الإعلان الدستوري السوري.. كيف تُبنى العدالة على أنقاض الانتهاكات؟ (3)
تاريخ النشر: 20th, May 2025 GMT
يأتي هذا النص بوصفه الجزء الثالث والأخير من قراءة قانونية خاصة لموقع "عربي21"، من إعداد الدكتور عبد العلي حامي الدين، أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس، ويُسلط الضوء على أحد المحاور الأكثر حساسية في الإعلان الدستوري السوري الجديد، وهو ملف العدالة الانتقالية.
وقد تم تبنّي هذا الإعلان في أعقاب انهيار نظام الأسد في العام 2024، في سياق سياسي وانتقالي غير مسبوق تشهده سوريا بعد أكثر من نصف قرن من الحكم الاستبدادي، ويُعد هذا الإعلان بمثابة الإطار المؤقت المنظم لمهام السلطات في المرحلة الانتقالية، بما فيها معالجة تركة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وفي هذا الجزء، يناقش الكاتب الأسس القانونية والتنظيمية لفلسفة العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة، متسائلًا عن مدى كفايتها لمواجهة تحديات المصالحة الوطنية وبناء دولة القانون.
العدالة الانتقالية مسؤولية الدولة
من الالتزامات التي تقع على عاتق الدولة بموجب الإعلان الدستوري السوري، تحقيق العدالة الانتقالية. ويعتبر هذا الموضوع من أهم المواضيع وأكثرها حساسية في مراحل الانتقال السياسي، لأنه يلامس طريقة التعاطي مع ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبت خلال مرحلة تاريخية معينة، ومعرفة حقيقتها، والكشف عن مصير الضحايا، وجبر الضرر الذي لحق بهم وبعائلاتهم، لكن الأهم هو وضع ضمانات عدم تكرار ما حصل في الماضي وإصلاح المؤسسات التي توجد في تماس مباشر مع حقوق الناس وحرياتهم، والتي كانت مساهمة في إضفاء الشرعية على الانتهاكات من اعتقالات تعسفية واختطافات وقتل خارج نطاق القانون ومحاكمات صورية تفتقد لشروط المحاكمة العادلة، ولاسيما المؤسسات المعنية بإنفاذ القانون من شرطة وجيش وأجهزة أمنية واستخباراتية مختلفة ومؤسسات قضائية، بالإضافة إلى وضع التشريعات الضامنة لحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية.. فكيف تعامل الإعلان الدستوري مع موضوع العدالة الانتقالية وما هي الفلسفة المؤطرة لحكام سوريا الجدد في هذا الموضوع؟
فلسفة العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة.. ملاحظات على الإطار القانوني
من الناحية الشكلية، تم إدراج موضوع العدالة الانتقالية ضمن باب الأحكام الختامية في مادتين اثنتين لا أكثر، وهو اختيار غير موفق بالنظر للأهمية السياسية لهذا الموضوع، وكان من الأجدر تخصيصه بباب مستقل تحت عنوان: العدالة الانتقالية، وتحديد مهامها بتفصيل أكثر.
وهكذا نصت المادة 48 على أن " الدولة ستمهد الأرضية المناسبة لتحقيق العدالة الانتقالية" من خلال:
1 ـ إلغاء جميع القوانين الاستثنائية التي ألحقت ضرراً بالشعب السوري وتتعارض مع حقوق الإنسان.
2 ـ إلغاء مفاعيل الأحكام الجائرة الصادرة عن محكمة الإرهاب التي استخدمت القمع الشعب السوري بما في ذلك رد الممتلكات المصادرة.
3 ـ إلغاء الإجراءات الأمنية الاستثنائية المتعلقة بالوثائق المدنية والعقارية والتي استخدمها النظام البائد لقمع الشعب السوري.
أما المادة 49 فقد نصت على ثلاث نقاط:
1 ـ تُحدث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء.
2 ـ تستثنى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية وكل الجرائم التي ارتكبها النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين.
3 ـ تجرم الدولة تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، ويعد إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها، جرائم يعاقب عليها القانون.
يمكن أن نسجل الإجراءات الإيجابية التي وردت في الإعلان، والمتمثلة في إلغاء جميع القوانين والإجراءات الاستثنائية ومفاعيل محكمة الإرهاب، بالإضافة إلى التعهد بتشكيل هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية. وبالفعل، وأنا أحرر هذه المقالة أصدر الرئيس أحمد الشرع المرسومين رقم 19 و20 لعام 2025، واللذين يقضيان بتشكيل "الهيئة الوطنية للمفقودين" وتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية".
