لحظة عُمان وقيادتها التاريخية الفارقة
تاريخ النشر: 12th, May 2025 GMT
لا أحد يجادل اليوم في أن النظام العالمي يتغير، وتتغير معه أو بسببه كل موازين القوى، ويتراجع النظام الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، يحدث هذا التغيير الكبير هذه المرة في لحظة تغير حضاري متزامن مع تغير نظام النفوذ العالمي؛ فالحضارات التي كانت في قمة نشوتها منتصف القرن الماضي تتراجع اليوم وتصعد في المشهد، وإنْ ببطء، حضارات جديدة بقيم مختلفة عن تلك القيم التي أغرت العالم في النصف الثاني من القرن العشرين.
أمام هذا المشهد الكبير والمزدحم بالتغيرات العميقة الذي يحدث في العالم نحتاج أن نسلط الضوء على ما يحدث في الدول الوطنية؛ وكيف تبني مساراتها وسط ما يحدث وكيف تحافظ على استقلالها وسيادتها دون أن تنصهر في التجارب الكبرى الصاعدة أو تذبل مع الذابلين.
وتجربة سلطنة عُمان بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مهمة جدا لأسباب كثيرة من بينها الأسباب التاريخية التي تجعل عمان واحدة من بين أعرق الدول في منطقة الشرق الأوسط، ونظامها السياسي الأقدم في العالم وتجربتها في بناء الدولة مختلفة تماما عن التجارب المجاورة لها.
يعيد صاحب الجلالة السلطان المعظم تعريف دور عمان الاستراتيجي انطلاقا من تراكم تاريخي طويل وعقلانية سياسية جديدة تتكئ على خبرة في المنطقة وما أسسته من ثقة كبيرة في الوجدان السياسي العالمي، وما يميز رؤية جلالة السلطان أنها واقعية جدا وعميقة، وعمقها كما سبق مستمد من خبرة طويلة تقارب عمر الدولة في عُمان.
وهذه الرؤية أو الفلسفة باتت واضحة للعالم الذي يرى الثقل الحقيقي لعُمان ولقيادتها ويفهم قوتها لا في الجانب النفعي ولكن البعد الاستراتيجي. اعتراف الأمين العام يُعد مؤشرا دقيقا على صعود «القوة التفاوضية الصامتة» التي باتت تمارسها عُمان، فليس ثمة ملف أهم للمنطقة اليوم من الملف النووي الإيراني، وليس أخطر على المنطقة من دخول الولايات المتحدة في ما يمكن أن نسميها «حربا» مع اليمن، وليس ثمة خبر سعيد للعالم من أن التجارة في البحر الأحمر يمكن أن تكون منذ الآن آمنة وسالكة. ورغم أن عُمان تحاول أن تبتعد عن الأضواء وتقدم نفسها كوسيط فقط إلا أن الأمر في حقيقته يتعدى ذلك إلى أنها تخلق شروطا لهذه الوساطات ولانعقادها في لحظة تبدو فيها الثقة بين مختلف الأطراف معدومة.
والمؤكد أن ما قاله جلالة السلطان- أعزه الله- في محادثته مع الأمين العام للأمم المتحدة بأن «الدور العُماني من أجل الخير والسلام للجميع» ليس أمنية أخلاقية وإنما عقيدة استراتيجية لعمان ولفكر جلالة السلطان المعظم لمن يقرأ فلسفة عمان وقائدها بوعي وروية. لكن عُمان وخلافا للكثير من الدبلوماسيات في المنطقة لا تميل إلى المبالغة في الاصطفاف حتى إلى جوار القوى الكبرى، إنما تصنع لنفسها مركزا ثابتا في مشهد يمكن أن يكون واضحا فيه تفكك الأطراف. ولذلك يمكن القول إن عُمان تتحرك من الحياد بوصفه فعلا مؤثرا لا موقفا سلبيا.
هذا الفلسفة في السياسة الخارجية لا يمكن فصلها عن التحول الداخلي العميق الذي يحدث في عُمان.. فمنذ 2020، يقود جلالة السلطان المعظم إعادة صياغة هادئة للدولة ولكنها عميقة جدا ومبنية، أيضا، على رؤية وفلسفة وليست اجتهادات لحظية أو ردة فعل طارئة، حيث انتهج جلالته سياسة ضبط التغيير عبر تخفيض الاعتماد الريعي دون تفكيك البنية الاجتماعية. هذا التحول، بصمته وبطئه، قد يكون أحد أكثر التحولات تعقيدا في الخليج، لأنه يتجاوز مرحلة ترتيب الإنفاق، إلى إعادة تعريف وظيفة الدولة الحديثة.
