موقع النيلين:
2025-07-04@08:37:53 GMT

البوح الحرام!

تاريخ النشر: 19th, May 2025 GMT

والبوح في لسان اللسان : ظهور الشئ، وباح الشئ إذا ظهر، وباح به بوحاً وبؤوحاً وبؤوحة أظهره، وهو بهذه الصفة حلال وحرام، والحرام منه إفشاء الأسرار التي أنت مؤتمن عليها وغير المؤتمن عليها كذلك مما في إذاعته أضرار بأصحابه وإفساد لذات البين وزعزعة للاستقرار العام وإشاعة للفساد .

والذي أروم الوصول إليه عبر هذه السطور ما أراد به الإمام الشافعي ببيت الشعر المنسوب إليه والذي يجري علي كل لسان:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

لكن عين السخط تبدي المساويا

والعين الكليلة هي ضعيفة الإبصار والمعني مجازي هنا فهي تحتال بالتغابي وسؤ الإبصار حتي لا ينطق حاملها بالحق.

ومثله ما جاء في أبيات أبي الخطاب عمر بن أبي ربيعة التي أطاح مطلعها بسطوة البرامكة علي خلافة بني العباس :

ليت هنداً أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما نجد

واستبدت مرة واحدة

إنما العاجز من لايستبد

وهذا الشطر من البيت هو الذي أيقظ هارون الرشيد وأعمل في دواخله غضبة مضرية حفظت ملك آبائه لقرون طويلة وأطاحت بأحلام الفرس البرامكة في الاستحواذ علي ملك بني العباس فأعمل فيهم سيفه .

وليت الشطر ذاته يوقظ قادة نسمع غطيط نومهم عبر المسافات البعيدة ! لم يبق بعد ذلك ذكر للبرامكة سوي كرمهم من أموال الخلافة الذي خلده شاعر شمال الجزيرة بابا يصف كرم أحد وجهائها لعله النعيم ود حمد:

يا اللي أحييت سنن البرامكة

عجبني طول أيدو سامقة

يا بابا شوف…

وتغنت مغنية :

نسيبتك برمكية

وبالفعل معاها بيك إنت خصاها

والبيت موضع الاستشهاد في أبيات ابن ابي ربيعة ما جاء علي لسان تلك الحسناء

زعموها سألت جاراتها

وتعرت ذات يوم تبترد

أكما ينعتنني تبصرنني

عمركن الله أم لا يقتصد

فتضاحكن وقلن حسن

في كل عين من تحب!

وهو كقولنا في عاميتنا في السودان

القرد في عين أمه غزالة !

وليس الغزال كله مختص بالجمال ففي أمريكا خمسين مليونا من الغزلان جميل فيها الذي يشبه غزال الصحاري عندنا واسع العينين، رشيق دقيق الجسم. وبعض أنواعه هنا كالحمر البلدية لا تتصف بجمال.

والبوح هنا غير ما شمله التعريف المتقدم فيما يدخل في واجب الصدع بالحق الواجب علي أولي النهي من ناس ووجهاء المجتمعات الذين يعتد بما يقولون وهو صعب باهظ التكاليف وهو حرام لا في أصله في موازين الخير والجمال وروائع الخصال لكنه يستمد الحرمة من التبعات المصاحبة له والتي تتدرج من فقدان الوظيفة وغيابات الجب وربما حبال المشنقة. القادرون عليه قليلون علي مدار التاريخ الإنساني!

إذا صاح بك صنديد سوداني في ساحات الوغي: أركز! فقد قتلك مثلما فعل خادم المتنبي بسيده.

جاء في السيرة أن عتبة بن ربيعة كان من عقلاء المشركين ولم يجد ضرورة لحرب المسلمين بعد نجاة قافلة أبي سفيان وحث قريش علي العودة إلي مكة فقال أبو جهل يستفز حميته ( انتفخ والله سحره) أي ملأ الخوف صدره من مغبة القتال. قال عتبة وقد تهيأ للموت (سيعلم مصفر إسته أينا انتفخ سحره!) ثارت في نفسه حمية الجاهلية فكان في أول من قتل!