إن الكشف عن الحقيقة يستلزم إثبات جسامة الانتهاكات في سياقاتها السياسية والاجتماعية وذلك عبر إجراء التحريات وتلقي الإفادات والاطلاع على الأرشيفات الرسمية واستقاء المعلومات والمعطيات من جميع المصادر بما فيها مصادر النظام السابق، وبطبيعة الحال تحديد المسؤوليات بدقة في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات؛ بما فيها الانتهاكات الغير الدولتية.وبحسب المرسوم الأول، ستكون الهيئة مستقلة ومكلفة بالبحث والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرًا، وتوثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، إضافة إلى تقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلات المفقودين، وقد عين المرسوم رئيس الهيئة، وكلفه بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال مدة أقصاها 30 يومًا من تاريخ الإعلان، كما نص المرسوم على أن تتمتع الهيئة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية.
أما المرسوم الرئاسي الثاني فيقضي بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية"، وبحسب المرسوم، ستعنى الهيئة المستقلة بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام السابق، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية، وعين المرسوم رئيسا للهيئة، وكلفه بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال مدة لا تتجاوز 30 يوماً من تاريخ الإعلان.
ونص المرسوم على أن تتمتع الهيئة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية.
الملاحظ أن الإرادة السياسية الرسمية اختارت الفصل بين موضوع الكشف عن المفقودين وموضوع العدالة الانتقالية، وهو فصل منهجي فقط واختيار يعكس ربما الرغبة في تخصيص موضوع المفقودين بهيئة خاصة، وإن كان هناك تداخل واضح في الاختصاص الموضوعي بين الهيئتين، على الأقل في نقطتين مهمتين:
الأولى: معرفة حقيقة الانتهاكات التي من مشمولاتها الكشف عن مصير المفقودين، والنقطة الثانية: جبر ضرر الضحايا، بمن فيهم عائلات مجهولي المصير.
تحديات أساسية أمام إنجاز عدالة انتقالية فعالة ومستديمة..
التحدي الأول الذي يبرز أمام مشروع العدالة الانتقالية هو تحديد المدة المشمولة بعمل الهيئتين، وهو اختيار ليس بالسهولة التي ربما يتصور البعض، فهل سيتعلق الأمر بجميع الانتهاكات التي عاشتها سوريا منذ انقلاب عام 1963 في سوريا، الذي أدى إلى وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة بقيادة حافظ الأسد، وهي السلطة التي استمرت حتى سقوط النظام في عام 2024، والذي كان يقوده ابنه بشار الأسد؟ أم إن المرحلة المعنية تشمل فقط مرحلة حكم بشار الأسد؟ أم إن موضوع العدالة الانتقالية سيقتصر على أخطر مرحلة وهي مرحلة اندلاع الثورة السورية التي تعرضت لأخطر الانتهاكات وأشدها جرما؟
التحدي الثاني يتمثل في طبيعة الجرائم المشمولة بقواعد العدالة الانتقالية، هل سيتم الاقتصار على "الجرائم التي ارتكبها النظام البائد" كما يوحي بذلك نص الإعلان الدستوري حينما استثنى "كل الجرائم التي ارتكبها النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين"، أم إن النظام الداخلي للهيئتين سيوسع تطبيق قواعد العدالة الانتقالية ليشمل كل الجرائم الممكنة بما فيها الجرائم الغير الدولتية التي يمكن أن تصدر عن مجموعات مسلحة معينة، ليست بالضرورة تأتمر بأمر النظام السابق، وذلك انسجاما مع معايير العدالة الانتقالية التي من بين أهدافها: معرفة الحقيقة كاملة، بما فيها الانتهاكات المرتكبة من طرف جماعات المعارضة، كما أن جبر ضرر الضحايا ينبغي أن يشمل جميع الضحايا بدون استثناء.
إن الكشف عن الحقيقة يستلزم إثبات جسامة الانتهاكات في سياقاتها السياسية والاجتماعية وذلك عبر إجراء التحريات وتلقي الإفادات والاطلاع على الأرشيفات الرسمية واستقاء المعلومات والمعطيات من جميع المصادر بما فيها مصادر النظام السابق، وبطبيعة الحال تحديد المسؤوليات بدقة في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات؛ بما فيها الانتهاكات الغير الدولتية.