وعلى مستوى الجغرافيا السياسية، تقدم عُمان اليوم ما يمكن تسميته بـ«واقعية الدولة البناءة» وهو النموذج الذي تستخدم فيه الدول الشرعية الأخلاقية والرصيد السياسي الطويل كوسيلة للتأثير. ولذلك لم يكن تدخل عُمان في وساطة حفظ الملاحة في البحر الأحمر أو في الملف النووي لإحداث تحول عسكري مباشر، رغم أنه سيحدث لاحقا من تلقاء نفسه، ولكن هدفها اللحظي يتمثل في إعادة تشكيل الجغرافيا التفاوضية، وفتح نوافذ للحلول حين يعتقد العالم أن الأبواب مغلقة إلى الأبد.
إن ما يحدث في عُمان أو من عُمان ليس إنجازا دبلوماسيا فقط، إنه في الحقيقة «فن الحكم» الذي يأتي في لحظة تواجه فيها الكثير من دول العالم تحديا بنيويا متعدد الأبعاد في ظل تفكك المقومات التقليدية للشرعية السياسية.
وإذا كان حجم الأحداث الحقيقي لا يرى في لحظة حدوثها عندما يكون الناس مأخوذين بها أو بما حولها فإن وقتا قريبا سيأتي ويرى فيه العالم أجمع ما حدث في عُمان في لحظة من أصعب لحظات التاريخ وأعقدها وكيف أعاد جلالة السلطان هيثم المعظم بناء النموذج العماني داخليا وخارجيا بما يتوافق والمتغيرات والتحولات الكبرى وبما يتناسب وطموحه لعُمان العظيمة في وجدانه ووجدان شعبه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جلالة السلطان فی ع مان فی لحظة یحدث فی
إقرأ أيضاً:
من معركة دِفَا وصمود مرباط صُنع مجد "11 ديسمبر"
د. محمد بن خلفان العاصمي
في 11 ديسمبر 1975 وقف السُّلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- ببزته العسكرية التي لم يخلعها منذ توليه الحكم؛ ليُعلن انتهاء ما عُرف وقتها بـ"ثورة تحرير ظفار والخليج العربي" المدعومة من المعسكر الشيوعي العالمي، وزفَّ بشرى اندحار قوى الأطماع وهزيمتها وانتصار قواتنا المُسلحة عليهم؛ لتُسطِّر فصلًا خالدًا من فصول الشرف والفخر والاعتزاز، الذي رافق العُماني منذ الأزل، وفي خطاب النصر زفَّ بطل النصر وفارسه البُشرى لكل أبناء عُمان عندما قال "أيها المواطنون.. إنني أحيي تجمعكم الحماسي هذا وأهنئكم تهنئة العزة والكرامة، على اندحار أذناب الشيوعية من تراب وطننا العزيز".
ما بين بداية الحرب وبين هذا اليوم المشهود والذي أصبح يومًا لقوات السلطان المسلحة الباسلة في كل عام، سُطَّرت بطولات وطنية وتضحيات جسيمة قدمتها القوات المسلحة وقوات الفرق الوطنية في جبال ظفار الشامخة وسهولها ومدنها وقراها، ووقف أبناء ظفار يدًا بيد مع القوات المسلحة رافضين أن تكون بوابة عبور لصراع دولي وأطماع تغطت بشعارات زائفة وأهداف خفية ومخططات شيطانية، لقد أعلن السلطان الراحل بكل صراحة أنَّ عُمان دافعت عن أرضها وعن جيرانها وعن المنطقة بأسرها في هذه الحرب الغادرة.
في حرب ظفار سطَّرت قوات السلطان المسلحة ملاحمَ لن ينساها التاريخ، ولعلنا نستذكر في هذا المقال حدثين ساهما في تحقيق النصر المؤزر، وأنقذا البلاد من هذا المخطط الغادر، هذان الحدثان كانا حاسميْن في حرب ظفار إلى جانب حِنكة القائد ودعم الأصدقاء، ففي فجر 19 يوليو 1972 نفَّذت قوات الجبهة هجومًا على ولاية مرباط بغية استعادة السيطرة على أهم المواقع، واصطدمت مع الحامية قرب حصن مرباط التي صدَّت الهجوم بمساندة أبناء مرباط المُخلِصِين. هذا الهجوم الذي لو تمَّ لغيَّر ملامح الحرب وأطال مداها، لما سوف يُحدثه من تفوق عسكري ونفسي واستراتيجي لقوات العدو، فبعد نجاح قوات السلطان المسلحة في قطع خط الإمداد والشريان الذي كان يغذي العدو، وتمكن قواتنا الباسلة من استعادة العديد من المواقع والقرى التي كانت قد سقطت في أيام الحرب الأولى، كان لابد من أن يستجمع العدو قوته ليضرب ضربته الأخيرة.