والذي يقرأ التاريخ يدرك أن الناس هم الناس من قديم تطورت أدواتهم في صنع العيش وتيسير الحياة بحيث أن السوقة والعامة يتمتعون اليوم بما لم يحلم به عظماء الملوك والأباطرة قبل قرون خلت وفي بعض الأماكن قبل عقود ! ومع ذلك ظل الخير في الناس قليل وبقيت الأثرة وحب التملك والسُكر بامتلاك القوة والجبروت والرغبة في الغلبة والإخضاع هي دوافع الحراك بين الناس وإن أدت للقتل والتقتيل والإبادة.

والذي يؤرق ضمائرنا نحن من نكتب في الشأن العام أن نحيف ونتنكب الجادة عندما تلزمنا الوقائع والأحداث بقول الحق ولو علي أنفسنا. صحيح أن اللغة العربية وربما سائر لغات البشر قد حفلت بمخارج من هذا الحرج بالتورية أحيانا أو بالمعاريض (و إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب). وفي ظلال الكلمات لا في المنطوق منها أو المكتوب. ذاك كله لا يشفي غليل الصادي العطِش لقول الحق. وهناك المصانعة:

ومن لم يصانع في أمور كثيرة

** يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

وهو قول الحكيم زهير بن أبي سلمي في الجاهلية . لا نغفل سياق البيت ومناسبته هنا فزهير قد مدح في معلقته الحارث بن عوف وهرم ابن سنان في سعيهما لوقف الحرب بين عبس وذبيان. والتفاوض هو أس الدبلوماسية وطريقتها في تحقيق السلام ووقف الحرب فلزم حث الطرفين علي التعقل والبعد عن المغالاة والتطرف. أي أن اللين والتلطف ليس علي أطلاق فبعضه يوقع في براثن الخنوع وتضييع الحقوق.

ومراد النفوس أهون من

أن تعادي فيه وأن تتفاني

غير أن الفتي يلاقي المنايا

كالحات ولا يلاقي الهوانا

وهذه القضية هي احدي قضايا فلسفة الأخلاق وقد اشتط علم كبير هو الفيلسوف الألماني امانويل كانط عندما قال إن جاءك من يطلب بريئا في حمايتك ليقتله فلا تكذب بالقول إنه ليس هناك. وهذا شطط لا يبلغ الصدق فيه مرتبة نفس زكية أشد حرمة من الكعبة المشرفة كما جاء في صحيح الحديث.

ونحن في خضم هذا العدوان المسلط علينا من الإمارات بأيدي مليشيا قبلية متمردة لا نملك إزاءها سوي القلم نذب به عن بيضة الوطن حتي نترك لأجيالنا القادمة وطناً يعيشون علي ثراه وهناك أبطال خير منا يزودون عنه بالمهج والأرواح .

كم يشقينا هذا الصمت المطبق والخذلان والوجل من الأشقاء والأباعد عن مجرد الإدانة باللسان . ونعلم أن بعضهم يرون ويسمعون بما حاق ببلدنا ويتعاطفون بطرق يعرفونها وإن اضطرّوا للبيان والبوح تاهت الكلمات في بحر العموميات وفقدت قدرتها علي التبيان ومع ذلك نقبل ذلك آسفين فلا نسارع لنساوي بين من أنكر بقلبه فلجأ إلي التورية والمعاريض ومن يصب الزيت علي النار كلما خبت لتحرقنا . ليسوا سواء فنقبل بهذا القهر وفي جنباتنا الغصص والحسرات وما أقساها علي الحر الذي يعاف الضيم له ولغيره. ونحار من مواقف مخزية لأولئك المتعاطفين في قضايا أخري فتمسك في مقابل دعمهم الخفي المحتشم معنا ! ألا يقع هذا في مراد بيت الامام الشافعي صلب هذا الموضوع ؟ وماذا نفعل ؟ أنكسر أقلامنا وننضم لجوق الخُرص من الشياطين؟!