تتضمن عملية جبر الضرر التعويض المادي والمعنوي أيضا، أي التعويض المادي عن الأضرار التي لحقت ضحايا الانتهاكات الجسيمة أو ذوي حقوقهم، بناء على معايير دقيقة وشفافة، بالإضافة إلى التأهيل النفسي والصحي والإدماج الاجتماعي، والعمل على حل كل المشاكل الإدارية والوظيفية والقانونية، والقضايا المتعلقة بنزع الممتلكات، بالإضافة إلى التكريم المعنوي للشهداء وحفظ الذاكرة التاريخية لمرحلة مؤلمة من التاريخ السوري.التحدي الثالث، وهو جبر ضرر الضحايا، وتتضمن عملية جبر الضرر التعويض المادي والمعنوي أيضا، أي التعويض المادي عن الأضرار التي لحقت ضحايا الانتهاكات الجسيمة أو ذوي حقوقهم، بناء على معايير دقيقة وشفافة، بالإضافة إلى التأهيل النفسي والصحي والإدماج الاجتماعي، والعمل على حل كل المشاكل الإدارية والوظيفية والقانونية، والقضايا المتعلقة بنزع الممتلكات، بالإضافة إلى التكريم المعنوي للشهداء وحفظ الذاكرة التاريخية لمرحلة مؤلمة من التاريخ السوري.
أما التحدي الرابع، فهو وضع الضمانات اللازمة لعدم تكرار ما حصل وهو ما يستلزم تعزيز الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان ومتابعة الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، ووضع التشريعات القانونية لتعزيز الحقوق والحريات الأساسية سواء منها التي تمارس بشكل فردي أو التي تمارس بشكل جماعي، وملاءمة التشريعات الوطنية مع الالتزامات والمعايير الدولية ذات الصلة، ووضع القوانين واللوائح التنظيمية الكفيلة بالإصلاح المؤسساتي لأجهزة الأمن والقضاء وضمان استقلالهم عن جميع وسائل التأثير والتدخل، ووضع سياسة جنائية منسجمة مع حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وإصلاح أوضاع السجون ومختلف مراكز الاعتقال ووضعها تحت مراقبة الأجهزة القضائية والبرلمانية، بالإضافة إلى بلورة برامج للتكوين والتكوين المستمر في مجال حقوق الإنسان وثقافة المواطنة والمساواة أمام القانون، وذلك لفائدة المسؤولين الأمنيين وأفراد القوة العمومية من شرطة وجيش وغيرهم.
أما التحدي الخامس والأخير، فهو معالجة إشكالية المساءلة بما يحقق مكافحة الإفلات من العقاب من جهة وتحقيق المصالحة الضرورية من جهة أخرى، وفق مقاربة مندمجة تستند إلى مقتضيات تشريعية عامة ومجردة ومتعددة الأبعاد تنسحب على جميع السوريين بغض النظر عن اختلافهم الديني والمذهبي والعرقي والإثني، تتناغم فيها وسائل المتابعة القضائية مع وسائل الوقاية والتحسيس والتثقيف والتكوين ووضع التدابير الجنائية الفعالة والشفافة والعادلة للقطع مع الإفلات من العقاب، ولاسيما تعزيز قدرة البرلمان وآلياته الرقابية اتجاه عمل السلطات المكلفة بحفظ النظام العام بما فيها الأجهزة الاستخباراتية والسلطات الإدارية المختلفة، ولاسيما منها من يتمتع باحتكار استخدام القوة العمومية، بالإضافة إلى دعم صلاحيات السلطة التشريعية كلما تعلق الأمر بادعاءات حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو حدوث أفعال ماسة أو مهددة لقيم التعددية واحترام حقوق الإنسان والتعايش السلمي داخل المجتمع.
وفي الختام
إن مشروع العدالة الانتقالية يعتمد أساسا على معرفة الحقيقة وجبر ضرر الضحايا ووضع ضمانات عدم التكرار عبر إجراءات وتشريعات صلبة من شأن اعتمادها بعث الطمأنينة والإحساس لدى المجتمع بانطلاق عهد جديد خال من الأحقاد والإقصاء، والأهم نسيج اجتماعي خالي من روح الانتقام والعنف والشعور بعدم المساواة أمام القانون، لكن الهدف الأسمى من تحقيق العدالة الانتقالية هو إنجاز مشروع المصالحة الوطنية الخادم للاستقرار السياسي والاجتماعي وتأمين مرحلة الانتقال السياسي والديموقراطي من أجل العبور إلى دولة المؤسسات التي تحترم حقوق المواطنين والمواطنات وفق رؤية مستقبلية لا ترتكن إلى المساءلة الجنائية وحدها، وإنما تستند على مبادئ الصفح والتسامح بموجب اتفاقيات تراضٍ أو دفع الدية أو الاعترافات والاعتذارات العلنية كبديل للعقوبات الجزائية، وذلك استلهاما من بعض التجارب الناجحة على غرار تجربة جنوب إفريقيا على عهد المناضل الراحل نيلسون مانديلا.
