والبوح في لسان اللسان : ظهور الشئ، وباح الشئ إذا ظهر، وباح به بوحاً وبؤوحاً وبؤوحة أظهره، وهو بهذه الصفة حلال وحرام، والحرام منه إفشاء الأسرار التي أنت مؤتمن عليها وغير المؤتمن عليها كذلك مما في إذاعته أضرار بأصحابه وإفساد لذات البين وزعزعة للاستقرار العام وإشاعة للفساد .
والذي أروم الوصول إليه عبر هذه السطور ما أراد به الإمام الشافعي ببيت الشعر المنسوب إليه والذي يجري علي كل لسان:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
لكن عين السخط تبدي المساويا
والعين الكليلة هي ضعيفة الإبصار والمعني مجازي هنا فهي تحتال بالتغابي وسؤ الإبصار حتي لا ينطق حاملها بالحق.
ومثله ما جاء في أبيات أبي الخطاب عمر بن أبي ربيعة التي أطاح مطلعها بسطوة البرامكة علي خلافة بني العباس :
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لايستبد
وهذا الشطر من البيت هو الذي أيقظ هارون الرشيد وأعمل في دواخله غضبة مضرية حفظت ملك آبائه لقرون طويلة وأطاحت بأحلام الفرس البرامكة في الاستحواذ علي ملك بني العباس فأعمل فيهم سيفه .
وليت الشطر ذاته يوقظ قادة نسمع غطيط نومهم عبر المسافات البعيدة ! لم يبق بعد ذلك ذكر للبرامكة سوي كرمهم من أموال الخلافة الذي خلده شاعر شمال الجزيرة بابا يصف كرم أحد وجهائها لعله النعيم ود حمد:
يا اللي أحييت سنن البرامكة
عجبني طول أيدو سامقة
يا بابا شوف…
وتغنت مغنية :
نسيبتك برمكية
وبالفعل معاها بيك إنت خصاها
والبيت موضع الاستشهاد في أبيات ابن ابي ربيعة ما جاء علي لسان تلك الحسناء
زعموها سألت جاراتها
وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتنني تبصرنني
عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقلن حسن
في كل عين من تحب!
وهو كقولنا في عاميتنا في السودان
القرد في عين أمه غزالة !
وليس الغزال كله مختص بالجمال ففي أمريكا خمسين مليونا من الغزلان جميل فيها الذي يشبه غزال الصحاري عندنا واسع العينين، رشيق دقيق الجسم. وبعض أنواعه هنا كالحمر البلدية لا تتصف بجمال.
والبوح هنا غير ما شمله التعريف المتقدم فيما يدخل في واجب الصدع بالحق الواجب علي أولي النهي من ناس ووجهاء المجتمعات الذين يعتد بما يقولون وهو صعب باهظ التكاليف وهو حرام لا في أصله في موازين الخير والجمال وروائع الخصال لكنه يستمد الحرمة من التبعات المصاحبة له والتي تتدرج من فقدان الوظيفة وغيابات الجب وربما حبال المشنقة. القادرون عليه قليلون علي مدار التاريخ الإنساني!
إذا صاح بك صنديد سوداني في ساحات الوغي: أركز! فقد قتلك مثلما فعل خادم المتنبي بسيده.
جاء في السيرة أن عتبة بن ربيعة كان من عقلاء المشركين ولم يجد ضرورة لحرب المسلمين بعد نجاة قافلة أبي سفيان وحث قريش علي العودة إلي مكة فقال أبو جهل يستفز حميته ( انتفخ والله سحره) أي ملأ الخوف صدره من مغبة القتال. قال عتبة وقد تهيأ للموت (سيعلم مصفر إسته أينا انتفخ سحره!) ثارت في نفسه حمية الجاهلية فكان في أول من قتل!
والذي يقرأ التاريخ يدرك أن الناس هم الناس من قديم تطورت أدواتهم في صنع العيش وتيسير الحياة بحيث أن السوقة والعامة يتمتعون اليوم بما لم يحلم به عظماء الملوك والأباطرة قبل قرون خلت وفي بعض الأماكن قبل عقود ! ومع ذلك ظل الخير في الناس قليل وبقيت الأثرة وحب التملك والسُكر بامتلاك القوة والجبروت والرغبة في الغلبة والإخضاع هي دوافع الحراك بين الناس وإن أدت للقتل والتقتيل والإبادة.
والذي يؤرق ضمائرنا نحن من نكتب في الشأن العام أن نحيف ونتنكب الجادة عندما تلزمنا الوقائع والأحداث بقول الحق ولو علي أنفسنا. صحيح أن اللغة العربية وربما سائر لغات البشر قد حفلت بمخارج من هذا الحرج بالتورية أحيانا أو بالمعاريض (و إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب). وفي ظلال الكلمات لا في المنطوق منها أو المكتوب. ذاك كله لا يشفي غليل الصادي العطِش لقول الحق. وهناك المصانعة:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
** يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
وهو قول الحكيم زهير بن أبي سلمي في الجاهلية . لا نغفل سياق البيت ومناسبته هنا فزهير قد مدح في معلقته الحارث بن عوف وهرم ابن سنان في سعيهما لوقف الحرب بين عبس وذبيان. والتفاوض هو أس الدبلوماسية وطريقتها في تحقيق السلام ووقف الحرب فلزم حث الطرفين علي التعقل والبعد عن المغالاة والتطرف. أي أن اللين والتلطف ليس علي أطلاق فبعضه يوقع في براثن الخنوع وتضييع الحقوق.