كتب محمد جلال كشك كتابا صغيرا عن الصحابي أبي ذر الغفاري أسماه ( أبوذر والحق المر ). ورُوي أن جبريل عليه السلام ذكره بالاسم مقرظاً للنبي صلي الله عليه وسلم فقال أو يعرف أهل السماء أباذر؟ أجاب جبريل يعرفونه أكثر من عرفان اهل الأرض له !

لله در أبي ذر ! فهل كان ضعف أبي ذر الذي ساقه النبي له سببا لعدم توليته عندما طلب الولاية لنفسه ؟ هذه النفس المتحرقة الفوارة بالحق المطلق الذي لا يحسن المصانعة تلك الصفة المحمودة عند أهل السماء؟! والمر الذي عناه محمد جلال كشك هو الذي نعانيه ونعجز عن تجرعه!

ونتساءل في نهاية المطاف هل المصانعة من الإبتلاءات المصاحبة للحياة ؟وأن النجاح في اجتيازها بما يفضي لراحة الضمير والهناء الدنيوي والخلود في عالم ما بعد الموت؟! نتمني ذلك .

اللهم اهدنا سواء السبيل!

الدكتور الخضر هارون

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الحب في زمن التوباكو (15)

 

مُزنة المسافر

 

جوليتا: وَضعتُ شوكة وملعقتين وسكينًا صغيرًا على طاولة التقديم، وشرعتُ بوضع المعكرونة في وعاء كبير.. بدت ساخنة في شكلها ولذيذة في طعمها، لكن عمَّتي شعرت بالسأم من أطباقي المتكررة، وأظهرت استيائها بشكل واضح.

ماتيلدا: من جديد المعكرونة يا ابنة أخي، تعلمي طبقًا جديدًا.

جوليتا: لا تحبين الفاصوليا الخضراء، ولا تحبين أيًا من تلك الأشياء المعلبة، هاتي صحنكِ بعد الحساء، سأضع لك المعكرونة جربيها.

ماتيلدا: تبدو ساخنة، كانت تغلي كثيرًا.

جوليتا: قلبك فقط يغلي هنا، ويغلي القصص الجيدة يا عمتي.

ماتيلدا: نعم لأن ألبيرتو وضع قلبي يغلي كما تغلي المعكرونة في مياه غليان غير مناسبة، سريعًا كان يخرجني من الحزن الذي كنتُ أعيشه دونه أيامًا طويلة، فأردد له أغنياتي وأخبر آهاتي، وأشرح أمنياتي في اللحن، وبينما كنتُ أريد أن أخبره عن خططي، أننا سنغادر المدينة لمدة طويلة، لأن خورخيه منتج الأسطوانات المطولة يرغب أن نزور بلدانًا بعيدة، وأن نكون حاضرين في المهرجانات الموسيقية لنحصد الجوائز، وأن اكتب شيئًا أكثر سلاسة وأكون أكثر براعة في كتابة الأغنيات.

ردَّدتُ له أغنيتي: "قل لحبيبي ألّا يغيب"، وقلت له إن الناس أحبت اللحن، وأحبت الكلمات التي وجهتها في خاطري العميق لك يا ألبيرتو.

لم يتكلم، بقى صامتًا ينظر إليّ، قال لي: الحياة باتت صعبة يا عزيزتي.

علينا أن نكون معًا في أحلام اليقظة أكثر من الواقع، لكن من سيأبه لأحلام اليقظة التي لا تكتمل وسط نهارٍ طويل هكذا كان جوابي، إن سراباته لا تزعجني، وأنني سأسافر وارتحل واستقل أي مركبة لأذهب لأي مسرح يستقبل نجمة عظيمة مثلي.

من أنت يا ألبيرتو؟ أنت شيء صغير في عين الناس، إنك لا تعرف الإحساس.

بينما أنا يُميِّزُني الناس في المتاجر وفي العروض وحتى في المسارح المهملة فما بالك بالمهمة منها، وأنا أتمايل وأردد مع الجمهور الأغنيات، بينما أنت رجل هارب من واقع جميل.