*أستاذ القانون الدستوري بجامعة محمد الخامس
إقرأ أيضا: الإعلان الدستوري.. قراءة تحليلية لفلسفة السلطة في سوريا الجديدة (1)
إقرأ أيضا: الإعلان الدستوري السوري.. قراءة تحليلية لفلسفة السلطة في سوريا الجديدة (2)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير السورية سورية اعلان دستوري رأي محددات أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإعلان الدستوری السوری الانتهاکات الجسیمة فی سوریا الجدیدة النظام السابق النظام البائد لحقوق الإنسان حقوق الإنسان بالإضافة إلى جبر الضرر بما فیها الکشف عن على أن بما فی
إقرأ أيضاً:
هيئة للعدالة الانتقالية.. هل تمهّد لمسار مصالحة حقيقي بسوريا؟
دمشق- أصدرت الرئاسة السورية، السبت الماضي، مرسوما -رقم (20)- يقضي بتشكيل هيئة مستقلة باسم "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" تُعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وتحقيق المصالحة الوطنية وترسيخ مبادئ عدم التكرار.
ووفق نص المرسوم، فقد عُيّن عبد الباسط عبد اللطيف رئيسا للهيئة، وكُلف بتشكيل فريق العمل ووضع نظامها الداخلي خلال مدة لا تتجاوز 30 يوما، على أن تتمتع الهيئة بـ"الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية".
في حديث للجزيرة نت، اعتبر المحامي والخبير القانوني عبدو فاروق عبد الغفور أن إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية يشكل خطوة قانونية مهمة جدا، يمكن وصفها بأنها بداية لمسار إصلاحي مؤسسيّ يعكس نيات جدية لإحداث تغيير قانوني.
دلالة إيجابيةورأى المحامي عبد الغفور أن الإطار القانوني الذي أُنشئت بموجبه يحمل دلالة إيجابية، لكنه ما يزال بحاجة إلى تطوير ليتماشى مع المعايير الدولية المعتمدة في تجارب العدالة الانتقالية حول العالم. وأوضح أن "الفكرة بحد ذاتها ضرورية للحد من الثأر الشخصي، وبناء منطق قانوني جامع".
إعلانوحول ما إذا كان المرسوم يضمن استقلال الهيئة بشكل فعلي، قال إنه نص صراحة على ذلك، وهو مؤشر جيد من الناحية القانونية، مشيرا إلى أن التحدي الحقيقي يكمن في التطبيق العملي، وإلى ضرورة تحصين هذا الاستقلال مؤسسيًا، ومنع تدخل أي جهة تنفيذية في عمل الهيئة "حتى لا نعود إلى دوامة الخلط بين السلطات كما كان سائدا في عهد النظام المخلوع".
وأكد ضرورة أن تُمنح الهيئة صلاحيات واسعة تشمل التحقيق، والوصول إلى المعلومات، والتوصية بالإصلاحات. وقال إن بعض هذه الصلاحيات وردت بالفعل في المرسوم، بينما يحتاج بعضها الآخر إلى توضيح وتعزيز، مشددا على ضرورة إشراك قضاة ومحامين يتمتعون بالنزاهة والشفافية ضمن آليات عملها.
واعتبر المحامي عبد الغفور أن توقيت تشكيل الهيئة يحمل رمزية بالغة للسوريين، خاصة بعد سنوات من انتهاكات النظام الأمني، وأنه يمكن قراءة الخطوة كرسالة سياسية نحو الانفتاح والتهدئة وإعادة التوازن الاجتماعي قبل القانوني. وأضاف أن السياق الإقليمي يشجع عليها في ظل تأكيد دولي متكرر على أهمية العدالة الانتقالية لضمان عدم انزلاق سوريا نحو "اقتتال أهلي، نظرا لتعدد مكوناتها الدينية والعرقية".