وفي معركة مرباط أثبت أبناء هذا الوطن العزيز أن العقيدة الوطنية وتراب هذا الوطن غير قابلين للمساس، ونجحت قلة منهم بعقيدتها وعزيمتها في صد هذا الهجوم المتفوق عددًا وعتادًا والصمود أمامه وقهره. ويرى كثير من المؤرخين أنَّ هذه المعركة كانت الأهم بين سلسلة المواجهات التي شهدتها حرب ظفار، فقد كانت بداية النهاية لأطماع العدو، وكانت المعركة التي حولت الحرب إلى سلسلة انتصارات متتالية، وما بعد هذه الحرب كان السقوط المعنوي الشديد لقوات العدو التي راحت تندحر وتتراجع من مواقعها، وفقدت معها القدرة على لم شتاتها وإعادة تنظيمها، لقد كانت معركة مرباط نقطة التحول التي صنعتها قواتنا المسلحة في هذه الحرب الصعبة.
أما الحدث الثاني فكان في أواخر عام 1975، وكان في إحدى مدن سلطنة عُمان الشامخة وبوابتها الجنوبية التي تقف شامخة في جبال ظفار، معركة صرفيت أو ما تعرف محليًا بـ"دِفا"، وهي المعركة الأخيرة التي غرست آخر خنجر عُماني في قلب العدو الطامع الغادر؛ ففي هذه المعركة سقط آخر معاقل الشيوعية، وانتهت معها أحلامهم في التوسُّع والدخول للخليج العربي من بوابة سلطنة عُمان. وفي هذه المعركة سَطَّرت- مرة أخرى- قوات السلطان المسلحة وقوات الفرق ملاحم البطولات والتضحيات في ميادين العزة والشرف، ووقفت في وجه مخطط أراد أن يعصف بالمنطقة أجمع؛ فكانت عُمان مقبرة الغُزاة، وكان رجالها البواسل حائط صد تكسَّرت عند أساساته أحلام المغرورين. لقد انتصرت قواتنا المسلحة في هذه المعركة وسلَّمت البقية الباقية من العدو أسلحتها وخضعت، ليُعلن السلطان قابوس في يوم 11 ديسمبر 1975 وعبر خطاب النصر، انتهاء واحدة من أقسى الحروب وأصعبها، ليُسجِّل تاريخ عُمان الحديث ملحمةً تاريخيةً خالدةً مُرصَّعة بالفخر والشرف.
يوم قوات السلطان المسلحة- والذي يصادف 11 ديسمبر من كل عام- قد لا تعرف بعض الأجيال الحالية ما يعنيه؛ فهو ليس تاريخًا عابرًا؛ بل هو يوم تحققت فيه إرادة الشعب وإخلاص القائد الشاب الذي استلم الحكم في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة جدًا، لكنه كان يُدرك ما يحدث ويعلم أن هذه المرحلة مفصلية لبقاء الدولة واستمرارها أو نهايتها واندثارها، فما من خيار سوى المواجهة ولا نتيجة مقبولة سوى الانتصار. ولكم أن تتخيلوا ما يعني كل ذلك في تلك الفترة الزمنية الصعبة، ولكن بعزيمة وإصرار وإرادة الأوفياء وحنكة القيادة عبرت سلطنة عُمان من أصعب اختبار واجهته في تاريخها الحاضر؛ فالعدو الخارجي عبارة عن تحالف دولي قوي يسيطر على نصف العالم وقتها.
لا بُد من ربط الأجيال بماضي بلادنا وتاريخها المجيد؛ فهذه المناسبات ليست تاريخًا يعبر ويومًا يمضي؛ بل هي وثائق تاريخية تُفتح كل عام، وكما كان نهج القائد الخالد في تعظيم دور قوات السلطان المسلحة، سار على نفس النهج حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- والذي أولى عنايته الكريمة للقوات المسلحة منذ اليوم الأول لتولي مقاليد الحكم، وراح يرسم صورة جديدة مُشرقة لدرع الوطن وحماته؛ لأنه يُدرك أن السلام يُرعى بالاستعداد وأن حمايته تتطلب قوة وقدرة على مواجهة ما يعترضه من تحديات وأحداث، خاصة في هذا الوقت الذي تمر فيه المنطقة والعالم بصراعات تهدد آمنه واستقراره.
هذا هو يوم 11 ديسمبر لمن لا يعرف معناه، وكما قال السلطان قابوس "أيها المواطنون.. إنَّ انتهاء فلول الشيوعية من جبال ظفار ليس معناه انتصارًا على شراذم قليلة قاموا بالبغي والفساد فحسب، ولكنه كشف واضح لحقيقة ثابتة وهي أن عُماننا العزيزة أرض طاهرة لا تقبل بذور الحركة الشيوعية مهما حشدوا لها من طاقات، وانتصارنا هذا يُؤكد فشل الحركة الشيوعية في عُمان وذلك من فضل الله.. ولله المنة".
فلتمضِ المسيرة المباركة والنهضة المتجددة على خطى البطولات والإنجازات لتُعانق الأجيال الجديدة ماضي هذا الوطن العزيز.
رابط مختصر