مرتحل إلى أقصى يمين، وأنا في يسار الحياة امضي في يقين أن حب الآخرين قد وصلني بصدق كبير.

ألبيرتو: إذن خذيني معكِ، سألغي ذهابي إلى العالم المتقدم.

ماتيلدا: ماذا يا ألبيرتو؟ ماذا تعتقد أن الناس ستصفق لكلامك هذا.

سأذهب لوحدي، وأجعل وجدي يتحرك أمام أنهار وتلال وعيني سترى المجهول والغير معلوم، وسأمضي بعيدًا عن اليقظة، لقد صار لي نهوض آخر، ووقوف مغاير، فلن تكون معي سائر.

لم ينطق شيئًا، حين علم أنني كتبت شيئًا أعظم من "قل لحبيبي ألّا يغيب"، كتبت "سأغيب أنا خلف الجبال، وسأضيع في وميض نهار ساطعٍ للغاية، وسأعود فقط حين يناديك قلبي، وسأكون هناك، هناك في البعيد، ولن أجيد إلا حب اللحن، وليكن لشِعري هذا عمر مديد".

انبهر خورخيه المنتج حين تلوتُ عليه الكلمات، بدا عليه التركيز، تدبر قليلًا، وقال لي مازحًا: حين ينكسر قلبك يا ماتيلدا تكتبين شيئًا عظيمًا.

ماتيلدا: لقد انكسر كثيرًا أمام وجع الحياة يا خورخيه، لقد ذاب وانحسر، لقد راح واستراح في تابوت عهد قديم، لقد صار بين الرماد، لقد كان يعيش بالطبع الكساد، إنه قد ينبض من جديد فقط حين يرى الدنيا وما بها من أمور أخرى غير هذا العذاب، غير ذاك السراب.

خورخيه: لقد أصبحتِ شاعرة بكل شيء يا ماتيدا، ستكون الأيام القادمة صاخبة، وراغبة أن تنجحي وتحصدي الجوائز، وأن تنالي نيلًا مختلفًا.

ماتيلدا: فلنذهب بالأمتعة لأول محطة قطار سائر إلى البلدات الجارة، إلى الناس المارة نحو قرب المسارح والصالات والمقاهي، إلى العيون الفضولية نحو لحننا يا خورخيه، فلنذهب، فلنغادر، ولنهاجر بعقولنا باتجاه الحرية، باتجاه سعادة أبدية، باتجاه ما ينتظرنا.

خورخيه: فليكن لك ما تريدين هذه المرة يا ماتيلدا فأنتِ نجمة!

ماتيلدا: صار خورخيه أخيرًا يعترف بوجود لمعانٍ خاص يخص حضوري ووجودي، وكل ما كان يهمني في تلك الأيام أن أغادر وأجول الدنيا، وإن كانت لهوًا وعبثًا أو كان غيابًا مؤكدًا عن طقسٍ يعني بأُناسٍ من ماضٍ عَفِن، وقلت لخورخيه: سنذهب إلى كل الدنيا.

مقالات مشابهة

  •  ترجمة خطبة الجمعة لأول مرة في المسجد الحرام إلى 35 لغة
  • عوض بابكر : رحيل من لا يُعوَّض
  • الشؤون الدينية: ترجمة خطبة الجمعة لأول مرة في المسجد الحرام لـ 35 لغة
  • لأول مرة.. ترجمة خطبة الجمعة في المسجد الحرام لـ 35 لغة
  • “الشؤون الدينية”: ترجمة خطبة الجمعة لأول مرة في المسجد الحرام لـ 35 لغة
  • اعترافات فيلسوف جهادي
  • رئاسة الشؤون الدينية تعلن تنظيم الدورة الصيفية التأصيلية بالمسجد الحرام
  • الحب في زمن التوباكو (15)
  • برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء: المملكة سخرت إمكاناتها حجاج بيت الله الحرام
  • جبل ثور جنوب المسجد الحرام.. شاهد خالد على ملحمة الهجرة النبوية