وعن مدى قدرة الهيئة على ترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع، قال إن الأمر مرهون بمدى جدية التفعيل، مشددا على ضرورة إشراك الضحايا وذوي المغيبين قسريا والمهجرين ومصابي الحرب، ومنظمات المجتمع المدني، لضمان تحقيق نتائج ملموسة تعزز الثقة بالقانون بعد سنوات من الفوضى الأمنية والعسكرية.
ضمانات قانونيةوبشأن استعداد الأطراف المختلفة للتعاون مع الهيئة، خاصة إذا طالت التحقيقات شخصيات نافذة، رأى المحامي عبد الغفور أن النجاح في هذا الجانب يعتمد على "إدارة الملف بذكاء قانوني" يضمن شمولية العدالة دون استثناءات.
وأكد أن وجود ضمانات قانونية ونزاهة في المعالجة، ومنح أعضاء الهيئة حصانة قانونية حقيقية، قد يسهم في تحقيق تجاوب حتى من شخصيات حالية متهمة، قائلا "المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ويجب أن يكون القانون كالمنشار، لا يستثني أحدا".
إعلانوجاء تشكيل الهيئة استنادا إلى الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية، وأحكام الإعلان الدستوري، وإيمانا بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية بوصفها ركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضمانا لحقوق الضحايا، وتحقيقا للمصالحة الوطنية الشاملة، وفقا لما ورد في نص المرسوم.
بالمقابل، قال الخبير الحقوقي أحمد جمجمي للجزيرة نت إن الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية كان من الممكن أن تضمن إشراك الضحايا وذويهم بشكل فعلي، إلا أن ذلك لم يحدث بالشكل المطلوب. وأوضح أن المرسوم منح رئيس الجمهورية صلاحية تشكيل الهيئة وكان من المفترض أن يستغلها بالتواصل مع روابط الضحايا والناجين ومنظمات المجتمع المدني، وأن يضمن تمثيلهم الواضح ضمن نص المرسوم ذاته.
وحسب جمجمي، فإن آليات جبر الضرر يجب أن تأتي بعد كشف الحقيقة وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات، مضيفا "من الضروري أن يشمل ذلك الحجز على أموال الجناة المنقولة وغير المنقولة، وتغريمهم لصالح الضحايا. وكان من الأفضل أن يتم إشراك المفوضية السامية لحقوق الإنسان في عملية تشكيل الهيئة، وأن يتم تأسيس صندوق خاص بالعدالة الانتقالية في سوريا، لتعويض المتضررين ماديا ومعنويا".
وأعرب عن قلقه مما اعتبره "محدودية قدرة الدولة السورية" على تحمل أعباء التعويض بمفردها، مؤكدا أن عدد الضحايا يُقدّر بمئات الآلاف، وغالبية الجناة إما لا يملكون أموالا أو هربوا خارج البلاد، مما يستدعي -برأيه- إشراك الأمم المتحدة، وخاصة المفوضية، في إنشاء صندوق دولي لتعويض الضحايا.
تحدياتوبشأن التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية، قال الخبير جمجمي إن ضياع الأدلة يُعد من أكبر العقبات، كما أن العبث بها خلال تحرير المقرات الأمنية والسجون مثل صيدنايا، أدى إلى فقدان وثائق مهمة وأجهزة كمبيوتر كانت تحتوي على أرشيف الأدلة.
وشدد على أن مسار العدالة الانتقالية في سوريا لا يمكن أن يكتمل دون أن يشمل جميع الضحايا. كما أكد على ضمان وجود آليات دولية مستقلة تشرف على عملية كشف الحقيقة وجبر الضرر.
إعلانوطالب الكثير من السوريين الحكومة بالإسراع في إعادة حقوقهم المسلوبة وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم، من بينهم محمد المعروف من ريف إدلب حيث "هُدم منزله وتم قطع 300 شجرة زيتون في أرضه من قبل ورشات تتبع لأحد شبيحة النظام السابق".
ويقول المعروف للجزيرة نت إن هذا المسؤول السابق والورشات العمالية التي جلبها معه، هدمت أسقفًا وسلبت أملاكًا بمئات ملايين الدولارات من ريف حماة الشمالي والغربي وريف إدلب الجنوبي والشرقي وريف حلب الغربي، و"هذا مثال صغير عن ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بحق كل من ساهم في مأساة الشعب السوري".
وأكد "أريد تعويضا من كل من شارك وأعطى أمرا بخسارتي لبيتي وأرزاقي، سوف أرفع عليهم دعوى قانونية بعد تشكيل الهيئة الجديدة لأحصل على تعويض منهم".