ومراد النفوس أهون من
أن تعادي فيه وأن تتفاني
غير أن الفتي يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
وهذه القضية هي احدي قضايا فلسفة الأخلاق وقد اشتط علم كبير هو الفيلسوف الألماني امانويل كانط عندما قال إن جاءك من يطلب بريئا في حمايتك ليقتله فلا تكذب بالقول إنه ليس هناك. وهذا شطط لا يبلغ الصدق فيه مرتبة نفس زكية أشد حرمة من الكعبة المشرفة كما جاء في صحيح الحديث.
ونحن في خضم هذا العدوان المسلط علينا من الإمارات بأيدي مليشيا قبلية متمردة لا نملك إزاءها سوي القلم نذب به عن بيضة الوطن حتي نترك لأجيالنا القادمة وطناً يعيشون علي ثراه وهناك أبطال خير منا يزودون عنه بالمهج والأرواح .
كم يشقينا هذا الصمت المطبق والخذلان والوجل من الأشقاء والأباعد عن مجرد الإدانة باللسان . ونعلم أن بعضهم يرون ويسمعون بما حاق ببلدنا ويتعاطفون بطرق يعرفونها وإن اضطرّوا للبيان والبوح تاهت الكلمات في بحر العموميات وفقدت قدرتها علي التبيان ومع ذلك نقبل ذلك آسفين فلا نسارع لنساوي بين من أنكر بقلبه فلجأ إلي التورية والمعاريض ومن يصب الزيت علي النار كلما خبت لتحرقنا . ليسوا سواء فنقبل بهذا القهر وفي جنباتنا الغصص والحسرات وما أقساها علي الحر الذي يعاف الضيم له ولغيره. ونحار من مواقف مخزية لأولئك المتعاطفين في قضايا أخري فتمسك في مقابل دعمهم الخفي المحتشم معنا ! ألا يقع هذا في مراد بيت الامام الشافعي صلب هذا الموضوع ؟ وماذا نفعل ؟ أنكسر أقلامنا وننضم لجوق الخُرص من الشياطين؟!
كتب محمد جلال كشك كتابا صغيرا عن الصحابي أبي ذر الغفاري أسماه ( أبوذر والحق المر ). ورُوي أن جبريل عليه السلام ذكره بالاسم مقرظاً للنبي صلي الله عليه وسلم فقال أو يعرف أهل السماء أباذر؟ أجاب جبريل يعرفونه أكثر من عرفان اهل الأرض له !
لله در أبي ذر ! فهل كان ضعف أبي ذر الذي ساقه النبي له سببا لعدم توليته عندما طلب الولاية لنفسه ؟ هذه النفس المتحرقة الفوارة بالحق المطلق الذي لا يحسن المصانعة تلك الصفة المحمودة عند أهل السماء؟! والمر الذي عناه محمد جلال كشك هو الذي نعانيه ونعجز عن تجرعه!
ونتساءل في نهاية المطاف هل المصانعة من الإبتلاءات المصاحبة للحياة ؟وأن النجاح في اجتيازها بما يفضي لراحة الضمير والهناء الدنيوي والخلود في عالم ما بعد الموت؟! نتمني ذلك .
اللهم اهدنا سواء السبيل!
الدكتور الخضر هارون
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
فرق الدفاع المدني تنتشر في مطار دمشق الدولي للاستجابة لأي طارئ يخص حجاج بيت الله الحرام
دمشق-سانا
قامت إدارة الدفاع المدني بنشر فرقها وآلياتها في حرم مطار دمشق الدولي وساحاته، لتقديم خدمات الإسعاف والرعاية الصحية الأولية لحجاج بيت الله في حال حدوث أي طارئ لهم.
وأكد مدير الدفاع المدني في دمشق وريفها حسن الحسان في تصريح لمراسلة سانا، أن عناصر الدفاع المدني منتشرون في ساحات المطار وعلى المدرجات، لضمان سير الرحلات على أكمل وجه، التي بدأت بالانطلاق اليوم، لتأدية مناسك الحج.
ولفت الحسان إلى أنه تم الكشف على القاعات والمدرجات وتفقدها قبل وصول الحجاج إلى المطار، لضمان إجراءات الأمن والسلامة لهم، خلال تواجدهم فيها، وتم رفد المطار بفرق الإسعاف والإنقاذ، وتزويدهم بالأجهزة الطبية والأدوية اللازمة، منعاً من حدوث أي طارئ مفاجئ.
تابعوا أخبار سانا على