب ثباته، أو صداقة زائفةً بسبب ميولهِ عن المبادئ التي تأسس عليها أو يُغرى بمصالحَ مؤقَّتة لتخديره وشراء مواقفه.

بينما تثبتُ سلطنة عُمان على مبادئها العادلة الشرعية في الدفاعِ عن الظلمِ، وعدم جواز التدخل في شؤون الغير، ولا في جواز التدخل في شؤونها، وتؤمنُ بحرية الشعوب في تقريرِ مصيرها، ساعيةً في ذلك إلى تحقيق السلام العادل الأصيل، والارتباط بالعلاقات السَّامية مع الدول والشعوب.

ولهذا فإِننا نجدُ أن صوتَ سلطنة عُمان لا يتردَّدُ أبدًا في إظهارِ تنديدهِ بأيِّ عدوان سافرٍ على دولةٍ ذات سيادةٍ دون وجهِ حق، أو شعبٍ دونَ وجهِ حق، حتى وإن كانت القوى العظمى في العالم هي المعتدية، فلا صوتَ يعلو صوتَ المبدأ الحُر، فهذا الصوت تعبيرٌ عن السيادةِ بما فيها من مبادئ وأُسس لا يمكنُ إخفاؤها، ولا المساومة عليها.

وإذا كانت العبارة السائدة في السياسة تقول "لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة وإنما مصالح دائمة" هي عبارةٌ تصدقُ في العلاقات السياسية، وتبرهنُ على ذلك المواقف التاريخية فإننا نتوقفُ عن كلمة "المصالح" التي تقبلُ الوجهين: مصالحَ فيها من الخذلان والإذلالِ، أو فيها من حفظِ السيادة والقرار، وهُنا نجدُ أن السياسة العُمانية حكيمةً في واقعية "المصالح" لكنها أيضًا حازمةً في أن لا تكون هذه المصالح على حساب المبادئ التي آمنت بها الدولة العُمانية وقامت عليها أركانها.

وإذ إنها دولةُ سلام أصيل، فإنها ليس لديها من مواقفَ ظاهرةً وباطنة، وليس لديها مصالح فوق الطاولةِ، وتحت الطاولة، وليس لديها نوايا ظاهرة وأُخرى مبطَّنة، وإنما لديها مبادئ جليَّةً لا تساومُ عليها، ولذلك وثقَ بها من وثق، وأعرضَ عنها من لم توافقهُ هذه السياسة السامية المنهج.

إنَّ الأثر النفسي والوطني من هذا المنهج السياسي العُماني على المواطن العُماني لهو أثرٌ بالغُ الأهمية؛ فالمواطنُ العُماني يرى في مواقف بلده نحو القضايا العادلة، والمواطن الذي يتابع البيانات السياسية في مختلف الأحدث ليشعرُ بأن هذا صوته النابع من القناعة الراسخة، بل يشعرُ أن هذا صوتُ التاريخ العُماني ورجالاته، ولذلك كان هذا التناغم والانسجام بين السياسة العُمانية والمواقف الشعبية أكان على صعيد المستوى أم على صعيد الأفكار واضحًا لا ازدواجيةَ فيه، وهُنا كانت مساحة الحرية للتعبيرِ عن الرأي الشعبي واسعةً ما دامَ ذلك الرأي مستندًا إلى أُسس بنَّاءةً وليس مشاعرَ انفعاليةً عارضة.

المنهج السياسي العُماني مصدرُ فخرٍ للإنسان العُماني، ولا شكَّ بأنه أسهم في تكوين نظرة الشخصية العُمانية الوازنة نحو مختلف الأحداث والوقائع بما تأسس عليه من مبادئ كريمة تحفظُ للوطنِ سيادته ورفعته، وتصونُ لمواطنيه العزة والحرية والكرامة.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • دير الزور.. ضبط الأمن عبر لجان محلية ومراقبة ذكية
  • قفزة نوعية.. قمر صناعي «كمومي» يعالج البيانات بسرعات تفوق الخيال
  • محافظ مطروح: العلمين الجديدة مدينة ذكية تضاهي نظيراتها العالمية
  • المنهج السياسي العُماني الحكيم
  • امتحانات الثانوية.. أولياء الأمور: مطلوب وقت كاف لتسجيل البيانات
  • جامعة حلوان التكنولوجية الدولية تنظم المعرض الأول لمشاريع تخرج الفرقة الثانية لطلاب علوم البيانات
  • تفاصيل التحقيقات مع متهم بالنصب على أموال المواطنين بزعم تحديث البيانات
  • المملكة تنضم إلى توصية منظمة “OECD”.. السعودية رائد عالمي في تعزيز حوكمة الذكاء الاصطناعي
  • "الطيران العُماني" يصدر بيانا
  • سيارة ذكية.. مميزات وعيوب بايك U5 بلس 2026